المصدر: Getty
مقال

العقاب الجماعي بحق العمّال الفلسطينيين

شكّل الغزّاويون الذين يحملون تصاريح للعمل في إسرائيل أداةً للتهدئة في يد الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنهم لا يزالون يتعرّضون للإساءة حتى اليوم.

نشرت في ١٦ نوفمبر ٢٠٢٣

أعلنت إسرائيل يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر إطلاق سراح آلاف العمّال من غزة، الذين كانوا في إسرائيل حين نفّذت حماس هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. وكانت السلطات الإسرائيلية قد اعتقلتهم سرًّا إثر اندلاع الحرب على غزة، على الرغم من أنهم حملة تصاريح عمل إسرائيلية.

مع أن محنة هؤلاء العمّال لم تحظَ باهتمامٍ كبير في وسائل الإعلام خلال الأسابيع الأولى من الحرب، واقع الحال هو أن سياسة إسرائيل تجاههم تُعدّ امتدادًا لسياستها الأوسع حيال العمّال الفلسطينيين منذ العام 1967. فقد استخدمتهم إسرائيل كأداةٍ للتهدئة في إطار جهودها الرامية إلى إدارة الفلسطينيين واحتوائهم وتثبيت استقرار حكمها في الأراضي المحتلّة، لكنها في الكثير من الأحيان تعاملت معهم كعمّال يسهل الاستغناء عنهم، وأخضعتهم إلى سياسة العقاب الجماعي نفسها التي تنتهجها بحقّ الفلسطينيين.

منذ أن احتلّت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة عقب الحرب العربية الإسرائيلية في حزيران/يونيو 1967، تمثّلت إحدى الركائز الأساسية لسياستها تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلّة في دمج اقتصادها مع اقتصاد إسرائيل، خصوصًا من خلال جعله مُعتمدًا على الاقتصاد الإسرائيلي. وقد لخّص موشيه ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي خلال حرب حزيران/يونيو 1967، بوضوح هذه العلاقة المتصوَّرة بين الاقتصادَين، مشيرًا إلى أن الأراضي المحتلّة ستؤمّن "سوقًا مكمِّلة للسلع والخدمات الإسرائيلية من جهة، ومصدرًا لعناصر الإنتاج، ولا سيما اليد العاملة غير الماهرة التي يحتاجها الاقتصاد الإسرائيلي، من جهة أخرى". وبالفعل، شكّل اعتماد اليد العاملة الفلسطينية على إسرائيل جانبًا رئيسًا من جوانب العلاقة الاقتصادية بين الأراضي المحتلة وإسرائيل على مدى العقود التالية. فبين العامَين 1967 و1990، عملت نسبة تتراوح من 35 إلى 40 في المئة من القوة العاملة الفلسطينية في إسرائيل، وشغلت على وجه الخصوص وظائف متدنّية الأجر.

ثمة عوامل اقتصادية وسياسية عدةّ دفعت إسرائيل إلى دمج العمّال الفلسطينيين في سوق عملها وزيادة اعتمادهم عليها. فعلى المستوى الاقتصادي، كانت إسرائيل تواجه نقصًا في اليد العاملة، ما عرّض ازدهارها الاقتصادي في فترة ما بعد الحرب للخطر، فيما ضمّت الأراضي المحتلّة أعدادًا كبيرة من العمّال العاطلين عن العمل، نظرًا إلى أن نصف العمّال هناك تقريبًا فقدوا وظائفهم خلال السنوات الأولى من الاحتلال. إذًا، رأت إسرائيل في العمّال الفلسطينيين يدًا عاملة رخيصة، ولا سيما أنهم يتولّون في الغالب وظائف ذات مهارات منخفضة في قطاعات كانت تعاني من قلّة اليد العاملة الإسرائيلية فيها.

والأهم من ذلك، اعتبرت إسرائيل أن البطالة في صفوف الفلسطينيين تشكّل مصدرًا محتملًا للمعارضة وانعدام الاستقرار، وأن دمج العمّال الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية هو وسيلة لتحسين معيشتهم من جهة، وزيادة اعتمادهم على سوق العمل الإسرائيلية كمصدرٍ أساسي لتأمين الدخل. وكان المنطق خلف هذا التفكير هو أن حرمان الفلسطينيين سيؤدي إلى اشتداد المعارضة لإسرائيل، في حين أن تحقيق الازدهار الاقتصادي وربط دخل الفلسطينيين بإسرائيل قد يسهمان في ثنيهم عن دعم أنشطة المقاومة، ما من شأنه توطيد استقرار الحكم الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.

ومنذ ذلك الحين، أصبح اعتماد اليد العاملة الفلسطينية على إسرائيل سمةً أساسية في الديناميكيات الاقتصادية القائمة بين الأراضي المحتلّة وإسرائيل. ولكن، مع أن إسرائيل كانت تعتبر العمّال الفلسطينيين عاملًا أساسيًا في سياستها الرامية إلى إدارة الفلسطينيين واحتوائهم، ظلّت تعاملهم كعمّال يسهل الاستغناء عنهم. فكانوا يتعرّضون للاستغلال على أيدي أصحاب العمل الإسرائيليين، بسبب محدودية قدرتهم على اللجوء إلى القضاء وافتقارهم إلى التأمين الصحي، على الرغم من عملهم في قطاعات عالية المخاطر (مثل البناء والتصنيع) يرتفع فيها احتمال التعرّض إلى حوادث عرضية.

