المصدر: Getty
مقال

هل يبحث بنيامين نتنياهو عن مخرجٍ ما عبر لبنان؟

قد يحذو رئيس الوزراء الإسرائيلي حذو ياسر عرفات للخروج من مأزقه السياسي الشديد.

نشرت في ١٥ نوفمبر ٢٠٢٣

نقلت مصادر أن وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن أجرى محادثةً مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت، أعرب فيها عن قلقه حيال خطورة دور إسرائيل في تصعيد التوتر العسكري على الحدود مع لبنان، متخوّفًا من أن يسفر ذلك عن اندلاع حرب إقليمية. وحُريٌّ به أن يقلق. حتى الآن، ما من ضرورة استراتيجية تُملي على إسرائيل توسيع رقعة الصراع الدائر في غزة، لكن المنطق السياسي الذي يسيّر سلوك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يجعل من استمرار هذا الصراع وتصعيده ليشمل جبهات أُخرى بمثابة خياره التلقائي. وهذا ما يشكّل في الواقع خطرًا حقيقيًا على الجميع.

منذ الهجوم الذي نفّذته حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، أظهر نتنياهو في مناسبات كثيرة اندفاعه نحو السياسات الارتجالية غير المحسوبة. فقد حمّل قادةَ المؤسسة الأمنية الإسرائيلية مسؤولية الفشل الذريع الذي مُنيت به سياساته السابقة تجاه حماس، وذلك في تغريدة كتبها على موقع "إكس" وحذفها لاحقًا، لكن ليس قبل بلوغ الرسالة جمهوره المحلّي المقصود. كذلك، أدلى بتصريح يوم 28 تشرين الأول/أكتوبر مخاطبًا الجنود الذين كانوا يستعدّون لدخول غزة، قائلًا: "عليكم بتذكُّر ما فعله العماليق بكم". في خضمّ المشهد السياسي الراهن، إن استشهاد نتنياهو بنصٍّ من التوراة يحثّ على الانتقام من العماليق الذين هاجموا اليهود العزَّل في الصحراء يحيلُ المستمعين ضمنيًا إلى آية أخرى مرتبطة بما قاله، وهي: "فاذهبوا الآن واضربوا بني عماليق، وأهلكوا‌ جميع ما لهم ولا تعفوا عنهم، بل اقتلوا الرجال والنساء والأطفال والرضَّع والبقر والغنَم والجمال والحمير". وتوقّع نتنياهو لاحقًا أن تتولّى إسرائيل إلى أجل غير مسمّى المسؤولية الأمنية الشاملة في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، إلّا أن غالانت ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن نفَيا أن يكون ذلك في الواقع هدفًا رسميًا من أهداف هذه الحرب.

لكن كل هذا لا يعني بتاتًا غياب أي منطق أو اتّساق ضمن هذه المجموعة غير المترابطة من التصريحات الصادرة عن نتنياهو وتغريداته على وسائل التواصل الاجتماعي. بل بالأحرى، يسعى نتنياهو من خلالها إلى تحقيق هدفَين هما: أولًا، تأخير اللحظة التي سيخضع فيها إلى المساءلة أمام الرأي العام الإسرائيلي نتيجة إخفاق السياسات التي انتهجها لفترة طويلة: أي وعوده بتحقيق الأمن والاستقرار لإسرائيل، في ظل الإمعان في حصار غزة وإفقارها، وتوسيع بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وثانيًا، إبقاء شركائه اليمينيين المتطرّفين في الائتلاف الحاكم قريبين منه، واستمالة الناخبين اليمينيين لضمان دعمهم له متى تحين ساعة الحساب. فإذا مكّنوه من البقاء في رئاسة الحكومة، سيواصل تمتّعه بالحصانة للإفلات من المحاكمة بتُهم الفساد، وهذا ما سعى إلى تحقيقه من خلال خطط الإصلاح القضائي المثيرة للجدل التي بدأها ائتلافه اليميني منذ مطلع العام 2023 .

