المصدر: Getty
مقال

حرب إسرائيل الصامتة على الفلسطينيين

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، شدّدت السلطات الإسرائيلية إلى حدٍّ كبير أساليب القمع التي تستخدمها، في إطار الردّ الانتقامي على هجمات حماس.

نشرت في ٥ ديسمبر ٢٠٢٣

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، شنّت إسرائيل حربًا على غزّة تسبّبت بمقتل أكثر من 15 ألف فلسطيني، بمَن فيهم أكثر من 6150 طفلًا، وتدمير البنية التحتية المدنية التي يمكن أن تؤمّن استمرار الحياة في المستقبل. ولكن إسرائيل تشنّ أيضًا حربًا صامتةً على الفلسطينيين في الضفة الغربية وضمن حدود العام 1948، لقمعهم وتطويقهم، وإسكات أيّ شكلٍ من أشكال التعبير عن الهوية الفلسطينية الجماعية، ولجعل الأراضي الفلسطينية المحتلّة غير صالحة لعيش الفلسطينيين.

كانت الركيزة الأولى لحرب إسرائيل على الفلسطينيين الاستخدام المتزايد للقوة الفتّاكة في الضفة الغربية، على شكل توغّلات عسكرية (في جنين وطولكرم مثلًا)، ومداهمات ليلية، واعتقالات تعسّفية جماعية، وعمليات قتل. فقد أشار مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، إلى أن 238 فلسطينيًا، من بينهم 63 طفلًا، قُتِلوا في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، بين 7 تشرين الأول/أكتوبر و29 تشرين الثاني/نوفمبر. تُضاف هذه الأرقام إلى أكثر من 200 فلسطيني قُتِلوا بين كانون الثاني/يناير وأيلول/سبتمبر 2023، فأمسى العام 2023 العام الأكثر إراقةً لدماء للفلسطينيين في الضفة الغربية منذ أن بدأ مكتب الأمم المتحدة في تسجيل عمليات القتل في العام 2005.

إضافةً إلى ذلك، عمد المستوطنون الإسرائيليون، بتشجيعٍ من لغة الانتقام التي روّجتها السلطات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، إلى زيادة اعتداءاتهم ضدّ الفلسطينيين. فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، سُجّل في المتوسّط ما يزيد عن خمسة اعتداءات نفّذها المستوطنون يوميًا ضدّ الفلسطينيين، أو منازلهم، أو مركباتهم، أو أراضيهم الزراعية، وهو رقم يُرجَّح أن يرتفع إثر دعوة وزير الأمن القومي الإسرائيلي اليميني المتطرّف، إيتمار بن غفير، إلى شراء 10 آلاف بندقية لتسليح المستوطنين. وبتحريضٍ من الجيش الإسرائيلي، أحرق المستوطنون المنازل، وسرقوا الماشية، وفرضوا حواجز على الطرق، ما أرغم سكّانًا فلسطينيين في المنطقة (ج) في الضفة الغربية، أي المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل بالكامل، على الفرار من منازلهم التي استولى عليها المستوطنون عقب ذلك.

وبينما ينصبّ معظم الانتباه على غزة، يغتنم المستوطنون الفرصة لاستئناف مخطّطهم من أجل تهجير الفلسطينيين، تبعًا لـ"خطّة إسرائيل الحاسمة" بشأن الضفة الغربية، التي وضعها وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش. تضع هذه الخطة الفلسطينيين أمام خيارَين: إما التخلّي عن تطلّعاتهم السياسية والقبول بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية على أرضهم، أو "الهجرة" إلى الخارج. أما إذا اختار الفلسطينيون الانخراط في المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، فينبغي قتلهم.

وإلى جانب الاستخدام المتزايد للقوة الفتّاكة، عمدت السلطات الإسرائيلية إلى استخدام أشكال أخرى من العقاب الجماعي ضدّ الفلسطينيين، إذ فرضت مثلًا قيودًا إضافيةً وأكثر صرامةً على تحرّكهم في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، من خلال قطع الطرق، ووضع الحواجز الخرسانية والسواتر الترابية، وإقامة نقاط تفتيش متنقّلة عند مفترقات الطرق. أعاقت هذه الإجراءات بشدّة قدرة الفلسطينيين على الانتقال من مدينة إلى أخرى في الضفة الغربية، وباتت الرحلة التي تتطلّب ساعةً واحدةً تستغرق ثلاث أو أربع ساعات.

وكانت الاعتقالات التعسّفية الجماعية أيضًا في صُلب التدابير العقابية التي اتّخذتها إسرائيل. فمنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أُلقي القبض على أكثر من 3325 فلسطينيًا في الضفة الغربية، وُضِع معظمهم رهن الاعتقال الإداري من دون محاكمة. وحتى أثناء الهدنة بين حماس وإسرائيل، وبينما أطلق الإسرائيليون سراح 150 فلسطينيًا، اعتقلوا 133 فلسطينيًا آخرين في الأيام الأربعة الأولى.

