المصدر: Getty
مقال

لحظة بروستية في غزة

يصعب إجراء تحليل جدّي للسياسات في وقتٍ ولّدت الحرب بين حماس وإسرائيل انقسامًا حادًّا.

نشرت في ٥ يناير ٢٠٢٤

كتب الروائي الفرنسي مارسيل بروست: "الطريقة الأكثر يقينًا للاقتناع بتفوّق قضية هذا الطرف أو ذاك هي أن تكون في الواقع ذلك الطرف".

غالبًا ما يبدأ تحليل السياسات باقتباس تصريح لأحد كبار المسؤولين واستخدامه بمثابة نقطة انطلاق للتوصية باعتماد نهج معيّن في السياسات. أما كلمات بروست في هذه الحالة فهي تساعدنا فقط على التفكير بوضوح في السياسات. وأنا أكتب ما يلي بأسلوب شخصي لم أعهده: في الحرب الدائرة حاليًا في غزة، يصعب عليّ أن أفكّر بوضوح. وأظن أنّ آخرين أيضًا يواجهون صعوبة أكبر في هذا المجال. تترتّب عن ذلك تأثيرات شديدة على تحليل السياسات، ما يؤدي إلى انتشار الاقتراحات غير الواقعية والمتسرّعة.

كتب بروست ذلك خلال الحرب العالمية الأولى. لم تتسبّب تلك الحرب بإراقة الكثير من الدماء فحسب، بل أدّت أيضًا إلى الاحتفاء بسفك الدماء. في العام 1914، أخطأ الفرنسيون والألمان حين اعتقدوا أن وطنيتهم واعتباراتهم الأخلاقية هي قدرات عسكرية. ومثلما كان الحال آنذاك، فإن أوجه القصور التي تعتري التحيّز والاستقطاب الحاليَّين بشأن الحرب في غزة ليست بروستية فحسب؛ بل هي تولّد نتائج مهلكة على نحو مروّع. الشعور بالظلم عميقٌ لدى الكثير من الجهات الفاعلة، وفي الكثير من الأحيان له ما يبرّره بشدة. ثمة ثلاثة جوانب تجعله استقطابيًا بوجهٍ خاص في السياق الراهن.

وهذا السياق، أو بالأحرى السياق الذي يختار كل طرف رؤيته (أو السياقات التي يرفضون رؤيتها)، هو الجانب الأول. فمن يصطفون إلى جانب هذا الفريق أو ذاك يفهمون مظالمهم انطلاقًا من اعتبارات أخلاقية جدًّا، ويفهمون المعاناة التي يتسبّب بها فريقهم بأنها من نتاج السياق. لقد رأى البعض في الهجمات الدموية التي وقعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر صدمة عميقة لا تستلزم أي خلفية لفهمها. واعتبر البعض الآخر أنها نتاج تاريخ من الحصار والتعسّف لم يترك خيارات كثيرة لعدد كبير من الضحايا. ويرى البعض أن الهجوم الإسرائيلي المروّع والتهجير القسري لمعظم سكان غزة هو تكرار لنكبة 1948. ويعتبر البعض الآخر أنه ردّ محتوم على العنف الذي وقع في 7 تشرين الأول/أكتوبر. حتى أكثر الأشخاص تعاطفًا يكتفون على ما يبدو بموقف ضعيف ومتردّد على طريقة "نعم ولكن" إزاء معاناة مَن هم في الجانب المقابل وموتهم.

ثانيًا، استوطن التجريد من الإنسانية، على ضوء فقدان أي شعور بالإنسانية المشتركة. ولكن ذلك يقصّر في الواقع عن وصف حجم الغضب الذي يحرّك الأفعال. فمَن يواجهون كلبًا مسعورًا أو عشّ دبابير يدركون نوعًا ما أنه يجب تقييم المخاطر وإدارتها بعناية. لا أدلة على أن ما أقدمت عليه حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر كان مدفوعًا بتقييم متوازن ومتأنٍّ. وليس واضحًا كيف يخدم الحجم الهائل للموت والدمار الذي تتسبّب به القوات الإسرائيلية في غزة استراتيجية معيّنة في ما خلا الاستراتيجيات المعلنة المتمثّلة بقتل جميع عناصر حماس أو (في خطوة يُنظَر إليه على أنها واقعية) تدمير قدرات الحركة العسكرية وإنهاء حكمها، من دون استبدالها. لا يقتصر ذلك على "اليوم التالي" الذي يُعدّ له القادة الإسرائيليون، بل ما يجري هو بوضوح عملية مستمرة، تجسّد بالتالي رؤيتهم للمستقبل غير المحدّد.

وثالثًا، لا يبدو أيٌّ من الطرفَين على دراية بالرسائل التي يتلقّاها الطرف الآخر، ويرجع ذلك بصورة أساسية إلى أن كل طرف يتجاهل الرسائل التي يبعث بها. غالبًا ما يستشهد القادة والحزبيون الإسرائيليون بميثاق حماس الذي هو وثيقة حقيقية تثير فعلًا الرعدة عند قراءتها. لم أسمع قط عضوًا في حركة حماس يأتي على ذكر الميثاق شفهيًا أو كتابيًا، ولكن ذلك ليس مهمًّا لعدد كبير من الإسرائيليين الذين يعتبرون أن هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر يُظهر أن جوهر حماس قائم على الإبادة. وربما يرى عدد كبير من الإسرائيليين في كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي عن العماليق عشية التوغّل الإسرائيلي في غزة، الدعوات الإسرائيلية الصريحة للتطهير العرقي، والتنديد بمسؤولي الأمم المتحدة لأنهم لم يسهّلوا التهجير القسري لسكان القطاع، غلوًّا خطابيًا. ولكن معظم الفلسطينيين الذين تحدّثت معهم يرون فيها خطة عمل سياسية.

