المصدر: Getty
مقال

التوقعات العالية وقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل

تشير ميشيل بورجيس كاثالا، في مقابلة معها، إلى الانتصار القانوني الذي تحقّق من خلال التدابير المؤقّتة الصادرة عن محكمة العدل الدولية.

 جاسمين خليل
نشرت في ٥ فبراير ٢٠٢٤

ميشيل بورجيس كاثالا محاضِرة بارزة في كليّة الحقوق في جامعة إدنبرة، حيث تركّز على القانون الدولي العام والقانون الدولي لحقوق الإنسان، وتتمحور اهتماماتها البحثية حول تطبيقات ومنازعات القانون الدولي في مختلف أنحاء العالم العربي. قبل انضمام بورجيس كاثالا إلى كليّة الحقوق، كانت محاضِرة في القانون الدولي ودراسات الشرق الأوسط لمدة خمس سنوات في كليّة العلاقات الدولية في جامعة سانت أندروز. أجرت "ديوان" مقابلة معها في أواخر كانون الثاني/يناير للاطّلاع على رأيها في القرار الابتدائي الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا واتّهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحقّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

جاسمين خليل: بعد القرار المؤقت الذي صدر عن محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/يناير في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل، وردت تعليقات كثيرة عن كيفية تأثير قرار المحكمة في الوضع القائم في غزة. في هذا السياق، هلاّ تشرحين لنا عن اتفاقية منع الإبادة الجماعية للعام 1948 الصادرة عن الأمم المتحدة وعلاقتها بالقضية التي رفعتها جنوب أفريقيا؟

ميشيل بورجيس كاثالا: أعتقد أن تأثير القرار على الصراع في غزة كان جوهر ردود الفعل الإيجابية والسلبية التي شهدناها عقب صدوره عن المحكمة. أراد كثرٌ المزيد، أو اعتقدوا أن بالإمكان فعل المزيد. ولكن الأمر الأساسي هو أن القرار يجب أن يرتبط دائمًا ببندٍ محدّد ضمن اختصاص المحكمة. ثمة ثلاث طرق أساسية لعرض قضية على محكمة العدل الدولية. الطريقة الأولى هي من خلال معاهدة؛ والطريقة الثانية هي اتفاق الدول على رفع قضية أمام المحكمة؛ والطريقة الثالثة هي دخول الدول في اتفاقٍ خاص لطلب المساعدة من المحكمة.

مما لا شك فيه أن إسرائيل لم تكن لتتّفق مطلقًا مع جنوب أفريقيا على رفع القضية أمام محكمة العدل الدولية. لذلك، كان على جنوب أفريقيا تحديد المعاهدات التي وقّعتها الدولة الأخرى والتي يمكن أن يكون لها رابط ما بالنزاع، وهي ظاهرة شهدنا عليها في الديناميات الأوكرانية الروسية أيضًا. بند التحكيم هو وسيلة يتم من خلالها تفعيل اختصاص المحكمة وفتح الدعوى. يتعلق الأمر بالعمل ضمن المعايير التي حُدِّدت من خلال محكمة العدل الدولية، لذا ربما ثمة معاهدة أخرى كان من الممكن الاستعانة بها لتحقيق غرض مماثل.

يسود شعورٌ بالإحباط لدى الناس لأن اتفاقية منع الإبادة الجماعية لا يمكن أن تحقّق كل شيء. في هذه الدعوى، كان يجب توجيه جميع الأدلة نحو إثبات حدوث إبادة جماعية، ولهذا جرى الاستناد في نهاية المطاف إلى اتفاقية منع الإبادة الجماعية للعام 1948، التي هي بمثابة المرجع في هذه القضية. يمكن أن تختار الدول ما إذا كانت ترغب في الانضمام إلى هذه المعاهدة التي تتضمّن بندًا ينصّ على أن الدول يمكن أن ترفع خلافها إلى محكمة العدل الدولية حيثما يطرأ خلافٌ بشأن تفسير المعاهدة.

