تحدث تطورات عدة في شمال سورية وشمال العراق والمنطقة الأوسع، قد تدفع القيادة التركية إلى إعادة النظر في سياستها حيال سورية.
بات أمرًا مألوفًا نوعًا ما أن تعمَد الحكومة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، عشية الانتخابات، إلى تصعيد خطابها حول التهديدات الأمنية المتأتية من الحدود التركية السورية. سيتوجّه الأتراك إلى صناديق الاقتراع يوم 31 آذار/مارس لاختيار ممثّليهم في المجالس المحلية.
لطالما شكّل شمال سورية النقطة التي تلتقي فيها الطموحات الإقليمية التركية مع الواقع على الأرض. فبعد تنفيذ أربع عمليات توغّل عسكري في الأراضي السورية بين العامَين 2016 و2020، سيطرت تركيا على مساحات واسعة من الأراضي لتحييد التهديد المتأتي من حزب العمّال الكردستاني، وهو مجموعة مسلّحة من المتمرّدين الأكراد المنتشرين جنوب الحدود التركية، في سورية والعراق على السواء.
وعلى الرغم من كلّ العمليات العسكرية التي نفّذتها أنقرة، لا تزال المنطقة خطرة جدًّا للقوات التركية. فخلال الشهر الفائت، لقيَ 21 جنديًا تركيًا حتفهم على إثر هجمات متكررة نفّذها حزب العمّال الكردستاني في شمال العراق، حيث أنشأت تركيا قواعد عسكرية عدّة من أجل مواصلة قتالها ضدّ المجموعة الكردية من داخل الأراضي العراقية.
وردًّا على هذه الهجمات، نفّذت تركيا غارات جوية ضدّ المسلحين الأكراد في شمال العراق، واستهدفت أيضًا مواقع في شمال سورية تابعة لقوات سورية الديمقراطية، التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب، وهي ميليشيا كردية سورية يَعتبرها الأتراك امتدادًا لحزب العمّال الكردستاني.
هذا ليس بالأمر الجديد. فتركيا تقصف شمال سورية منذ سنوات، بيد أنها استهدفت في الماضي مواقع عسكرية ضمن نطاق 10 كـيلومترات من الحدود التركية السورية. لكن هذه الاستراتيجية آخذة في التبدّل الآن، إذ بات القصف يصل إلى مواقع أعمق بكثير داخل الأراضي السورية، ليطال أهدافًا في الحسكة وحلب والرقة. ولم تعد الهجمات التركية راهنًا موجّهة ضدّ أهداف عسكرية فحسب، بل باتت تستهدف البنية التحتية المدنية، على غرار مصافي النفط ومحطات الطاقة، التي يُعتقد أنها تدرّ الإيرادات لحزب العمّال الكردستاني. والهدف الذي تتوخّاه أنقرة هو وقف مصادر تمويل حزب العمّال الكردستاني في سورية، وإظهار أن وجود هذه المجموعة المسلحة يُضرّ بأمن الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية التي تتولى قيادتها قوات سورية الديمقراطية.
قد يؤدّي مثل هذا التغيير في الاستراتيجية إلى حدوث تصادم بين تركيا والقوى الأخرى التي تضطلع بأدوار في سورية، أي روسيا وإيران والولايات المتحدة. ومن الجدير بالذكر أن معارضة موسكو وواشنطن حالت لغاية الآن دون تنفيذ تركيا توغّلًا بريًّا خامسًا في شمال سورية. لكن هذا الوضع قد يتبدّل قريبًا، إذ صرّح أردوغان الشهر الماضي، قائلًا: "إن شاء الله، سنتخذ خطوات جديدة في هذا الاتجاه خلال الأشهر المقبلة، بغضّ النظر عمّا يقوله الآخرون".
ليس غريبًا أن يصدر عن الرئيس التركي تصريحات تنطوي على تحدٍّ. وتكمن المشكلة في الاتّهامات التي وجّهتها أنقرة لروسيا والولايات المتحدة بأنهما لم تفيا بوعودهما في سورية. ففي العام 2019، تعهّدت الدولتان بإزالة مقاتلي وحدات حماية الشعب من منطقة بعمق 30 كيلومترًا على طول الحدود التركية السورية. ولأن هذه الوحدات تواصل نشاطها على الحدود، تشعر تركيا أن من حقها التدخل في سورية لحماية أمنها. صحيحٌ أن روسيا والولايات المتحدة عارضتا في السابق شنّ عملية عسكرية تركية، إلّا أن التوترات الدولية في المنطقة ومحيطها قد تصبّ الآن في مصلحة أنقرة.
