REQUIRED IMAGE

REQUIRED IMAGE

مقال

ما أبعاد قرار المحكمة الدولية بشأن حرب غزة؟

وضعت أعلى سلطة قضائية في العالم إدانةَ إسرائيل على السكة الصحيحة ودعمت العدالة في فلسطين، لكن الطريق لا يزال طويلًا.

نشرت في ٢٩ يناير ٢٠٢٤

ربما شعر البعض بالإحباط لأن قرار محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى المرفوعة من دولة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لم يتطرق بشكل مباشر إلى موضوع الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي على غزة. لكن لا مجال للشك أن هذا القرار شكّل نصرًا كبيرًا للفلسطينيين، وتكذيبًا للرواية الإسرائيلية التي تحاول إسرائيل ترويجها للعالم وحاولت تسويقها لدى المحكمة. لذا من المفيد أن ننظر إلى القرار وتداعياته من الزوايا الإنسانية والقانونية والأخلاقية.

من الناحية الإنسانية، فإن خيبة أمل الفلسطينيين ومناصريهم حول العالم لعدم إصدار المحكمة قرارًا ملزمًا وفوريًا لإطلاق النار مفهومٌ تمامًا. فمن يتعرّض لمثل هذا القصف الوحشي لما يقرب من أربعة أشهر، ولمثل هذه الخسائر البشرية والكلفة المادية التي فاقت كل تصور، كان يأمل بموقف مباشر وصريح يُنهي الحرب الهوجاء عليهم. ولم يبدّد مخاوف هؤلاء الناس رأي قانوني حصيف يقضي بأن تطبيق القرارات التي خرجت بها المحكمة لن يكون ممكنًا من دون وقف كامل لإطلاق النار. فهم يشعرون، وهم محقون، بأن إسرائيل لن تلتزم بهذا القرار، كعادتها في ما يتعلق بالقرارات الدولية الصادرة بحقها. لهذا، فإن قرار المحكمة على أهميته لا يثني عن ضرورة استمرار الجهود المبذولة للضغط دوليًا باتجاه إنهاء هذه الحرب كأولوية أولى وقصوى، فالمعاناة الإنسانية المهولة لا يمكن أن تستمر حتى تصحو ضمائر البعض في المنظومة الدولية فيسمحوا بصدور قرار يوقف الحرب، أو حتى تبتّ المحكمة قانونيًا إن كانت إسرائيل ترتكب جريمة الإبادة الجماعية أم لا، بعد أن تمّت إدانتها شعبيًا وبشكل واسع فلسطينيًا وعربيًا ودوليًا.

أما من الناحية القانونية، فإن خيبة الأمل الإنسانية لا يجب أن تحجب الأنظار عن الإنجاز الهام لقرار المحكمة ولأسباب عدة. فالمحكمة، وبأغلبية كبيرة، قرّرت أن ما تقوم به إسرائيل يشكّل سببًا معقولًا للظن بارتكابها جريمة الإبادة الجماعية، ولذا فالمحكمة أقرت بصلاحيتها النظر في القضية المرفوعة من قِبَلِ جنوب أفريقيا. يجب هنا أن نُفرّق بين الإدانة الشعبية التي لا تحتاج إلى مرافعات ومداولات، وبين الإدانة القانونية التي تتطلب دراسة كل الحجج والبيّنات قانونيًا ومن مختلف الأطراف، الأمر الذي يأخذ حكمًا وقتًا طويلًا. إذًا، فإن مجرّد قبول الدعوى وضع إسرائيل قانونيًا في موضع الاتهام من أعلى سلطة قضائية دولية.

الأمر المهم الآخر هو أن المحكمة لم تأخذ بالرواية الإسرائيلية التي ادّعت أن ما تقترفه من أفعال جرمية إنما يأتي في سياق الدفاع عن النفس، ولم تتطرق إلى هذه الحجة بأي شكل، ما يعني أنها أسقطتها بالكامل من حيثيات القرار، كما أنها أسقطت حجة الدفاع الإسرائيلية بأن التصريحات التي استشهدت بها جنوب أفريقيا والتي أوحت بنيةِ إسرائيل في اقتراف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين إنما أتت من أشخاص لا يعبّرون عن رأي الحكومة الإسرائيلية. وكان ملفتًا أن المحكمة أوردت في حيثياتها بالتفصيل وبالتواريخ، التصريحات التي صدرت عن كبار المسؤولين الإسرائيليين. أُوردُ هنا ما ذكرته حيثيات المحكمة عن تصريح رئيس الدولة الإسرائيلية بأن "كل الشعب الفلسطيني مسؤول. ليس صحيحًا أن المدنيين لم يكونوا على علم بما حدث. نحن في حالة حرب، وسنحارب حتى نكسر عظامهم"، وتصريح وزير الدفاع الإسرائيلي القائل: "لن يكون هناك كهرباء أو طعام أو وقود. لقد أمرت بتجاوز كل المحظورات. نحن نحارب حيوانات بشرية. لن تعود غزة لما كانت عليه. سنقضي على كل شيء"، وتصريح وزير الطاقة حينذاك والخارجية الآن بالقول: "على كل المدنيين في غزة المغادرة. لن يحصلوا على قطرة ماء او بطارية واحدة حتى يغادروا العالم".

