المصدر: Getty
مقال

حنين إلى مشرق ضائع

يُعزى الشرخ الكبير الذي يشهده الشرق الأوسط اليوم، في جزءٍ منه، إلى التدخّل الأوروبي.

 مايكل فاتيكيوتيس
نشرت في ٦ ديسمبر ٢٠٢٣

باعتباري أتحدّر من منطقة المشرق، أشعر بالألم والأسى نتيجة الصراعات التي تدور رحاها في المنطقة منذ حوالى قرن من الزمن. وقعت عائلتي ضحية الانقسام الكبير الذي مزّق الشرق الأوسط بعد أن فكّك الأوروبيون ما تبقّى من الإمبراطورية العثمانية، ورسموا خطوطًا وحدودًا في أراضٍ كانت تتميّز سابقًا بمجتمعاتها المترابطة وبأديانها وطوائفها المختلفة، ثم قرّروا كيف ستصبح شعوبها محصورة في دولٍ مقسّمة وفق خطوط دينية وإثنية.

لم يحدث أبدًا أن أسفرت تدخّلات الدول ومخطّطاتها عن هذا القدر من المعاناة الإنسانية.

هرب أسلاف أمي من اليهود الإيطاليين من أوروبا نتيجة ما تعرّضوا له من أشكال التمييز واللامساواة، وتخلّوا عن دينهم مقابل عيش حياةٍ تنعم بالازدهار في مصر، وتزوّجوا من كاثوليكيين. واعتنق أسلاف أبي الفلسطينيون الأرثوذكسية التي وفّرت لهم الأمن والرعاية.

لم يكن في الأمر عداوة، بل كان الهدف تبنّي هوية كفيلة بضمان البقاء والاستمرار، وفي الكثير من الأحيان العيش براحةٍ ويسرٍ في بيئةٍ تعدّدية. لقد عاش المسلمون والمسيحيون واليهود في بلاد المشرق في جوٍّ من الألفة والودّ. صحيحٌ أنهم كانوا يتشاجرون على الأراضي المقدّسة وأولوية الطقوس، إلا أنهم تعايشوا بسلام.

انتقلت المشاكل من أوروبا حين حاول الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا تحريض العرب في مصر وفلسطين على المستعمِرين البريطانيين. كانت المسألة صراعًا على الهيمنة، وليس على الدين. واندلعت الثورة العربية في فلسطين في العام 1936 احتجاجًا على الحكم الاستعماري، وتمّ قمعها بلا رحمة. وبالكاد سُمع عن المذابح والاضطهادات المُعادية للسامية التي شهدتها أوروبا الوسطى. ولم يُطلَب من اليهود في القدس القديمة المغادرة، ولم يُرغموا على وضع شارة صفراء على شكل نجمة داود، ولم يتمّ اقتيادهم إلى معسكرات الاعتقال.

وكان البريطانيون هم مَن احتجزوا أفرادًا من عائلتي الإيطالية في معسكرات في منطقة قناة السويس، ليس لأنهم يهود، بل لأنهم إيطاليون واشتُبه بأنهم متعاطفون مع الفاشية.

كان الجهل بانتشار معاداة السامية في أوروبا عميقًا بالفعل، إلى درجة أن ثلاثة يهود (شخصان برفقة ابنتهما) من عائلة أمي عادوا إلى إيطاليا بينما كانت ألمانيا تحتلّ مدينتهم فلورنسا في العام 1943. وهناك، طاردهم عناصر المافيا الإيطالية البغيضون، وهدّدوا بتسليمهم إلى الشرطة النازية (أو الغستابو). وفي لحظة يأسٍ، أقدم الزوجان على خنق ابنتهما البالغة من العمر سنتَين، قبل أن يقطعا معصمَيهما وينتحرا بدورهما.

اقتصر تعرّض عائلتي لمعاداة السامية على هذه الحادثة – أي في أوروبا، بعيدًا من الراحة والأمن النسبيَّين اللذَين نعمت بهما في الشرق الأوسط.

