أقرّ مجلس النواب اللبناني يوم 25 نيسان/أبريل تأجيل انتخابات المجالس البلدية للمرة الثالثة على التوالي. يذكّرنا هذا النمط المُقلق بمراحل سابقة محفوفة بالاضطرابات مرّت على البلاد تاريخيًا، إذ ترقى آخر مرة شهد فيها لبنان تمديد ولاية المجالس البلدية بصورة متكرّرة إلى ستينيات القرن المنصرم. ففي العام 1967، تمّ تأجيل الانتخابات التي كانت مُقرَّرة، واستمرّ التمديد لأكثر من ثلاثة عقود، إلى أن استؤنفت في العام 1998.
لم يكن قرار تأجيل الانتخابات البلدية مفاجئًا هذه المرة. فالطبقة السياسية لا تحرص عمومًا على إجرائها، لأن قدرة السياسيين على التحكّم بالديناميات البلدية أضعف من قبضتهم المُحكَمة على السياسات الوطنية. لكن كل تأجيل إضافي يقوّض على نحو متزايد ثقة الشعب بالمؤسسة السياسية والنظام السياسي، ويزيد خيبة أمله منهما.
تضطلع المجالس البلدية في لبنان بمسؤولية الإشراف على مهام مختلفة ضمن مناطق جغرافية محدّدة. وتشمل هذه المسؤوليات صيانة الطرقات، وإدارة المرافق العامة مثل المدارس والمستشفيات، وإنشاء مراكز ثقافية مثل المتاحف والمكتبات، فضلًا عن تأمين خدمات جمع النفايات، وضمان توفير الرعاية الاجتماعية العامة. ينتخب الشعب أعضاء المجلس البلدي بالتصويت العام المباشر لمدة ست سنوات، ولا يكرّس القانون التمثيل الطائفي في الانتخابات البلدية، على خلاف الانتخابات التشريعية. يبلغ عدد البلديات في لبنان اليوم 1059 بلدية، تُمثّل مدنًا أو بلدات أو مجموعات من القرى الصغيرة. في الوقت الرهن، باتت أكثر من 100 بلدية مُنحَلّة نتيجة استقالة بعض أعضائها أو وفاتهم أو أسباب أخرى، ويتولّى القائمقام أو المحافظ إدارة شؤونها.
تشكّل منظومة البلديات في لبنان محور النقاشات التي يُطلقها الإصلاحيون حول قضايا اللامركزية الإدارية، والتنمية الاقتصادية، والمشاركة السياسية. وخلال أوائل تسعينيات القرن الماضي، مع انطلاق عملية إعادة الإعمار بعد انتهاء الحرب الأهلية، ولّدت محاولات إعادة بناء الشرعية السياسية في البلاد زخمًا يسعى إلى إعادة تفعيل هيكليات الحوكمة المحلية. لكن قصة المجالس البلدية اللبنانية بدأت قبل ذلك بقرنٍ ونصف تقريبًا.
تشكّلت أولى بلديات لبنان في عهد العثمانيين بهدف توسيع نطاق حكمهم عَقِب الاضطرابات التي وقعت خلال أربعينيات القرن التاسع عشر. وتولّت هذه المجالس في المقام الأول حلّ الخلافات والتواصل مع المسؤولين العثمانيين. ولاحقًا، خلال القرن العشرين، وسّعت سلطات الانتداب الفرنسي والحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال هذا النظامَ ودمجت النخب المحلية في الدولة. لكن الانتخابات تأجّلت، بعد أن جرت آخر مرة في العام 1963، بصورة متكرّرة نتيجة التوترات الإقليمية، ثمّ توقّفت لفترة طويلة خلال الحرب الأهلية بين العامَين 1975 و1990.
مع ذلك، بقيت السياسات البلدية اللبنانية، حتى من دون الانتخابات، ساحةً تتجاذبها القوى المحلية المتصارعة على السلطة، حتى وسط الفوضى العارمة خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية (1975-1977). وشكّل إقرار قانون البلديات للعام 1977 الأساس القانوني للنظام البلدي الحالي، بيد أن ظروف الحرب حالت دون تنفيذه بالكامل. ولم يتجدّد الاهتمام بإصلاح هذا النظام وبالانتخابات البلدية إلّا بعد انتهاء الحرب، إنما في سياق مختلف للغاية.
لقد بقي وعد اللامركزية وتوسيع صلاحيات المجالس المحلية مجرّد حلمٍ بعيد المنال، على الرغم من ذكر هذا البند في اتفاق الطائف الذي أُقرّ في العام 1989 مُعلنًا قيام الجمهورية الثانية في لبنان بعد الحرب. وبينما كانت الحكومة المركزية تستعيد قوتها، واجهت البلديات تحديّات وجودية. وخلال تسعينيات القرن الماضي، سعت حملات أطلقها المجتمع المدني، مثل حملة "بلدي، بلدتي، بلديتي"، إلى إعادة إحياء الانتخابات البلدية على المستوى الوطني، وتكلّلت هذه الجهود بالنجاح مع إجراء هذا الاستحقاق في العام 1998، مع أن الحكومة اعتبرته مصدر إزعاج. آنذاك، كانت أكثر من 100 مدينة وقرية في جنوب لبنان لا تزال خاضعة للاحتلال الإسرائيلي، وبالتالي لم تشهد انتخاباتٍ لغاية العام 2001. وبحلول العام 1998، كانت الانتخابات التشريعية في فترة ما بعد الحرب قد أُجريت مرّتَين، وذلك في العامَين 1992 و1996. أمّا الانتخابات البلدية فقد أُجريت مجدّدًا خلال 2004 و2010 و2016.