وعلى حدّ تعبير الصحافي الإسرائيلي المخضرم آموس هاريل: "حتى في خضمّ الحرب الأهم التي تشهدها البلاد منذ خمسين عامًا، فإن رئيس الوزراء مُنشغلٌ في المقام الأول، وأكثر أي أمرٍ آخر، بنفسه وبإنقاذ مستقبله السياسي المتزعزع". يتّضح إذًا أن لنتنياهو مصلحة سياسية في الحفاظ على زخم العمليات العسكرية في غزة، ولهذا السبب رفض مرارًا وتكرارًا الدعوات إلى وقف إطلاق النار وإرساء هدنٍ للدواعي الإنسانية. وما لا يقلّ مدعاةً للقلق، في حال تحوّلت عمليات تبادل إطلاق النار المستمرة بين حزب الله والقوات الإسرائيلية عبر الحدود اللبنانية إلى مواجهة واسعة النطاق، أن ذلك لن يحدث بسبب قرار يتّخذه حزب الله أو إيران، اللذان يسعيان إلى احتواء التصعيد وإبقائه ضمن حدوده الحالية، ولكن لأن نتنياهو يشعر أن بقاءه السياسي يقتضي تصعيدًا على هذا النطاق.

يستعير نتنياهو، من خلال اعتماده التصعيد خيارًا تلقائيًا، تكتيك "الهروب إلى الأمام" الذي أتقنه خصمه اللدود الراحل ياسر عرفات، الرئيس السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. كتبتُ عن عرفات آنذاك أن هروبه إلى الأمام أتى ردًّا على اندلاع الانتفاضة الثانية وقيام بعض الفلسطينيين بحمل السلاح في العام 2000. وهذا التكتيك لم ينمّ عن استراتيجية مسبقة، بل جاء نتيجة انعدام الاستراتيجية أو الهدف الواضح. فقد استغل "حدثًا دراماتيكيًا افتعلته جهة خارجية من أجل التعتيم على مأزق استراتيجي والهروب منه، ثم سعى إلى تكثيف ذلك الحدث وإطالة أمده من أجل ’السيطرة على الأزمة‘ واستدراج نتيجةٍ تصبّ في صالحه في نهاية المطاف... فقد تمثّل ردّ الفعل الغريزي لعرفات في الاحتفاظ بهذه الورقة التي اقتضت عمليًا سقوط حصيلة يومية من القتلى".

لا شك في أن أنصار الرجلَين سوف يعتبرون ذلك إهانة، ولكن ما ذكرت عن عرفات ينطبق أيضًا على نتنياهو. تكشف وضعية نتنياهو الخطابية (المدعومة بأعداد كبيرة من الصور التي يلتقطها مع الجنود) عن اعتقادٍ لديه بأن التكاليف السياسية التي يمكن أن تترتّب داخليًا عن تبديل المسار الراهن لحكومته، والمتمثّل، في نظر المسؤولين في إدارة بايدن، بشنّ عمليات عسكرية على غزة من دون استراتيجية خروج متّسقة، أعلى بكثير من تكاليف مواصلة المسار الحالي. والإسرائيليون الذين يعتبرون أن انعدام التفكير السياساتي الواضح ليس مهمًّا طالما أن القوات الإسرائيلية تشنّ حملةً للقضاء التام على حماس، لا يفقهون جيّدًا عواقب الخيار التلقائي الذي يعتمده نتنياهو. ويتجلّى ذلك بأوضح صوره في سياسته القائمة على تركيز توظيف الموارد الحكومية والقسم الأكبر من وحدات الجيش لتوسيع وحماية المشروع الاستيطاني الذي يزداد عدائيةً وعنفًا في أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، وقد دفع المدنيون الإسرائيليون في غلاف غزة باهظًا ثمن هذه السياسة يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.