تَعيّن على جنوب أفريقيا أن تُبيّن أنّ ثمة خلافًا حول نطاق المعاهدة أو تفسيرها. بدا ذلك واضحًا جدًّا، مثلما كان جليًّا إعلان جنوب أفريقيا أن ثمة قضية إبادة جماعية وإنكار إسرائيل ذلك. كان التباين واضحًا حول كيفية تطبيق معنى المعاهدة، وشكّل هذا المحور الأساسي للبتّ في اختصاص المحكمة. وبعد أن تحدّد المحكمة أنها صاحبة اختصاص، غالبًا ما تعقد جلسات منفصلة بشأن ما إذا بإمكانها تثبيت اختصاصها. وبعد الانتهاء من مرحلة المقبولية والاختصاص، تصل إلى مرحلة الأُسس الموضوعية التي تتعلّق بموضوع الدعوى. ولكن ثمة إمكانية منفصلة تُعرَف بالتدابير المؤقتة، والأساس الذي يُستنَد إليه في اتخاذ هذه التدابير هو طول مدة القضية خلال مرحلة الأُسس الموضوعية. تركّز قرارات المحكمة على الإبقاء على الوضع القائم. لم يتمكّن الفريقان من الاتفاق على تفسير المعاهدة وتطبيقها، ولذلك تَعيّن على المحكمة أن تضمن بقاء الأمور على حالها في هذه الأثناء، ولا سيما في ما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني.

بإمكان المحكمة أن تأمر بسلوكٍ معيّن لمحاولة ضمان بقاء الوضع القائم على حاله. تُجمّد المحكمة الوضع القائم، وبهذا المعنى، لا تتّخذ أي نوعٍ من القرارات الموضوعية. ونظرًا إلى حدود التدبير المؤقت، أعتقد أنها قامت بعمل رائع. في ظل هذه القيود، لا أعتقد أنه كان بوسعنا أن نتوقّع أكثر من ذلك. يرى البعض أن المشكلة الكبيرة في قرار اتخاذ تدابير مؤقتة هي أن القرار لم يذكر أنه يمنع إسرائيل من شنّ حملة عسكرية. إذًا، لم تصدر المحكمة فعليًا أمرًا بوقف إطلاق النار. خلال الشهر المقبل، ستحاول إسرائيل إعداد تقرير تُبيّن فيه أنها تلتزم بالقانون في سلوكها، في محاولةٍ منها لإظهار أن عملياتها لا تستهدف البنية التحتية المدنية. من الآن فصاعدًا، أي خطوة عسكرية تقوم بها إسرائيل يجب أن تندرج بوضوح ضمن السلوك غير المصنّف بأنه إبادة جماعية.

خليل: ما هي العناصر الأساسية التي استند إليها حكم المحكمة، وماذا ستكون تبعات هذا القرار على مدى الأسابيع المقبلة برأيك؟

بورجيس كاثالا: أعتقد أن الأمر تعلّق جزئيًا بتحديد ما إذا كانت المحكمة صاحبة اختصاص. كان عليها أن تبتّ، كما قلتُ سابقًا، في ما إذا ثمة قضية يمكن رفعها، وفي ما إذا كان ثمة خلاف. شكّك البعض في وجود أدلّة كافية على خلاف واسع بين الفريقَين. ولكن جنوب أفريقيا أثبتت أنها احتجّت سابقًا ووجّهت رسائل في محاولةٍ منها للتواصل مع إسرائيل. وبذلت جهودًا حثيثة بالفعل للتشديد على أنه ليس قرارًا موضوعيًا. أعتقد أن الأبعاد الأساسية التي دفعت حقًّا بالمحكمة إلى اتّخاذ قرارها هو استشهادها بتصريحات صدرت عن الكثير من كبار المسؤولين في الأمم المتحدة عن الكارثة الإنسانية المنهجية التي تحدث. وربطت المحكمة أيضًا تلك التصريحات بالكلام الذي صدر عن مسؤولين إسرائيليين وكشف عن وجود نيّةٍ بارتكاب إبادة جماعية. عند الجمع بين هذَين البُعدَين، ثمة عتبة كافية تؤشّر إلى إمكانية قوية، وفقًا للقانون الدولي، بأن لدى إسرائيل نيّة بارتكاب إبادة جماعية. ولكن القرار الأوّلي الصادر عن محكمة العدل الدولية لم يذكر أن ثمة فعلًا قضية مثبتة بارتكاب إبادة جماعية. لقد أعلن القاضي أن ثمة حتمًا خطرًا وشيكًا من هذا القبيل، وهو لا يشمل بالضرورة جميع عناصر الإبادة، ولكنه يشمل جميع عناصر الكارثة. لذلك، اتّخذت محكمة العدل الدولية قرارًا بمناشدة إسرائيل تنفيذ الخطوات التي طلبتها منها.

