المصدر: Getty
مقال

ماذا يحمل المستقبل للفلسطينيين؟

إذا حقّقت حماس انتصارًا في غزة، فعليها أن تحدّد طرحًا سياسيًا لما بعد الحرب، تسوّغ من خلاله هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر.

نشرت في ٢٩ يناير ٢٠٢٤

بصرف النظر عن الأمور الأخرى التي حقّقتها حرب غزة، فهي أسقطت القناع عن النوايا الإسرائيلية الحقيقية بشأن تقديم تنازلات جادّة لتحقيق السلام مع الفلسطينيين. ففيما يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الجدل مع الرئيس جو بايدن بشأن حلّ الدولتَين، تبدو النتيجة واضحة: وهي أن الطبقة السياسية الإسرائيلية بجميع أطيافها إما ترفض التنازل عن أيٍّ من الأراضي، أو تبدي تردّدًا كبيرًا في الخروج عن نموذج الاحتلال القائم منذ أكثر من نصف قرنٍ من الزمن.

وهذا النموذج يحرم الفلسطينيين من الحدّ الأدنى من مطالبهم اللازمة للتوصل إلى تسوية مع إسرائيل. فيعرض عليهم كيانًا مُجهَضًا يفتقر إلى أيٍّ من مقوّمات السيادة، ويدعو ذلك دولة فلسطينية؛ ويُضفي الشرعية على قيام إسرائيل، بصورة غير قانونية، بضمّ جزءٍ كبير من الأراضي العربية التي احتلّتها في العام 1967؛ ويمنح إسرائيل شيكًا على بياض للتدخل عسكريًا داخل المناطق الفلسطينية؛ ويتخلّص بشكل نهائي من مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. وقد وردت هذه الأفكار كلّها، صراحةً أو ضمنًا، في خطة ألّون، التي شكّلت خارطة الطريق المؤسِّسة للاحتلال.

لكن ما هو الوضع على الجانب الفلسطيني؟ إذا تمكّنت حماس من الحفاظ على الشعبية التي اكتسبتها بفعل هجماتها على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وإذا أبدى الفلسطينيون استعدادًا للنظر أبعد من الدمار الذي خلّفته إسرائيل في غزة نتيجةً لذلك، فربما يكون من العدل أن نقول إن حماس ستؤدّي دورًا أكبر بكثير في تحديد المسار السياسي المُقبل للمجتمع الفلسطيني. لكن هذا يستتبع ضمنيًا أن توضِح الحركة نواياها الحقيقية.

لفترة، طرحت حماس فكرة اتفاق هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل، وكانت شكلًا غامضًا من أشكال السلام الذي لا يجرؤ على البوح باسمه. وفي الآونة الأخيرة، خطت قيادة الحركة في الخارج خطوةً أبعد، إذ أعلن رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في 1 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي: "نحن مستعدّون للدخول في مفاوضات سياسية تقود إلى حلّ الدولتَين، على أن تكون القدس عاصمةً للدولة الفلسطينية". مع ذلك، ونظرًا للانقسامات البادية للعيان داخل قيادة حماس، من غير الواضح ما إذا كان هذا التصريح يحظى بالموثوقية ويتكلّم باسم الحركة كاملةً.

لم تصدر تصريحات ذات أهمية كبيرة عن رام الله في الأشهر الأخيرة. ونادرًا ما كان زعيم فلسطيني غير ملائمٍ للقيادة بقدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. وعلى نحو مؤكد تقريبًا، ستنطوي الخطة الأميركية للمرحلة المقبلة في غزة على تحييد عباس جانبًا ليحلّ محلّه قائدٌ أصغر سنًّا وأكثر شعبية. وتحدّثت إدارة بايدن عن "سلطة فلسطينية محدَّثة"، في إشارة ضمنية إلى استبدال عباس. وكثيرًا ما يتم تداول اسم مروان البرغوثي القابع في السجون الإسرائيلية منذ العام 2002 عند الحديث عن خلف عباس.

علاوةً على ذلك، يواجه عباس مشاكل أخرى. فقد عمَد الإسرائيليون لسنوات طويلة إلى تقويضه وعزله، إذ لم يجدوا ما هو أكثر تهديدًا من شريك سلام قد ترغمهم جديّته على التخلّي عن أراضٍ يحتلّونها. وقبل المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع الرئيس الفلسطيني، أكّد ضمنيًا معاملة إسرائيل لعباس مؤخرًا بقوله: "على إسرائيل أن تكفّ عن اتخاذ خطوات تقوّض قدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم بفعالية".

أما في لبنان، فتواجه حركة فتح التي يتزعّمها عباس تحديًا متّسقًا من جانب حماس، ولا سيما في عين الحلوة الذي يُعدّ أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين. عَنَت أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر أمورًا كثيرة، من ضمنها سعي حماس إلى السيطرة على الحركة الوطنية الفلسطينية. ربما نجحت هذه المحاولة إلى حدٍّ ما، لكن سيكون من قبيل التبسيط المُفرط أن نفترض انحسار حركة فتح. فهي لا تزال تتمتع بالدعم في أوساط الفلسطينيين، وتستفيد من كونها أكثر من مجرّد حركة سياسية. فهي تُعدّ تجسيدًا لحالة فلسطينية نشأت على مدى عقودٍ من الكفاح، ومن هذا المنطلق لا تزال تحتفظ بقاعدة ميتنة في أوساط المجتمع الفلسطيني. لهذا السبب، يبدو خيار البرغوثي مغريًا للغاية. فهو الشخص المثالي القادر على استنهاض حركة فتح وتحسين العلاقات مع حماس نظرًا إلى تعاونه معها خلال فترة اعتقاله، حين أعدّا معًا، وبالتنسيق مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، ما عُرف بوثيقة الأسرى في أيار/مايو 2006، والتي طرحت رؤيةً لدولة فلسطينية في الأراضي التي احتلّتها إسرائيل في العام 1967.