في ضوء الأحداث الراهنة التي تتوالى فصولًا في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وفيما يتمحور هدف نتنياهو في المدى القصير حول تأمين بقائه السياسي، يبدو أن هدف الاحتفاظ بمنصبه في المدى الأبعد هو استراتيجي وراسخ. فهو يساهم، من خلال تعميم الخطاب اليميني والقومي المتطرّف، في ترسيخ الاقتناع بأن إسرائيل يتعيّن عليها - والأهم من ذلك، أنها تستطيع - بسط سيطرتها على كافة الأراضي الفلسطينية بهدف تحويلها، بطريقة نهائية لا رجوع عنها، إلى أرض إسرائيل من "النهر إلى البحر". وهكذا فإن نتنياهو، ومن خلال سياسة الهروب إلى الأمام في وجه أزمته السياسية الراهنة، يحجب عن أنظار الرأي العام الإسرائيلي واقع أنه عاجزٌ عن التوفيق بين عزمه على جعل الدولة الفلسطينية مستحيلة، وبين وعوده بتحقيق السلام والأمن الكاملَين للإسرائيليين. وهذا يقع في صميم خياره التلقائي.

سواء عُزِل تنياهو من منصبه في نهاية المطاف أو خرج منتصرًا من معركته السياسية الداخلية، لا شكّ من أنه سيفاقم الانقسام الحادّ في بلاده بشكل كبير، وسيطلق بذلك أيدي حلفائه اليمينيين ليصبحوا أكثر صداميةً بعد مع المواطنين الآخرين، أكانوا من الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية وعددهم مليونا نسمة، أو من اليهود المعارضين. هذا ويتجلّى العنف الاستيطاني الذي تشهده راهنًا الضفة الغربية، أيضًا على الجانب الآخر من حدود العام 1967، أي داخل إسرائيل. ربما تؤدّي معركة نتنياهو من أجل البقاء في منصبه إلى تعزيز نفوذ شركائه اليمينيين بحيث لا يعود قادرًا على تقديم نفسه للأحزاب الإسرائيلية الأكثر وسطيةً، أو للحكومات الغربية، باعتباره حصنًا معقولًا في وجه مدّ اليمين المتطرّف. فهذا الجناح سوف يصبح قويًّا جدًّا، وسيميل ميزان القوى لصالحه، على حساب نتنياهو.

حين أصبح عرفات أسيرَ خياره التلقائي، بات عالقًا بالمعنيَين الحرفي والمجازي. فقد أحكمت عليه القوات الإسرائيلية الحصار داخل مجمّعه الرئاسي في رام الله منذ منتصف العام 2002 وحتى وفاته في تشرين الثاني/نوفمبر 2004. وفي غضون ذلك، صوّت المجلس التشريعي الفلسطيني على تقييد صلاحياته، والأهم من ذلك، فرضت خارطة الطريق للسلام التي أصدرتها اللجنة الرباعية بقيادة الولايات المتحدة في العام 2003، قيودًا إضافية على التقدم نحو إقامة الدولة الفلسطينية من خلال اشتراط إجراء إصلاحات داخلية وضمان أمن إسرائيل. ولكن جميع هذه المعطيات لم تنجح في دفع عرفات إلى التخلّي عن خياره التلقائي.

لا يزال نتنياهو بعيدًا جدًّا عن ساعة حسابٍ كهذه، ولكنه محاصر بالمثل. فربما كان الهدف من إرسال إدارة بايدن مساعدات عسكرية كبيرة إلى شرق المتوسط هو ردع حزب الله (وإيران) عن توسيع رقعة الحرب الدائرة في غزة، وكذلك ثني الحكومة الإسرائيلية عن شنّ عمليات عسكرية خارج نطاق القطاع. ولكن قد يكون لهذه الخطوة مفعول معاكس في الواقع، وهو تشجيع نتنياهو على الاعتقاد بأن التصعيد العسكري في الشمال هو خياره – التلقائي – الأرخص كلفة.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.