المصدر: Getty
مقال

حين تقوّض الحدود سيادة سورية

تجادل دراسة جديدة ستصدر قريبًا عن كارنيغي بأن التركيز على المناطق الطَرفية سيكون ضروريًا لفهم المسار الذي ستسلكه البلاد مستقبلًا.

نشرت في ٢ أبريل ٢٠٢٤

منذ العام 2011، أحدث الصراع في سورية تحوّلًا في المناطق الحدودية، إذ باتت سيادة الحكومة السورية على معظم هذه المناطق موضع تنازع بدرجات متفاوتة بين قوى محلية ووطنية وإقليمية مختلفة. وأفرزت هذه الديناميات وضعًا تسعى فيه مجموعة متنوعة من السلطات السياسية المركزية (غير دمشق) إلى فرض نفوذها على الحدود. صحيحٌ أن هذه المناطق الحدودية مختلفة كثيرًا عن بعضها البعض، إلّا أن القاسم المشترك في ما بينها هو أنها كيانات خارجة عن سيطرة دمشق، لكلٍّ منها اقتصاده وأمنه وحتى إيديولوجيته الخاصة. لذا، تُعدّ هذه المناطق كانتونات بحكم الأمر الواقع.

لطالما اتّسمت السيطرة على الحدود السورية بأهمية كبيرة لنظام الأسد. مع ذلك، نظرًا إلى فقدانه نفوذه على جزء كبير من حدود الدولة، إلى جانب سلطته المنقوصة في المناطق الحدودية الخاضعة لسيطرة حلفائه، تشهد سورية اليوم تحوّلًا مهمًّا وطويل الأمد في طريقة عمل دمشق. من المستبعد أن يستعيد النظام سيادته على هذه المناطق الحدودية في وقت قريب، بل من المرجّح أن ترسم القوى المحلية والإقليمية والتفاعلات في ما بينها معالم التطوّرات في تلك المناطق خلال السنوات المقبلة.

ستؤثّر متغيّرات عدّة في حصيلة هذه التفاعلات، وهي: العوامل الديموغرافية، أو تحديدًا مصير السكان النازحين داخليًا واللاجئين؛ والأسواق، أو ما يمكن تسميته العلاقات الاقتصادية العابرة للحدود؛ والأمن. ونظرًا إلى احتمال ألّا تتمكّن دمشق من استعادة سيطرتها الكاملة على مناطقها الحدودية، يبقى السؤال ما إذا ينبغي أن تضمّ الجهود المبذولة لحلّ الصراع السوري مجموعةً أوسع من القوى المحلية والإقليمية، وأن تركّز أيضًا على العوامل الديموغرافية والأسواق والأمن. هذه مسائل تسعى مجموعةٌ من باحثي كارنيغي إلى معالجتها في دراسة مرتقبة.

أدّت حركة الأشخاص دورًا أساسيًا في المناطق الحدودية، ولا سيما في الشمال، لكن هذه الاتجاهات انطوت أيضًا على مفارقة. فقد اتّبع النظام سياسة تقليص عدد السكان المعارضين له ضمن نطاق سيطرته من خلال السماح بقيام مناطق واسعة له فيها وجود محدود أو معدوم تمامًا، على غرار محافظة إدلب القريبة من الحدود التركية. لكن هذا الأمر قوّض سيادة الدولة في هذه المناطق. يقدّم شمال شرق سورية أيضًا خير مثال على هذه المقاربة، حيث سمح النظام لشريحة كاملة من شعبه، أي الأكراد، بإنشاء كيان يتمتّع بحكم ذاتي.

تطوّرت الأسواق والعلاقات الاقتصادية العابرة للحدود وشهدت الكثير من التحوّلات، حتى إنها حلّت في مناطق محدّدة محل العلاقات التي كانت قائمة بين الأسواق ما قبل الحرب. شكّلت السيطرة على هذه العلاقات عاملًا رئيسًا ساهم في تعزيز سلطة الدولة السورية قبل الصراع. ونظرًا إلى العلاقات الاقتصادية الجديدة، كما شهدنا في بلدة سرمدا مثلًا، أصبحت المناطق الحدودية أكثر ارتباطًا بتركيا من دمشق. ويمثّل هذا التطوّر جانبًا آخر من جوانب تقهقر سيادة الدولة السورية في هذه المناطق.

يبقى الأمن القضية الرئيسة التي ستشكّل مستقبل الصراع السوري في المناطق الحدودية. فعلى مدى العقد الماضي تقريبًا، برزت في سورية أنظمة أمنية موازية، تركية وإيرانية وأميركية، يعمل كلٌّ منها في مناطق جغرافية محددّة العمليات والنفوذ. صحيحٌ أنها قد تختلف عن بعضها البعض، إلّا أنها تسبّبت إلى حدٍّ كبير بتقويض سيادة الدولة والنظام في سورية.

لقد أقامت المنظومة الأمنية التركية مناطق دفاع ذاتي فعّالة وأعادت تشكيل هياكل النفوذ المحلية في أجزاء من الشمال حيث يتواجد الجيش التركي. أما النموذج الإيراني الأكثر مرونةً فقد ربط العراق بشرق سورية وجنوبها ولبنان، من خلال دعم الميليشيات المحلية الموالية لطهران. أظهر معبر القائم-البوكمال الحدودي مع العراق مثلًا كيف تستخدم إيران هذه الممرّات لتعزيز ميليشياتها، ما سمح لها ببسط نفوذها الإقليمي، وحتى بتوسيع نطاق تأثيرها على المجموعات القبَلية العربية المسلّحة في المنطقة. للولايات المتحدة أيضًا وجود في شرق وشمال شرق سورية، إضافةً إلى قاعدتها في التنف بالقرب من الأردن، التي أُنشئت في إطار مشاركتها في التحالف ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية. إذًا، ستكون قدرة دمشق على استعادة سيادتها في هذه المناطق الحدودية كافة شبه معدومة في المستقبل المنظور.

لقد دمّر الصراع في سورية الإطار الوطني للبلاد بالكامل، وقامت ترتيبات محلية-إقليمية على أنقاضه، وظهرت هذه الروابط في الحدود السورية كافة. وبالتالي لم تعد المقاربات الحالية للتوصل إلى حل للأزمة مفيدةً اليوم. فعملية جنيف مثلًا، التي افترضت حدوث عملية انتقال سياسي ضمن إطار وطني سوري، باتت غير واقعية. وحتى الاتفاقات المحلية المنبثقة عن عملية الأستانة التي ركّزت على الجانب الأمني وتمّت بين إيران وروسيا وتركيا، أمست غير فعّالة. لم تأخذ أيٌّ من هاتَين العمليتَين في الحسبان التحوّلات الجذرية التي أثّرت على الهياكل السياسية والاجتماعية والأمنية سورية منذ اندلاع الحرب. وإلى حين اعتماد مقاربة جديدة تشمل عنصرًا محليًا فعّالًا ضمن معادلات إقليمية جديدة، ستبقى سورية معلّقة في حالة من الضبابية واللايقين، ما سيضرّ بسيادتها ومجتمعها الذي دمّرته الحرب.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.