واقع الحال أن روسيا تضع إعادة إحياء العلاقات بين الحكومة التركية والنظام السوري ضمن أولوياتها. وفيما تتوالى فصول الحرب في أوكرانيا، تتوطّد العلاقة بين موسكو وأنقرة، وباتت تجمعهما روابط أعمق في مجال الطاقة وقطاعات اقتصادية أخرى، إذ يعتمد الكرملين على تركيا لتوفير مستوى من الدعم من أجل تخفيف وطأة العقوبات الدولية. في ظلّ هذه الظروف، فإن تقديم تنازلات لأنقرة في سورية ليس مستبعدًا.
ثمة عقبة أخرى تعيق تعزيز الوجود التركي في سورية، وهي انتشار القوات الإيرانية الداعمة لنظام الرئيس بشار الأسد في البلاد. فمع أن الخلافات لا تزال قائم بين أنقرة وطهران، أشار رئيسا الدولتَين خلال القمة التركية الإيرانية الأخيرة إلى تقارب تدريجي في مصالحهما الإقليمية، ووحدة موقفهما الداعم للشعب الفلسطيني في غزة.
أخيرًا، قد يشكّل الانسحاب المحتمل للقوات الأميركية من شمال شرق سورية عاملًا آخر يسهم في قلب المعادلة لصالح تركيا. فهذا لن يزيل فحسب العقبة المتمثّلة في معارضة واشنطن لعملية تركية أخرى في المنطقة، بل قد يُضعف أيضًا مكانة وحدات حماية الشعب، التي ستخسر داعمها الأساسي وستُترَك لمواجهة التهديد الثلاثي المتمثّل في تنظيم الدولة الإسلامية ونظام الأسد وتركيا. وإذ دعمت مصادر غير رسمية هذه الإشاعة، إلّا أن نائب وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند نفتها رسميًا خلال زيارتها إلى أنقرة مؤخرًا. بل أشارت نولاند إلى مصلحة الدولتَين المشتركة في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية، لافتةً إلى إمكانية العمل سويًا في المنطقة.
أما على صعيد السياسة الداخلية التركية، قد تساعد التعبئة ضدّ حزب العمّال الكردستاني القيادة التركية على تحقيق مكاسب انتخابية. ففي السابق، استُخدمت العمليات العسكرية في شمال سورية كوسيلة لحشد الناخبين وتأجيج حسّهم الوطني. وسيلقى خطاب مكافحة الإرهاب والحاجة إلى إنشاء مناطق آمنة داخل الأراضي السورية لإعادة ملايين السوريين النازحين في تركيا إلى بلادهم، تأييدًا في أوساط مناصري الائتلاف الحاكم.
مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية، من الطبيعي أن نتوقّع أن تلجأ الحكومة التركية إلى التركيز على سرديتها المعادية للأكراد. لكن سيشكّل هذا الأمر مثالًا آخر قد نشهد فيه المؤشرات الأولى لتغيُّر في الاستراتيجية. قد تبدأ القيادة التركية، وفق حساباتها الانتخابية، باستمالة جزءٍ من الناخبين الأكراد. ويبدو أن الأحداث الأخيرة تصبّ في هذا الاتجاه، على غرار التنازلات التي قُدّمت للزعيم السياسي الكردي المُعتقل صلاح الدين دميرتاش، ودعوات قادة أكراد بارزين لإعادة إطلاق عملية السلام.
لا شكّ أن القرار الذي اتّخذه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي المُعارض بطرح مرشّحه الخاص لمنصب رئيس بلدية اسطنبول يغيّر قواعد اللعبة. فانقسام جبهة المعارضة يقلّص فرص فوز رئيس البلدية الحالي أكرم إمام أوغلو بولاية جديدة. ومن أجل تحسين حظوظ حزب الشعوب الديمقراطي الانتخابية، يمكن أن يتبنّى أردوغان سياسة براغماتية أكثر تجاه الأكراد، في تركيا وخارجها.
يمكن التعبير عمّا شهدناه في شمال سورية خلال السنوات القليلة الماضية بجملة مقتبسة من رواية كلاسيكية إيطالية قديمة لجوزيبّه دي لامبيدوزا بعنوانالفهد(The Leopard)، ومفادها: "حتى يبقى كل شيء على حاله، يجب أن يتغير كل شيء". لا تزال أهداف تركيا الطويلة الأمد حيال سورية على حالها، وتتمثّل في إقامة منطقة عازلة خالية من حزب العمّال الكردستاني على طول الحدود التركية السورية، والتوصّل إلى طريقة لإعادة جزءٍ من النازحين السوريين المقيمين في تركيا إلى ديارهم. ولا بدّ من الانتظار لرؤية ما إذا ستعمَد أنقرة إلى تحديث تكتيكاتها واستراتيجياتها لبلوغ هذه الأهداف.