قد يبدو الحوار مستحيلًا بعد تبنّي خطاب كهذا. لكن خبرتي الشخصية تشير تحديدًا إلى حدوث العكس تقريبًا – في المجالس الخاصة. فالنقاشات العامة عالية النبرة وتتّسم بالتضخيم الخطابي، لكنني لمستُ أن هذا الأمر يجعل كثرًا (ولا سيما من غير المتخصّصين) متعطّشين للنقاشات الهادئة، وذلك ببساطة كي لا يطغى الضجيج الخطابي على فهمهم الخاص للوضع. وعلى غرار الكثير من زملائي، شاركتُ في نقاشات رزينة ومتعقّلة (وإن كانت قلقة للغاية) داخل القاعات الدراسية والكُنس وضمن مجموعات صغيرة.

المشكلة الحقيقية الكامنة في صخب النقاش العام وقتامة المشهد الراهن هي أنهما يشكّلان السياق الذي يُجرى فيه تحليل السياسات – هذا على الأقل هو تفسيري الخاص لمدى ضحالة التحليلات، التي يشوبها جميعها تقريبًا واحدٌ من العيبَين اللذَين أتحدّث عنهما أدناه، أو العيبان معًا.

أولًا، يستند الكثير من الأمور إلى الأمل المتخيَّل عمّا سيقبل به طرفٌ ما، وفي الكثير من الأحيان من دون أخذ ما يقوله هذا الطرف على محمل الجدّ. ومن بين هذه الأمثلة افتراضات من قبيل: ستتكفّل دول عربية بتغطية تكاليف ما دمّرته إسرائيل، وسيركب مقاتلو حماس على متن سفن تحملهم إلى السواحل البعيدة، وستقبل إسرائيل بقيادة فلسطينية تضمّ حماس، وسيدرك الجميع أن مروان البرغوثي هو الإجابة الشافية عن جميع الأسئلة، وسيتبع الناس القادة الفلسطينيين الشباب ببساطة لصغر سنّهم بعد اختيارهم بسبب نيلهم الاستحسان الدولي وليس من خلال الانتخابات، وسيتنحّى محمود عباس، وسيعود قادة السلطة الفلسطينية إلى غزة (حيث سيلقون ترحيبًا)، وسيوافق القادة الإسرائيليون على حلّ الدولتَين، وسيستجيب سكان غزة للدعوات الخارجية بكتابة دساتير أو مناهج دراسية جديدة،، وستساعد وكالات المعونة الدولية سكان غزة على الانتقال إلى أي مكان تريده إسرائيل، وستقبل مصر بنقل سكان غزة، وسيؤجّل القادة الإسرائيليون التعامل مع ما يعتبرونه تحديات على الجبهة الشمالية، وستفرج حماس ببساطة عن الرهائن الذين تحتجزهم.

وثانيًا، ثمة شرخ بين النتيجة المنشودة والاستراتيجية والتكتيكات المتّبعة – وأحيانًا انقطاع في العلاقة بين السبب والنتيجة. ومن الأمثلة على ذلك: اعتبار أن حماس سيّئة، وبالتالي يمكن القضاء عليها؛ وافتراض أن الحملة العسكرية الإسرائيلية ستقنع الفلسطينيين بذلك؛ والحديث عن التمسّك بحلّ الدولتَين سيحوّله إلى واقع ملموس. من الصعب أن نرى كيف يمكن أن تؤدّي الأحداث الراهنة إلى تسوية عن طريق التفاوض، أو حركة استيطان مستكينة، أو انحسار قاعدة دعم حماس، أو قيادة فلسطينية فعّالة. بل العكس هو ما يحدث، إذ تُمعِن الحرب الراهنة في تقويض جميع هذه الأهداف. ويبدو أن الأحداث تتّجه حكمًا نحو مسارات سوداوية، مثل ضمٍّ متزايد لأراضي الضفة الغربية إلى إسرائيل، ووجود أمني إسرائيلي مستمر في غزة، وإعادة توطين سكان القطاع في مخيمات كبرى جديدة، و"قيادة" فلسطينية توقّف رعاتها الدوليون حتى عن أخذها على محمل الجدّ، وشعوب تزداد راديكاليةً. تمّ التوصل إلى هذه النتائج بسبب الخطوات التي اتّخذها جميع الأطراف، وليس على الرغم منها.

لذلك، يتعيّن على أي تسوية سياسية التطرّق إلى السُبل الكفيلة بعكس هذه التوجّهات. ويجب أن يعتمد ذلك على أمرٍ آخر عدا عن أطراف أساسيين يؤدّون دورًا وضعه لهم آخرون.

في الوقت الراهن، إن هدف الاقتباس من بروست هو تذكيرنا إلى أي مدى أدّى التحيّز الشديد والانقسام الحادّ إلى تقويض التفكير النقدي. وعندما تخفّ حدة الاستقطاب – ولا يبدو أن هذا سيحدث قريبًا – سيسعنا الانتقال من مارسيل بروست إلى رودني كينغ وندائه: "أليس من الممكن أن نتفاهم؟"

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.