ثم وقعت النكبة في العام 1948، وتمزّقت دول المشرق بين ليلة وضحاها. بحسب ذكريات أبي، كان آنذاك يرتاد الجامعة في القاهرة، وبات معزولًا تمامًا عن عائلته في حيفا. فقد كان معتادًا على ركوب القطار من حيفا إلى القاهرة، كما لو أننا نذهب من لندن إلى باريس، ولكن فجأةً تقطّعت الأوصال بين مجتمعات المنطقة وانتهى التكامل والتفاعل في ما بينها بتصويتٍ واحد في الأمم المتحدة. ولم يصدّق أحدٌ تمامًا ما حدث.

وبحسب ذكريات جدّي، فهو استقبل في حيفا مجموعةً من زملائه العرب في بيته. كانوا يحملون حقائب صغيرة وهم في طريقهم إلى بيروت الواقعة على بُعدِ ساعتين بالسيارة شمالًا. قالوا إنهم يتوقّعون أن يغيبوا بضعة أيام ليس إلّا، قبل أن تصل الجيوش العربية لتحريرهم. لكنهم لم يعودوا بعد، وقد مرّ ثمانون عامًا على هذه الذكرى. أما جدّي، الذي وُلد ونشأ في فلسطين، فقد رحل مُرغمًا إلى اليونان، وطن أجداد أبيه، الذي لم تطأه قدماه من قبل. واعتبر نفسه لاجئًا هناك.

لذلك، أنفُر من الأحكام التي تقرأ الأزمة الراهنة من منظور معاداة السامية، وأفهم لماذا ذكّر الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بضرورة عدم إسقاط التصوّرات الأوروبية تجاه اليهود على منطقة الشرق الأوسط.

واقع الحال أن الصراع الذي نشهده اليوم، بكلّ ما ينطوي عليه من أبعاد قبَلية وحشية، هو ظاهرة مُستورَدة، ناجمة عن إرث من التدخّل الأجنبي، وليست وَليدة أرضٍ عاشت فيها وازدهرت جميع الديانات الإبراهيمية جنبًا إلى جنب، وتضرّع أتباعها لإلههم في مواقعها المقدّسة المبنيّة بمحاذاة بعضها البعض، حتى باتت حجارتها ملساء وغطّى جدرانها السخام الأسود نتيجة طقوس العبادة الجماعية طوال قرونٍ من الزمن.

زرتُ في العام 2019 موقعَين مقدّسَين مسيحيَّين ساعد اثنان من أعمام أبي على ترميمهما بعد قرونٍ من الخراب والإهمال في ظل الحكم العثماني. أحدها ديرٌ بالقرب من بيت لحم، شُيِّد فوق مغارةٍ يُقال إنها المكان حيث توقّف المجوس الثلاثة وهم في طريقهم لرؤية الطفل يسوع؛ والآخر يقع على جانب من نهر الأردن حيث يُقال إن المسيح تعمّد على يد يوحنا المعمدان، وحيث تعمّد أبي أيضًا، ما أكسبه لقب الحاج في العقيدة الأرثوذكسية.

وإذ أفكّر في الأهمية الرمزية التي تضطلع بها هذه الأماكن المقدّسة بحجارتها الملساء الصفراء التي تتوهّج بلونٍ ذهبي في ساعات العصر المتأخرة، أخلص إلى أن هذه المواقع لا يمكن التنافس حول مَن يملكها، ذلك أنها محطّات مهمّة على طريق تطوّر هويّتنا الجماعية – فنحن ساميون جميعًا، من اليهود الذين أصبحوا مسيحيين، ومسلمين لاحقًا، في سلسلة تطوّر الديانات التوحيدية التي تحدّد معالم الحضارة الغربية في يومنا هذا.

مايكل فاتيكيوتيس كاتب ومؤلّف كتب عدّة، من بينها كتاب بعنوان Lives Between the Lines: A Journey in Search of the Lost Levant (حياة بين السطور: رحلة البحث عن المشرق الضائع).

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.