لا يرقى ذلك إلى مستوى وقف إطلاق النار، إذ من الناحية التقنية، لا يتعلّق اختصاص المحكمة باستخدام القوة؛ ولا يقوم اختصاصها على النظر في ما إذا كان لإسرائيل الحق في الدفاع عن النفس. يستند اختصاصها إلى تحديد ما إذا ثمة احتمال بأن سلوك إسرائيل يندرج في إطار ارتكاب إبادة جماعية. بدلًا من ذلك، كان عليها أن تفصل، استنادًا إلى المعاهدة ومتطلبات إسرائيل بموجبها، في الطرق التي يجب أن تتصرّف وفقها إسرائيل. قد يقول بعضهم إن فرض وقف إطلاق النار ممكنٌ، لكنني أعتقد أن ذلك مستبعد نظرًا لأن القضاة يتحركون بسرعة كبيرة.

خليل: ما النتائج المحتملة للقرار الصادر عن محكمة العدل الدولية على الصراع في غزة؟

بورجيس كاثالا: من الناحية التقنية، إن التدابير المؤقتة تُعدّ مُلزمة. ربما علينا التفكير بما تم تحقيقه حتى الآن. فلدينا الرأي الاستشاري الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في العام 2004 بشأن الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واليوم بات لدينا هذا الحكم الابتدائي؛ ويُحتمل أن نصل إلى مرحلة الأُسس الموضوعية في وقت لاحق. يُشار في هذا الصدد إلى أن إسرائيل رفضت رأي المحكمة بشأن الجدار، معتبرةً أنه استشاري وأن هدفه كان الإجابة عن سؤال طرحته الجمعية العامة (أو يمكن أن يكون أيضًا سؤالًا من مجلس الأمن إلى المحكمة). من هذا المنطلق، لم يشكّل الرأي خلافًا، بل قدّم توصيفًا للوضع واقترح مفاعيل قانونية لإسرائيل ولأطراف ثالثة. وفقًا لهذا السيناريو، لم تكن إسرائيل مُلزمة بأي تدابير قانونية.

أما في السياق الحالي، فالوضع مختلفٌ لإسرائيل. فهي قرّرت المشاركة في المحاكمة، وحتى إن لم تفعل ذلك، لما كان الوضع اختلف، لأن القضية هي خلاف بين دولتَين. وقد حدّدت المحكمة بوضوح أن اختصاصها يشمل النظر في هذه الدعوى، وعلى خلاف الرأي الاستشاري، فقد أصدرت هذه المرة قرارًا ملزمًا يتضمّن مجموعةً من التدابير المحدّدة. ولكن المحكمة لا تملك آلية لتنفيذها. من الناحية التقنية، يمكن لمجلس الأمن أن يتولّى ذلك، ولكن يجب أن نأخذ في الحسبان أن الولايات المتحدة ستستخدم على الأرجح حق النقض لمنع تنفيذ التدابير. جوهريًا، ما من طريقة لمحاربة ذلك، لكن هذا الأمر سيلحق الضرر بسمعة إسرائيل، إذ سيكون من السيّئ جدًّا لصورتها أن تتجاهل على نحو سافر قرار محكمة العدل.

