فيما تتوالى فصول الحرب على غزة، تشير التقارير المتواترة خلال الأسابيع الماضية إلى أن إيران طلبت من حلفائها في الشرق الأوسط كبح هجماتهم على القوات الأميركية، خوفًا من أن يجرّها ذلك إلى صراع مع الولايات المتحدة. اتّسمت مقاربة الإيرانيين تجاه غزة بحسابات متأنّية، إذ أظهروا نطاق تأثيرهم عبر حلفائهم في لبنان واليمن والعراق، وحرصوا في الوقت نفسه على عدم إشعال مواجهة إقليمية قد تورّط إيران وتدمّر مصالحها الأساسية.
بيَّنَ النظام الإقليمي الجديد أن إيران لا يمكن تجاوزها. وقد أقرّت الولايات المتحدة تقريبًا بهذا الواقع سواء خلال إدارتَي الرئيسَين باراك أوباما وجو بايدن، أو في ظلّ حكم الرئيس السابق دونالد ترامب الذي لم يتّخذ خطوة انتقامية ردًّا على الهجمات الإيرانية التي استهدفت منشأتَي نفط سعوديتَين في شهر أيلول/سبتمبر 2019. وقد رحّب مؤيّدو ترامب بانسحابه من خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي مع إيران، لكنهم حافظوا على صمت مُطبَق منذ ذلك الحين، فيما مضت إيران قدمًا ببرنامجها النووي. كذلك، لم يُلاحَظ لهم وجود حين أقدم الإيرانيون على قصف محطتَي بقيق وخريص السعوديتَين لتكرير النفط، واكتفى ترامب من بعده بتاكيدٍ خانعٍ على سعيه إلى "تجنّب حربٍ" مع إيران.
بدأت فكرةٌ روّج لها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما تؤتي ثمارها. فقد صرّح في مقابلة أجرتها معه مجلة ذي أتلانتيك في نيسان/أبريل 2016 بأن "التنافس القائم بين السعوديين والإيرانيين، الذي ساهم في إذكاء حروبٍ بالوكالة ونشر الفوضى في سورية والعراق واليمن، يتطلّب منا أن نقول لأصدقائنا وللإيرانيين إن عليهم التوصّل إلى طريقة فعّالة لتقاسم المنطقة وإرساء نوعٍ من السلام البارد". وتَمثَّل المؤشّر الأول على أن هذه النتيجة ممكنة في المصالحة التي تمّت بوساطة الصين بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية العام الماضي. ومنذ ذلك الحين، أكّدت التطوّرات في كلٍّ من العراق وسورية ولبنان واليمن ذلك.
لكن مع الاعتراف بنفوذ إيران الإقليمي المتنامي، ثمة أمرٌ آخر واضحٌ بالقدر نفسه. فحيثما فرض الإيرانيون قوتهم، كانت النتائج كارثية. وقد وصف مراقبون شبكة القوى العسكرية والسياسية الإقليمية الموالية لإيران بـ"محور المقاومة"، لكن الحقيقة أنها في المقام الأول محورُ خرابٍ أينما كان. فسورية واليمن مدمَّران؛ والعراق خاضعٌ لهيمنة الميليشيات الموالية لطهران التي منعت بناء دولة فاعلة، وقوّضت الانتخابات؛ وفي لبنان، حمى حزب الله طبقة سياسية أغرقت البلاد في دوّامة الانهيار الاقتصادي، وعرقلت تنفيذ الإصلاحات؛ وفي غزة، تَسبَّب حلفاء إيران باندلاع حربٍ دمّرت القطاع. إذًا، حيثما ينظر العرب يلاحظون أن النموذج الإيراني عزّز قوة طهران، لكنه ترك المجتمعات العربية في حالةٍ يُرثى لها.
يجب أن يتغيّر هذا الوضع إن كانت إيران تسعى إلى توطيد نفوذها في المنطقة. باستثناء الوضع في العراق، أثبتت الاستراتيجية الإيرانية المتمثّلة في دعم أقلياتٍ مسلّحة متّسقة (عدديًا أو طائفيًا) ضدّ غالبياتٍ منقسمة، أنها فعّالة جدًّا، بيد أنها لا تشكّل مشروعًا مستدامًا طويل الأمد. على سبيل المثال، ترى إيران وحلفاؤها بوضوح أن عملية إعادة إحياء سورية ولبنان لن تتمّ من دون مساعدةٍ ملحوظة من دول الخليج العربية ذات الغالبية السنّية، التي كانت حتى فترةٍ ليست ببعيدة مُنافِسةً إقليمية رئيسة لطهران. كذلك، ونظرًا إلى مستويات الدمار والمعاناة الإنسانية المروّعة في غزة، تمّ على الأرجح تعطيل دور القطاع كوسيلة ضغط إيرانية على إسرائيل. ويُضفي هذا الأمر موثوقيةً على وجهة النظر القائلة إن طهران ساعدت ربما في الإعداد لهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلّا أنها لم تصادق على توقيتها.