وكان الأسرى الفلسطينيون بدورهم هدفًا رئيسًا لسياسة العقاب الجماعي التي انتهجتها إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، إذ سحبت هذه الأخيرة جميع المزايا والحقوق التي اكتسبها هؤلاء منذ العام 1967. فقد أخبرني أحد المحامين الذين تمكّنوا من زيارة الأسرى الفلسطينيين أنّ هؤلاء مُنِعوا من الاتصال بذويهم، وحُرِموا من زيارات أفراد عائلاتهم أو محاميهم، ومن استخدام مقاصف السجون أو باحاتها. وإضافةً إلى مصادرة أجهزتهم الكهربائية، وملابسهم وأحذيتهم وأمتعتهم الشخصية، مثل الوسائد وأدوات التنظيف، أزالت إدارة السجون الإسرائيلية ستائر الحمّامات، ما أرغم الأسرى الذين لا يريدون أن يظهروا عراةً على استخدام عبوات المياه للاستحمام. فضلًا عن ذلك، سنّت إسرائيل قوانين طوارئ تمدّد الفترة التي يمكن فيها احتجاز الأسرى الفلسطينيين من دون توكيل محامٍ إلى 90 يومًا. هذا وتسلّط روايات الأسرى المُفرَج عنهم مؤخّرًا الضوءَ على الإذلال والإيذاء البدني اللذَين تعرّضوا لهما.

أما الركيزة الثالثة لحرب إسرائيل على الفلسطينيين، فشملت تشديد الرقابة، والترهيب، وزيادة تجريم المحتوى الفلسطيني على وسائل التواصل الاجتماعي، والقمع الشديد لحرية التعبير. فقد شنّت السلطات الإسرائيلية السياسية والأمنية حملة منهجية لقمع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل سياسيًا واضطهادهم، ونزع الشرعية عنهم، وردعهم عن انتقاد الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة، أو التعبير عن أيّ شكلٍ من أشكال الهوية الفلسطينية الجماعية. استهدَفت هذه الإجراءات مَن يعبّرون عن دعمهم لسكان غزة، أو يعلنون عن معارضتهم لحرب إسرائيل، أو حتى ينشرون آيات قرآنية. وانطوت هذه الإجراءات على عمليات الاعتقال الجماعي، وطرد الطلاب من المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، وصرف الموظفين أو خفض رُتبهم، وحظر الاحتجاجات المتضامنة مع غزة، والتحريض على البرلمانيين الذين يمثّلون الأحزاب السياسية الفلسطينية في الكنيست.

كذلك عمد الكنيست، في إطار حملته لفرض أجواءٍ من الخوف بغية قمع أيّ شكلٍ من أشكال التعبير السياسي أو المعارضة، إلى تجريم تصفُّح وسائل التواصل الاجتماعي، عن طريق تعديل قانون مكافحة الإرهاب، وجعل "استهلاك منشورات التنظيمات الإرهابية" جريمةً جنائيةً قد تؤدّي إلى السجن لمدّة عام. وهكذا، يمكن اعتقال الفلسطينيين لمجرّد متابعتهم حسابًا ما على تطبيقَي تلغرام أو إنستغرام يُعَدّ داعمًا "للإرهاب".

وقد تخطو إسرائيل خطوات أبعد من ذلك، إذا ما سنّت رسميًا قانونًا جديدًا يسمح بسحب الجنسية من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، أو الإقامة الدائمة من الفلسطينيين في القدس الشرقية، في حال أُدين الشخص بالتماهي مع "منظمة إرهابية" أو بالتحريض على "الإرهاب". من شأن هذا القانون إذًا أن يجعل أوضاعَ الفلسطينيين في أراضي العام 1948 والقدس الشرقية وحقوقَهم مشروطة بعدم معارضة السردية الإسرائيلية السائدة.

لقد فاقمت حملة الاضطهاد السياسي ضدّ الفلسطينيين مناخ الترهيب العام الذي يتعرّضون في ظلّه للإسكات ويضطّرون إلى فرض الرقابة الذاتية لحماية أنفسهم. لهذا السبب لجأ بعض الفلسطينيين إلى استخدام الهواتف المحمولة القديمة عند مغادرة منازلهم، نظرًا إلى أن الجنود أو عناصر الشرطة الإسرائيليين يفتّشون الهواتف الذكية ويعتقلون الناس لاحتوائها على رسائل أو صور ليسوا راضين عنها، حتى ولو كانت مُرسَلة من شخص آخر.

كلّ هذه الإجراءات الإسرائيلية ليست بالجديدة، بل إنها استمرارٌ لجهود إسرائيل منذ العام 1967 على الأقلّ لقمع الفلسطينيين وتطلّعاتهم السياسية، إنما بطريقة مكثّفة ومتسارعة. ولا بدّ من فهم هذه الإجراءات على أنها جزءٌ لا يتجزّأ من المشروع الصهيوني الأكبر الرامي إلى زيادة حياة الفلسطينيين صعوبةً داخل إسرائيل والأراضي المحتلّة، بما في ذلك غزة، وذلك لدفعهم إلى المغادرة طوعًا أو قسرًا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.