وفي ما يتعلق بالتقرير الذي ينبغي على إسرائيل تقديمه إلى المحكمة في غضون شهرٍ واحد من تاريخ صدور الحكم، أعتقد أنها ستحاول التعاطي مع ذلك بمرونة. فهي لا يمكنها أن ترفض ذلك. على المستوى الدولي، أعتقد أن إسرائيل ستصوّر نفسها على أنها ممتثلة لقرارات المحكمة الدولية، لكن السؤال هو ما إذا ستخفّف من وطأة عملياتها على الأرض. أعتقد أننا بحاجة إلى رؤية ضغطٍ كبيرٍ يُمارَس من الأطراف الثالثة. على سبيل المثال، بُعيد صدور القرار، طالب الاتحاد الأوروبي إسرائيل بالامتثال التام لأوامر محكمة العدل الدولية. برأيي، كان هذا بيانًا قويًا لأن الاتحاد الأوروبي بقي مكتوف الأيدي، على نحو متعمّد، حيال هذه الحرب.

أعتقد أن محكمة العدل الدولية وسيلة فعّالة جدًّا لممارسة الضغط، لكن لا أظن أنها ستبدّل مسار الأحداث. ففي الكثير من الأحيان، تفعل إسرائيل كل ما تقدر عليه، إلى أن تدرك أنها وصلت إلى حدّها الأقصى. وعند هذه النقطة، تتدخّل الولايات المتحدة عادةً لكبح جماحها. في الوقت الراهن، تعتبر إسرائيل أن في وسعها مواصلة ما تفعله لأنها، برأيي، لم تواجه ضغوطًا أميركية كافية. مع ذلك، أعتقد أن بعض الأطراف الثالثة ستمارس ضغوطًا أكبر على الأميركيين بسبب قرار المحكمة الدولية. في نهاية المطاف، أرى أن الولايات المتحدة هي التي ستحدّد متى ستنتهي هذه الجولة من الصراع وكيف ستنتهي.

خليل: من أيّ نواحٍ تؤثّر هذه الدعوى على منظومة العدل الدولية الأوسع؟

بورجيس كاثالا: إن لم يصدر القضاة أي قرارات أو تدابير، لشكّل ذلك خسارة كبيرة. بعد قضايا جنوب غرب أفريقيا في العام 1966 (حين رفضت محكمة العدل الدولية شكوى رفعتها أثيوبيا وليبيريا ضدّ جنوب أفريقيا لانتهاكها، من خلال سياسات الأبرتهايد ]أي الفصل العنصري[، واجباتها بصفتها قوة انتدابية على جنوب غرب أفريقيا بتفويض من عصبة الأمم)، لم تعد دول الجنوب العالمي تعير قرارات المحكمة الدولية أهميةً تُذكر. أما اليوم، فيبدو أن المحكمة تنبّهت إلى هذه الصفحة الشائنة من تاريخها، ووقعت عليها مسؤولية ضمان أن يُنظر إليها على أنها مُدركة للظلم الناجم عن الممارسات الاستعمارية المستمرة في فلسطين. نشهد مجدّدّا دينامية المعركة بين داود وجليات، وهي برزت أيضًا في الحرب الروسية الأوكرانية. لذا، أعتقد أن صدور قرار المحكمة بسرعة شكّل إنجازًا عظيمًا. تتألّف المحكمة في هذه القضية من سبعة عشر قاضيًا: ففي حالة عدم وجود قاضٍ من الدول الأطراف في القضية الخلافية، تقوم كلٌّ منها بتعيين قاضيها الخاص. وَجَب الحصول على تسعة أصوات مؤيّدة لإقرار التدابير المؤقتة، وقد نلنا خمسة عشر صوتًا مؤيّدًا وصوتَين معارضَين، وأعتقد أن هذا انتصارٌ كبير. لم تأمر المحكمة بوقف إطلاق النار، لكن لم يكن ينبغي توقّع ذلك أساسًا. من الآن وصاعدًا، ستتمحور المسألة حول مدى استعداد الدول والمؤسسات لاستخدام نفوذها سعيًا إلى ضمان احترام إسرائيل للقرار الصادر عن المحكمة. تحمل هذه القضية دلالة رمزية، إذ يبدو من خلالها أن دول الجنوب العالمي قد تتّخذ إجراءات أوسع ما لم تُظهر دول الغرب استعدادًا لدعم القرار.