ثمّة مؤشّرات على أن إيران تدرك أوجه القصور في نهجها، وأبرزها الاتفاق الذي عقدته مع السعودية. في الوقت عينه، بلغ الإيرانيون الحدود الخارجية لنفوذهم، ولذا ليس من مصلحتهم بالضرورة أن تزداد الصراعات. فلم يَعُد لديهم الكثير ليكسبوه بعد أن أدّوا دورًا قياديًا في الشؤون اللبنانية، والسورية، واليمنية، والعراقية، والفلسطينية، لا بل إن سلطتهم ستتآكل على الأرجح، ما لم يوطّدوا نفوذهم عبر السماح لهذه المجتمعات بتحقيق الاستقرار والتقدّم.
ومع ذلك، ثمّة توتّر مُلازِم لهياكل النفوذ الإيراني في المنطقة. فما يتيح لحلفاء إيران البقاء في مراكز مُهيمِنة في بلادهم هو سلاحهم. وحتى لو كانت طهران على استعداد للتوصّل إلى تسويةٍ مع دول أخرى لإنعاش الأوضاع في أماكن مثل لبنان، وسورية، واليمن، والعراق، وفلسطين، ستميل نحو الإبقاء على المجموعات المسلحة التابعة لها في مكانها لضمان النفوذ الإيراني هناك. هذا التهديد الضمني لن يؤدّي، في مجتمعات العالم العربي التعدّدية، والمتعدّدة الطوائف في أغلب الأحيان، سوى إلى تعاظم الاستياء إزاء حلفاء إيران، ما من شأنه أن يعقّد عملية توطيد نفوذها.
في ضوء ذلك، ما الذي يستطيع الإيرانيون فعله؟ إذا ابتعدوا تدريجيًا عن حلفائهم من الميليشيات لصالح إقامة علاقات على مستوى الدول مع البلدان العربية التي لهم نفوذ فيها، فقد يرَوْن سلطتهم تتقلّص. لكن ذلك قد يكون الخيار الحقيقي الوحيد المُتاح لطهران، حتى وإن كان خيارًا غير مرغوب فيه. والإيرانيون يتمتّعون بالمال والعناصر الثقافية للتعويض عن طريق القوة الناعمة، فيما يدركون ربما أن الدول التي ينشط فيها حلفاؤهم ستظلّ معطّلةً، إذا ما فشلت في نزع سلاح هؤلاء الحلفاء في نهاية المطاف، وهو ما سيؤدّي إلى ردّ فعل عكسي ضدّ طهران.
أيًّا يكن المسار الذي ستختاره إيران، إننا نشهد بالفعل بعض التحوّل المهمّ من جانبها. ومن المرجّح أن تنشأ خيارات الإيرانيين في المنطقة من الديناميات الداخلية، ولكنها ستكون مرتبطةً أيضًا بعلاقات طهران الخارجية. فالنفوذ الصيني على وجه الخصوص سيكون حاسمًا، نظرًا إلى أن بيجينغ أصبحت عاملًا للاستقرار في المنطقة، حيث لها مصالح اقتصادية كبرى. وقد تضطّر إيران إلى استيعاب الصينيين وهم يسعون إلى الوصول بشكل أكثر أمانًا إلى نفط المنطقة وغازها، والمضيّ قدمًا بمبادرة الحزام والطريق. ومن شأن ذلك أن يؤثّر على أنشطة الحرس الثوري الإسلامي الإيراني النافذ، الذي غالبًا ما أتاح له انعدام الاستقرار فرصًا قيّمةً لتوسيع نفوذ إيران.
ولكن من دون فهمٍ واضحٍ للديناميات المؤسّسية داخل إيران، يصعب التنبّؤ بما ستكون عليه المحصّلة النهائية. تمرّ إيران في لحظة مفصليّة في جهودها المستمرّة منذ عقود لتبوّء مركز الصدارة في الشرق الأوسط، إلا أنها تواجه أيضًا انعدام ثقة واستياءً في الكثير من المجتمعات العربية. إن الطريقة التي تعالج بها طهران هذا الوضع والمتطلّبات المتضاربة للسلطة سترسم ملامح المنطقة في السنوات المقبلة.