بعد النجاح الذي حقّقته حماس على المستوى العملياتي يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، باتت إيران ومعها حزب الله في وضعٍ لا يُحسَدان عليه فيما يحاولان قياس كيفية الردّ على القتال المتواصل مع إسرائيل. فإذا دخلا المعركة بكامل قوتهما، قد يحدث تصعيدٌ سريع في وتيرة الصراع ليتحوّل إلى حرب إقليمية أوسع، وربما حتى إلى نزاع عالمي. وفي المقابل، إذا حافظا على انكفائهما عن دخول حرب شاملة، قد يقوّضان استراتيجية "وحدة الساحات" التي سعَيا من خلالها إلى تعزيز التنسيق بين الفصائل المُنضوية تحت لواء ما يُسمّى محور المقاومة الذي يضمّ حزب الله، وحماس، وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، والميليشيات الموالية لإيران ضمن قوات الحشد الشعبي، وجماعة أنصار الله المعروفة بالحوثيين في اليمن.
عبّر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن هذا القلق في الكلمة التي ألقاها يوم الجمعة الفائت. فهو أثنى على عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر، موضحًا أن قرارها وتنفيذها كانا فلسطينيَّين مئة في المئة، ومُعربًا عن تضامنه الكامل مع الفصائل المسلحة الفلسطينية. لكن نصر الله امتنع عن توسيع رقعة الصراع مع إسرائيل. وفي ظلّ الانتقادات التي وجّهها بعض قادة حماس لحزب الله لعدم قيامه بخطوات أكثر، أوضح نصر الله بأن العمليات التي ينفّذها الحزب على طول حدود لبنان الجنوبية تسهم في التخفيف من وطأة الضغط الإسرائيلي على حماس. ومع أن نطاق المعارك لا يزال مضبوطًا نسبيًا حتى الآن، ألمح نصر الله إلى إمكانية أن تتدحرج هذه الجبهة إلى تصعيد إضافي يكون مرهونًا بأمرَين هما: مسار الأحداث في غزة، وسلوك إسرائيل تجاه لبنان. كذلك، ذكّر نصر الله مستمعيه بأن إسرائيل أُرغِمت في الكثير من الأحيان على التراجع عن أهداف عالية طرحتها، كما حدث في حرب العام 2006 حين اضطُرّت إلى القبول بتبادل الأسرى بعد أن شنّت حملة قصف على لبنان استمرّت 33 يومًا، كان هدف إسرائيل الأساسي منها هو القضاء على حزب الله.
لقد أمضت إيران الجزء الأكبر من العقود الأربعة الماضية في بناء شبكات نفوذ موالية لها في المنطقة، وفي تشكيل مظلّات ردع متتالية حول إسرائيل، بدءًا من حزب الله الذي تأسّس في الفترة بين 1982 و1984، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي اضطرّت على إثره منظمة التحرير الفلسطينية إلى الخروج من بيروت. استثمرت إيران إذًا الكثير من الوقت والجهد، فضلًا عن مليارات الدولارات، لبناء شبكة تضم حلفاء ووكلاء لها في مختلف أرجاء الشرق الأوسط، مُستفيدةً من الفرص السياسية المتاحة ومن الفراغ الأمني القائم لإنشاء أو دعم مجموعة من القوى المسلحة ضمن محور المقاومة.
ومنذ فترة ليست ببعيدة، سنحت لإيران فرص جديدة بعد توقيع الاتفاقات الإبراهيمية بين إسرائيل وثلاث دول عربية هي تحديدًا الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب. عرضت هذه الاتفاقات التي توسّطت فيها الولايات المتحدة واعتُبرت بمثابة ركيزة من ركائز نظامٍ أمني واقتصادي جديد في الشرق الأوسط، تطبيعَ العلاقات مع إسرائيل من دون أن تأتي على ذكر فلسطين أو الفلسطينيين. فقوّضت بذلك القرارَين 242 و338 الصادرَين عن مجلس الأمن، فضلًا عن مبادرة السلام العربية للعام 2002، وكلها تستند إلى مبدأ الأرض مقابل السلام. فبات الفلسطينيون من دون دعم سياسي من بلدان المنطقة. وكان اتفاق السلام بين السعودية وإسرائيل لا يزال قيد التفاوض عند وقوع هجمات حماس يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وكان سيدقّ المسمار الأخير في نعش تطلّعات الفلسطينيين نحو تقرير مصيرهم.
ما كان من إيران، ومعها حزب الله، إلّا أن بادرا لملء الفراغ القائم، فاستَعادا علاقتهما بحماس بعد نحو عقدٍ من الجفاء بسبب معارضة حماس لنظام الأسد، وهو حليف إيران، خلال سنوات الثورة السورية. وعند حدوث التقارب السعودي الإيراني في وقتٍ سابق من هذا العام، بدا أن محور المقاومة يحظى ضمنيًا وعمليًا بقبول الرياض. وفي الوقت نفسه، كانت إيران تجري محادثات مع إدارة بايدن، أبرم على إثرها الجانبان صفقة في شهر أيلول/سبتمبر أفضت إلى الإفراج عن عددٍ من المواطنين الأميركيين الذين كانوا مُحتجَزين لدى طهران، مقابل موافقة واشنطن على رفع التجميد عن 6 مليارات دولار من الأصول الإيرانية في مصارف كوريا الجنوبية.