لكن في الوقت الراهن، تسود حالةٌ من البلبلة في الصف الفلسطيني. حين نتجاوز الحديث التوافقي عن وحشية إسرائيل التي لا يمكن تخيّلها، لا بدّ أن نجد نقاشًا فلسطينيًا حول ما كان يُؤمَل في تحقيقه من أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر. لقد أعادت إدارة بايدن وضع حلّ الدولتَين على نار حامية، مع أن تطبيق هذا الحلّ صعبٌ بسبب امتناع نتنياهو عن تبنّي مثل هذه المحصّلة، التي يرفضها من حيث المبدأ، والتي قد تنفّر الأحزاب الصهيونية اليمينية المتطرّفة التي تُبقيه في السلطة. كما إن الوقت ليس لصالح الرئيس الأميركي، الذي يدخل عامًا انتخابيًا، ولن يكون أمامه هامشٌ واسع لطرح خطة سلام لما بعد حرب غزة، ستؤول على الأرجح إلى الفشل على أيّ حال. إن أولويّته هي وقف إطلاق النار، وتجنّب اندلاع حربٍ إقليمية، والحرص على ألّا يبدو وكأنه مَنَع إسرائيل من إلحاق الهزيمة بحماس.

من هذا المنطلق، هل من موقفٍ فلسطيني مقبول على نطاق واسع بشأن الأهداف السياسية المتوخّاة إزاء إسرائيل؟ قد تشكّل وثيقة الأسرى أساسًا لموقف كهذا، ولكنّ المطلوب قبل ذلك قيادة فلسطينية موحّدة لإضفاء الشرعية على استراتيجية سياسية واقعية، وهذا أمرٌ لا نزال بعيدين عنه.

قد تكون أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر أكّدت للكثير من الفلسطينيين أن المقاومة المسلحة يمكن أن تحقّق نتائج، ولكن بأيّ ثمن؟ فما يقرب من 30,000 فلسطيني قُتِلوا في غزة، ومساحات واسعة من الأراضي دمّرها الإسرائيليون بشكل منهجي، وحوالى مليونَي فلسطيني يعيشون في ظروف مروّعة، والمسؤولون الإسرائيليون، الحاليون منهم والسابقون، يتكلّمون علنًا عن التطهير العرقي للفلسطينيين، وحتى داخل حماس تُخاض على ما يبدو معركة صامتة على القيادة بين الجناح العسكري للحركة وقادتها خارج غزة. وهذه ليست خطّة مستدامة لتحقيق النصر. إن كان الجناح العسكري لحماس في غزة سعى إلى ترسيخ الكفاح المسلّح في الوجدان الفلسطيني باعتباره مسار عمل مقبول للمستقبل، فردُّ إسرائيل الهمجي، وحقيقةُ أن الكثير من الدول لم يفعل شيئًا طوال أسابيع لكبح جماح الإسرائيليين في معركة غزة، ينبغي أن يشكّلا تحذيرًا يجب الأخذ به.

قد تحوّل حماس ما حدث إلى نفوذٍ أكبر داخل الصف الفلسطيني. فربما تنجح في تأمين موقع لها في منظمة التحرير الفلسطينية، وتصبح طرفًا رئيسًا في المفاوضات، وبالتالي أكثر قدرةً على التأثير في تقدُّم مسارها. لكن ما النتائج التي تريدها حماس؟ إن كان يُفترَض بأحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر أن توضح الأمور، فما فعلته كان النقيض تمامًا. إنّ مَنْحَ إسرائيل فرصة ذهبية لتطهير الفلسطينيين عرقيًا في الضفة الغربية وغزة ليس بالفكرة الرابحة. ولكن إن كان هدف حماس، على عكس ذلك، فرضَ ميزان قوى جديد مع إسرائيل، من شأنه أن يجعل المفاوضات في المستقبل أكثر توازنًا، فعلى الحركة إذًا أن تشرح ما تريده من هذه المفاوضات. إذا كانت حماس هي المنتصرة في غزة، كما قال يحيى السنوار على ما يبدو لمفاوضيها، فعليها أن تحدّد كيف ترغب في ترجمة ذلك على المستوى السياسي.

لكن حماس تحتاج إلى موافقة منظمة التحرير الفلسطينية، وعلى الطرفَين أن يتّحدا أخيرًا حول موقف تفاوضي يقبله كلٌّ منهما. والعنف الذي تمارسه إسرائيل إنما يشكّل فرصةً لتحقيق ذلك. فبعد أن دعم الكثير من الدول الغربية إسرائيل في الأسابيع التي أعقبت هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، بدأت هذه الدول، وحتى الولايات المتحدة، تُغيّر وجهة نظرها بعد مشاهدتها المجازر في غزة. لقد بدأت دفّة التعاطف دوليًا تميل نحو الفلسطينيين. ومن المرجّح أن يتكبّد الأميركيون ثمنًا لإفساحهم المجال أمام إسرائيل لمواصلة مذابحها، ولتسليحهم الإسرائيليين حتى وهم يرتكبون انتهاكات لحقوق الإنسان، ولذا أصبحت واشنطن الآن أكثر حرصًا على الانتقال إلى مرحلة جديدة تؤدّي إلى وقف إطلاق النار. ينبغي على الفلسطينيين أن يستغلّوا هذه الفترة الفاصلة، ويتجنّبوا أن تأخذهم الحلول السياسية التي يعارضونها على حين غرّة.