واصل الإسرائيليون اعتماد هذه السياسة ذات الوجهَين تجاه العمّال الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة بعد توقيع اتفاقيات أوسلو في العام 1993. ففي أعقاب فرض نظام الإغلاق الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة في مطلع التسعينيات، تعيّن على العمّال الفلسطينيين الحصول على تصاريح عمل للدخول إلى سوق العمل الإسرائيلية، الأمر الذي كان مشروطًا بالحصول على موافقة أمنية إسرائيلية. وأتاح هذا النظام لإسرائيل إحكام قبضتها على الفلسطينيين من خلال استخدام التصاريح كأداةٍ تأديبية لمعاقبتهم عند مقاومتهم إسرائيل من جهة، ومكافأتهم عند امتثالهم والتزامهم "الهدوء" من جهة أخرى.

وهكذا، بعد سيطرة حماس على غزة في العام 2007، وفرض إسرائيل حصارًا بريًا وبحريًا وجويًا على القطاع، شدّدت السلطات الإسرائيلية بشكل كبير القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع من القطاع وإليه. ومنذ ذلك الحين ووصولًا إلى العام 2014، حظّرت إسرائيل دخول العمّال من غزة إلى نطاقها. لكن في أواخر العام 2014، سمحت بشكل غير رسمي بدخولهم مجدّدًا، لكن وفق نسبٍ محدودة جدًّا بموجب "تصاريح التجار".

ولم تغيّر إسرائيل سياستها حتى أواخر العام 2021، حين بدأت من جديد بإصدار تصاريح عمل للعمّال من غزة، وصل عددها عشية اندلاع الحرب الراهنة إلى نحو 18,500 ترخيص. وشكّل ذلك جزءًا من سياسة إسرائيلية أوسع هدفها "إنعاش الوضع الاقتصادي" في غزة، من خلال تحسين مستوى معيشة سكان القطاع للحفاظ على "الهدوء" وتجنُّب انفجار الأوضاع بسبب الظروف الاقتصادية المزرية. فعلى حدّ تعبير وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني غانتس، إن "الهدوء يعتمد... على الاستمرار في التوجّه القائم على زرع الأمل الاقتصادي".

وقد كان هؤلاء العمّال أول من استُهدِف بسياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر. ففي العاشر من الشهر نفسه، سحبت السلطات الإسرائيلية جميع تصاريح العمل من العمّال الغزّاويين، فأصبح وجودهم في إسرائيل غير قانوني. ثم أقدمت على اعتقال الآلاف منهم "بصورة سرية وغير قانونية"، ونقلهم إلى مراكز الاحتجاز بشكل تعسّفي، رافضةً الإفصاح عن أسمائهم وأماكن تواجدهم.

واقع الحال هو أن جميع هؤلاء العمّال كانوا في إسرائيل بصورة قانونية يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وسبق أن خضعوا لتدقيق أمني شامل. وهذا يعني أن إسرائيل احتجزتهم واستهدفتهم لأنهم من غزة فقط لا غير. وذكر مركز "مسلك" الإسرائيلي المعني بالشؤون القانونية أن الظروف داخل مراكز الاحتجاز كانت غير إنسانية، إذ تعرّض العمّال إلى ضروب العنف الجسدي الشديد والإساءة النفسية، فضلًا عن التعذيب والإذلال. وقد توفّي عاملان وهما في عهدة إسرائيل، وجرّد الجنود الإسرائيليون جميع المعتقلين من أموالهم وهواتفهم.

لم تتوقّف سياسة العقاب الجماعي التي انتهجتها إسرائيل بحقّ عمّال غزة عند هذا الحدّ. ففي مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، أفرجت السلطات الإسرائيلية عن آلاف العمّال الذين كانت قد اعتقلتهم، وأعادتهم إلى غزة سيرًا على الأقدام بعد أن كانت جرّدتهم من ممتلكاتهم. وشكّل ذلك بمثابة حكمٍ فعليٍّ بالإعدام لهم، نظرًا إلى حملات القصف المستمرة التي تشنّها إسرائيل على القطاع.

ترمز المحنة التي واجهها عمّال غزة إلى الصعوبات التي يقاسيها الفلسطينيون منذ 75 عامًا، والذين أُرغموا على تحمّل شتّى أشكال القمع والإذلال والاستغلال، والعيش تحت المراقبة، في ظلّ ظروف غير آمنة. ينبغي إذًا أن تشكّل هذه الحادثة تذكيرًا آخر بضرورة أن تنهي إسرائيل السياسات التي تنتهجها في غزة منذ ردحٍ طويل من الزمن، وأن تضع حدًّا لنظامها القائم على الظلم والتمييز.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.