عمومًا، كانت الأمور تسير بصورة إيجابية لإيران، إلا أن النجاح العملياتي الذي حقّقته حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر قد عرّض ربما هذه المكتسبات للخطر. فبات على طهران وحزب الله اليوم أن يوازنا ما بين الحفاظ على وحدة محور المقاومة، والتخفيف من وطأة الضغط الإسرائيلي على حماس في غزة، مع تجنّب توسيع رقعة الحرب التي قد تشكّل تهديدًا مباشرًا للأصول الإيرانية في الشرق الأوسط. واقع الحال هو أن الصراع بدأ بالفعل يكتسي ملامح إقليمية، إذ عمد حلفاء إيران إلى إطلاق الصواريخ على إسرائيل من جبهات اليمن والعراق وسورية ولبنان، فيما قُصِفَت القواعد الأميركية في سورية والعراق نحو 60 مرّةً على مدى الأسابيع الثلاثة الفائتة. ثم إن تصاعد إراقة الدماء في جنوب لبنان يدلّ ربما على أن احتمالات احتواء الصراع آخذةٌ في التضاؤل.
يمكن أن يتّخذ هذا التصعيد أشكالًا مختلفة، إذ قد تكثّف إيران وحزب الله وإسرائيل عمليات القصف التي تنفّذها يوميًّا، وترسانة الأسلحة التي تستخدمها. فإسرائيل ألقت على كلٍّ من لبنان وغزة قنابل الفسفور الأبيض المُحرَّمة دوليًا، في حين أن حزب الله استخدم أسلحة جديدة في المعركة، بما فيها المسيّرات الانتحارية. ويُحتمل أن يمتدّ نطاق القصف عبر الحدود ليصل إلى عمق الداخل اللبناني والإسرائيلي، وقد رأينا بالفعل في الأسابيع القليلة الماضية توسّع مساحة المنطقة المُستهدَفة في البلدَين من 2 كيلومتر إلى 16 كيلومترًا. قد يشمل هذا التوسّع في النطاق أيضًا مصادر القصف، ولا سيما في ظلّ استهداف الفصائل العراقية المسلّحة والحوثيين إسرائيلَ من أراضيهما، فضلًا عن استخدام الأراضي السورية أيضًا لإطلاق القذائف على إسرائيل.
فيما لا يبدو أحدٌ راغبًا في التصعيد العسكري، يبقى أن هذه الحرب مدفوعةٌ بردّ إسرائيلي انفعالي للغاية نتيجة ما لحق بها في 7 تشرين الأول/أكتوبر. لهذا السبب، يلوح في الأفق خطرٌ كبير من أن يمتدّ الصراع إلى ما هو أبعد من الفظائع التي تحدث الآن في غزة. وربما كانت الدبلوماسية الإقليمية والدولية في لبنان مُجدية في تجنّب وقوع السيناريو الأسوأ مؤقّتًا، غير أن إسرائيل تُقدِم على قتل الصحافيين والمدنيين بوتيرة متزايدة على الجانب اللبناني من الحدود، فيما يلجأ حزب الله وحلفاؤه إلى مختلف التكتيكات في هجماتهم ضدّ إسرائيل، على الرغم من عدم تكافؤ القوى بين الجانبَين. فقد أعلنت حماس إطلاق 16 صاروخًا بعيد المدى من لبنان على مدينة حيفا، وأبدت الولايات المتحدة استعدادها لضرب حزب الله وإيران على نحو مباشر إذا هاجم أيٌّ منهما إسرائيل، فيما حذّرت إيران بدورها واشنطن وإسرائيل من تكاليف تصعيد الهجمات على غزة. إذًا، حتى إن لم يكن أيٌّ من الأطراف راغبًا في خوض صراع أوسع نطاقًا، يبقى أن جميع الديناميكيات اليوم تزيد احتمال وقوعه.
لا شكّ في أن هذه البيئة المشحونة حافلة بعوامل قد تُسهم في تفجير الوضع، وأحدها التدمير الغاشم لغزة، وارتفاع حصيلة الضحايا في القطاع، مع مقتل ما لا يقلّ عن 10 آلاف شخص، نصفهم من الأطفال. ويتمثّل العامل الآخر في أن إسرائيل تفتقر على ما يبدو إلى سياسة لإدارة الكارثة في غزة عند انتهاء الأعمال العدائية. ويشكّل تصاعد الاشتباكات في الضفة الغربية برميل بارود آخر، إذ قُتِل هناك أكثر من مئة فلسطيني، معظمهم على أيدي المستوطنين الذين يتسبّبون أيضًا بتهجير المجتمعات المحلية. هذا وأيّ تحرّك مُعادٍ ينفّذه الإسرائيليون في القدس يمكن أن يؤدّي إلى إذكاء لهيب التوتّرات. أضِف إلى ذلك أن الأردن ومصر يُبديان قلقًا خاصًّا إزاء احتمال ارتكاب إسرائيل تطهيراً عرقياً بحقّ الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.
إن مَن يحثّون إسرائيل على اجتياح غزة وتدمير لبنان، سعيًا إلى تحقيق أهداف قصوى، يدفعون حليفتهم إلى شفا كارثة استراتيجية. فالفكرة القائلة بأن إسرائيل قادرة على تدمير حماس عسكريًّا تبدو بعيدة المنال، تمامًا كما كان وعد إسرائيل في العام 2006 بسحق حزب الله. لا بدّ من وقفٍ فوريّ لإطلاق النار لإنقاذ سكان غزة، وإعادة توجيه الأهداف الإسرائيلية لتفادي الأسوأ، وإجراء مفاوضات لإنهاء الاحتلال. فكلّما طال أمد هذه الحرب، تعاظَم خطر سوء التقدير، وازدادت معه الخسائر التي لا يمكن أن تحتملها بلدان المنطقة وخارجها.