لكن بعد العام 2009، لجأ لبنان مرات عدّة إلى تأجيل الانتخابات التشريعية والرئاسية، لكن المستغرب أنه لم يؤجّل الانتخابات البلدية. أُجريت آخر انتخابات بلدية في العام 2016، بعد مرور سبع سنوات على إجراء الانتخابات التشريعية. ورأت المجموعات المعارِضة للمنظومة الحاكمة في هذه الانتخابات خطوةً مهمة على طريق التغيير والتجديد الديمقراطيَّين. وحتى في ظل انعدام الاستقرار السياسي في الداخل اللبناني والحرب المستعرة في سورية وانخراط حزب الله فيها، جرت الانتخابات في مرحلةٍ كان الاستياء الشعبي من الأحزاب السياسية يكتسب زخمًا. وقد بلغ هذا السخط ذروته في العام 2015، عندما أدّت أزمة افتعلها أفراد الطبقة السياسية لزيادة أرباحهم من جمع النفايات، إلى إغراق معظم شوارع لبنان تحت أكوام القمامة لأسابيع، ما أثار موجة استنكار وأطلق شرارة الاحتجاجات.
بينما واجهت المنظومة السياسية غضبًا شعبيًا متناميًا، شكّلت الانتخابات البلدية حالةً شهدت تحالف الأحزاب الحاكمة المُتناحرة مع بعضها البعض، حتى لو كان ذلك لضمان بقائها السياسي لا غير. كانت المطالب المُنادية بحوكمة محلية فعّالة في أوجها، وتجلّى هذا المنحى بوضوح في الإقبال الكبير على التصويت لصالح لائحة "بيروت مدينتي" في بيروت، التي ضمّت في الغالب شخصيات من المجتمع المدني، قدّمت نفسها على أنها صورة نقيضة لمرشّحي الأحزاب الحاكمة الفاسدين.
بالعودة إلى اليوم، يجد لبنان نفسه غارقًا في تدهور اقتصادي وشلل سياسي. إن تأجيل الانتخابات البلدية في العام 2022، لإعطاء الأولوية للانتخابات التشريعية كما قيل، ثمّ مجددًا في العام 2023، بسبب قيود التمويل المزعومة، يعبّر عن عدم اهتمام الحكومة كثيرًا بصون ما تبقّى من مؤسّساتها. فالتأجيل الثالث هذا العام إنما يدلّ على كيفية ممارسة السياسة في هذا البلد، حيث مؤسسات الدولة وسيادة القانون هما في أحسن الأحوال من الاهتمامات الثانوية لحكومةٍ متحالفةٍ مع حزب الله. كذلك، يأتي هذا التأجيل في وقتٍ أدّى الصراع عبر الحدود بين حزب الله وإسرائيل إلى نزوح عشرات آلاف اللبنانيين من الجنوب، فيما تستضيف البلاد أيضًا ما يزيد عن مليون لاجئ سوري، وفقًا للحكومة اللبنانية.
في ضوء ذلك، كان قد اقترح بعض المشرّعين إجراء الانتخابات البلدية في المحافظات غير المتأثّرة بالصراع. حتى إن وزير الداخلية سبق أن حدّد مواعيد الانتخابات في محافظة جبل لبنان، تليها محافظات لبنان الشمالي، وعكار، وبيروت وبعلبك-الهرمل. لكن إجراء الانتخابات في بعض المحافظات دون الأخرى، وكأن ثمّة لبنانَين، واحد في حالة حرب وآخر يُجري انتخابات، قد لا يكون أمرًا يقبله حزب الله.
إن اقتصاد لبنان المنهار لا يبرّر التأجيل أيضًا. فمن الممكن معالجة معدّلات الفقر المتصاعدة في مختلف أنحاء البلاد من خلال حوكمة محلية متجدّدة ومُعزَّزة الصلاحيات. فضلًا عن ذلك، تؤجّج التحدّيات التي تعصف بلبنان النقاشات الجارية حول إنشاء نظام فدرالي جديد، يكون الغرض منه الحدّ من سلطة الحكومة المركزية الفاسدة. ويقضي بعض المقترحات الراديكالية المطروحة على طاولة النقاش بتخصيص كل بلدية، على أساس الانتماء الديني لغالبية سكانها، لواحدٍ من أربع كانتونات طائفية أو أكثر تُشكِّل جمهورية لبنان الفدرالية الجديدة. وأولئك الذين يفضّلون المقترحات الأقلّ راديكاليةً، مثل اعتماد اللامركزية الإدارية في ظلّ النظام الحالي، ينظرون هم أيضًا إلى تعزيز إمكانات البلديات على أنه خطوة حاسمة للابتعاد عن فساد السلطات المركزية في الدولة.
في نهاية المطاف، يؤكّد التأجيل المتكرّر للانتخابات البلدية على وجود أزمة حوكمةٍ وديمقراطيةٍ عميقة في لبنان. ففي حين أن النظام البلدي يحمل آمالًا واعدةً بالتمكين المحلي والديمقراطية التشاركية، تبقى إمكاناتُه غير مُحقَّقة، إن لم يكن عن قصد في الوقت الحاضر. لذا، يتطلّب المسار العام للمضيّ قدمًا في لبنان بذلَ جهود متضافرة لفرض سيادة القانون، وفي الوقت نفسه تحقيق المشاركة السياسية الشاملة للجميع، ومكافحة الفساد، وإعادة بناء الاقتصاد، والحدّ من التدخّل الخارجي في الشؤون الداخلية. إنها لمهمّةٌ جسيمة، ولكن أيّ إجراء لا يُحدث تغييرًا فعليًّا في المشهد السياسي اللبناني سيفاقم حالة انعدام الاستقرار والتدهور في البلاد. ويشير تأجيل الانتخابات البلدية إلى أن الوصول إلى هذه النتيجة أصبح أكثر ترجيحًا.