إن تضمين هذه التصريحات في الحيثيات، حتى قبل الوصول إلى قرار نهائي، يشير إلى الاتجاه الذي تسير فيه المحكمة وقناعتها بأن مثل هذه التصريحات لا يمكن تجاهلها، بل إنها تؤشر إلى نيّة مبيتة لدى إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.

الأمر القانوني الهام أيضًا هو أن قرارات المحكمة التي تطلب من إسرائيل الالتزام بالقانون الدولي وعدم ارتكاب أفعال تحرّض على الإبادة الجماعية، صدرت بأغلبية كبيرة جدًّا، بما في ذلك من رئيسة المحكمة (الأميركية)، وأعضائها من دول غربية كثيرة كفرنسا وأستراليا وألمانيا. إن ادّعاءات حكومات هذه الدول بأن ما تقوم به إسرائيل هو دفاع عن النفس وأن تهمة الإبادة الجماعية لا أساس لها كما يقول وزير الخارجية الأميركي، لا يؤيدها القضاة المستقلون الذين ينتمون إلى هذه الدول، ما يجعل الحجج الرسمية التي تسوقها حكومات هذه الدول للدفاع عن إسرائيل أكثر ضعفًا. ومن الملفت أيضًا أن المحكمة لم تنعت حماس بالإرهاب، بل اكتفت بالقول إنها منظمة مسلحة.

أما من الناحية الأخلاقية، فإن إسرائيل التي حاولت ترويج نفسها للعالم بأنها دولة ديمقراطية تحترم القانون الدولي، تقف اليوم أمام أعلى سلطة قضائية دولية، مُتَّهَمةً بأسوأ جريمة في التسلسل الهرمي للجرمية في القانون الدولي وهي جريمة الإبادة الجماعية، وستضطر لأشهر وربما لسنوات، إلى الوقوف في قفص الاتهام تحاول تبرير ما تقوم به قانونيًا، وإلى الإجابة عن مرافعات عدة عالية المستوى تقدّمُ أدلّة دامغة على انتهاكها القانون الدولي وارتكابها قانونيًا لجريمة الإبادة الجماعية. لا يمكن التقليل من أثر ذلك على الرأي العام العالمي، وحتى على حلفاء إسرائيل، وعلى صورة إسرائيل دوليًا التي لن تعود إلى ما كانت عليه سابقًا حتى لدى المجتمعات التي كانت تؤيدها.

لا يجب، بل لا يجوز، التقليل من أهمية ما حدث ويحدث، على الرغم من خيبة الأمل المفهومة لدى الناس. إن قرارات المحكمة لا تمثّل إلا بداية لطريق قد يكون طويلًا، ولكنها وضعت إدانة إسرائيل على السكة الصحيحة. ولا بدّ من استخدام كل الوسائل المتاحة لإلزام اسرائيل بتنفيذ القرارات التي صدرت عن المحكمة، وخاصة في ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية وعدم استهداف المدنيين والتوقف عن التصريحات التحريضية للمسؤولين الإسرائيليين. وقد صدرت آراء كثيرة عن قانونيين مرموقين تؤكد أن تنفيذ قرارات المحكمة ليس ممكنًا من دون توقف إسرائيل عن الحرب.

لقد فتح قرار المحكمة المجال واسعًا لاتخاذ الكثير من الإجراءات لإرغام إسرائيل على إنهاء حربها الوحشية على الشعب الفلسطيني والالتزام بقرار المحكمة. تستطيع الدول العربية والإسلامية الآن إدخال المساعدات إلى غزة من دون انتظار موافقة إسرائيل، وذلك تنفيذًا للإجراءات الاحترازية التي أقرتها المحكمة، وهي ملزمة للجميع. يمكن للدول العربية التي لها علاقات مع إسرائيل أن تتبنى عقوبات على إسرائيل إن هي لم تنفّذ قرار المحكمة، وربما أيسرها العقوبات الاقتصادية التي تمنع أي تبادل تجاري معها. ويجب على الدول العربية والإسلامية أن تنضم إلى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية متهمةً إياها باقتراف جريمة الإبادة الجماعية، والتي من المتوقع أن تستمر لسنوات كثيرة.

التوجه العام للمحكمة الدولية إيجابي، وداعمٌ للحق والعدالة في فلسطين، ومشكِّك في الرواية الإسرائيلية. هذا إنجازٌ يُبنى عليه وان كان الطريق لا يزال طويلًا. لقد قامت المحكمة بدورها. وقامت جنوب أفريقيا بعمل جبّار لم يجرؤ عليه الكثير منا. آن الأوان أن نقوم، نحن، الآن بدورنا.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.