ماذا حدث؟
في ليل 13-14 نيسان/أبريل الجاري، نفّذت إيران هجومًا على إسرائيل، ردًّا على قتلها عناصر رفيعي المستوى في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، من ضمنهم قائد فيلق القدس في سورية ولبنان محمد رضا زاهدي، ورئيس هيئة الأركان العامة لفيلق القدس في سورية ولبنان حسين أمان اللهي، وقائد العمليات المتعلّقة بفلسطين محمد هادي حاجي رحيمي. وقد أطلق الإيرانيون نحو 200 صاروخ وصواريخ كروز وطائرات مسيّرة على إسرائيل، لكن أعلن المسؤولون العسكريون الإسرائيليون عن تدمير معظمها، وأنها لم تلحق سوى أضرار طفيفة.
كان الردّ الانتقامي الإيراني متوقّعًا، حتى إن مسؤولين أميركيين تنبّأوا بالتوقيت المحدّد للهجوم المرتقب إلى وسائل الإعلام. الحملة الترويجية الكبيرة الذي سبق هذه العملية، والتطمينات الإيرانية بأن الاستجابة ستسعى إلى تجنّب نشوب صراع إقليمي، وإدراك إيران أن إسرائيل والولايات المتحدة ستتمكّنان من رصد إطلاق الصواريخ والطائرات المسيّرة في وقتٍ مبكر واعتراض عددٍ كبير منها، كلّها عوامل تشير إلى أن الإيرانيين أرادوا على الأرجح إحداث تأثير نفسي أكثر من التسبّب بالكثير من الموت والدمار.
في هذا الصدد، من المنظور الإيراني، ما من صور كثيرة تُعدّ أقوى من مشهد الصواريخ التي تحلّق فوق المسجد الأقصى في القدس. فهذا الأمر يرمز على أفضل وجه إلى طموحات إيران بتحرير أحد أقدس المواقع في الإسلام من السيطرة الإسرائيلية، ويجسّد في الوقت نفسه نقاط ضعف إسرائيل في وجه محور المقاومة بقيادة إيران.
أين تكمن أهمية المسألة؟
لطالما افترضت إسرائيل أن ضمان أمنها لا يتحقّق إلّا إذا كان ميزان القوة العسكرية بينها وبين أعدائها يميل بشدّة لصالحها. هذا يعيد إلى الأذهان فكرة "الجدار الحديدي" التي تحدّث عنها أولًا المفكِّر الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي، الذي جادل في مقال في العام 1923 بأن الاستيطان اليهودي لفلسطين يجب أن يمضي قدمًا خلف "جدار حديدي" من التفوّق العسكري الإسرائيلي الكاسح. وهذا لأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يوافق بموجبها العرب على الوجود اليهودي في فلسطين، "هي الجدار الحديدي، أي القوة الصلدة في فلسطين التي لا تذعن إلى أي ضغط عربي. بتعبير آخر، تكمن الوسيلة الوحيدة للوصول إلى اتفاقية في المستقبل في التخلّي عن كل فكرة تسعى إلى إبرام اتفاقية في المرحلة الراهنة".
واليوم، عمَدت إسرائيل إلى تمديد هذا المبدأ ليشمل المنطقة بأكملها. وعلى الرغم من أن جابوتنسكي كان عدوًا للحركة العمّالية الصهيونية التي هيمنت في نهاية المطاف على الحياة السياسية الإسرائيلية طيلة عقود، تبنّت القيادة والجيش الإسرائيليَّين منذ مدّة فكرة "الجدار الحديدي". لهذا السبب كان الردّ على الهجمات التي شنّتها حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر شرسًا للغاية. يمثّل هذا أيضًا الأساس المنطقي لِما يُعرف بـ"عقيدة الضاحية" التي صاغها الجنرال الإسرائيلي غادي أيزنكوت، وهو حاليًا وزير في الحكومة الإسرائيلية. هذه الاستراتيجية، التي برزت للمرة الأولى في العام 2006 خلال الحرب الإسرائيلية على حزب الله في لبنان، ترتكز على قيام إسرائيل بتدمير البنى التحتية المدنية والعسكرية لخصومها بشكلٍ غير متكافئ لثنيهم عن مهاجمتها مجدّدًا.
لكن إسرائيل تجاوزت خطًّا أحمر إيرانيًا حين قصفت مجمّع السفارة الإيرانية في دمشق يوم 1 نيسان/أبريل. فيما قبل الإيرانيون نوعًا ما القتل الإسرائيلي الممنهج لشخصيات من الحرس الثوري وعناصر من حزب الله على مرّ السنين في سورية، يمكن تبرير ذلك بأن إيران كانت ماضية بنجاحٍ في إقامة بنية تحتية عسكرية في جنوب سورية قادرة على استهداف إسرائيل والجولان المحتلّ. وبالتالي، من غير المنطقي تعريض هذا المجهود للخطر من خلال الدخول في مواجهة واسعة مع إسرائيل، وربما حتى مع الولايات المتحدة.
أما الهجوم على مجمّع السفارة فقد حمل بُعدًا مختلفًا. فهو لم يؤكّد فقط استعداد إسرائيل لتجاهل الحماية الدبلوماسية (على الرغم من أن مؤيّدي إسرائيل جادلوا بأن المبنى الذي قُتل فيه قياديّو الحرس الثوري، لم يكن، من الناحية التقنية، مبنى دبلوماسيًا)، بل وقع أيضًا في سياق أوسع بعد هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر،سعت خلاله إسرائيل إلى تعديل قواعد الاشتباك في سورية ولبنان بما يصبّ في مصلحتها، مقلّصةً هامش المناورة المتاح أمام إيران وحزب الله. بعبارة أخرى، دخلت هذه الخطوة في صميم التنافس بين إسرائيل وإيران على الهيمنة الإقليمية، وكان واضحًا أن طهران لن تسمح بحدوث ذلك.
الأكثر مدعاةً للقلق أن قصف مبنى القنصلية ربما كان أيضًا محاولةً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لجرّ الولايات المتحدة إلى صراعٍ مع إيران. فمن الأولويات الإسرائيلية إضعاف الإيرانيين وبرنامجهم النووي بشكلٍ حاسم، لكن تحتاج إسرائيل إلى انخراط الولايات المتحدة في حملة القصف على الجمهورية الإسلامية لينجح ذلك، مع أملها أيضًا بالإطاحة بالقيادة الإيرانية. لقد نجحت واشنطن في تفادي ذلك مرارًا وتكرارًا. وبحسب شبكة NBC News ، أعرب الرئيس الأميركي جو بايدن عن قلقه إزاء نية نتنياهو الدفع نحو حربٍ أوسع، لذلك سعى سريعًا إلى تقييد خيارات إسرائيل.
ما هي التداعيات في المستقبل؟
في المستقبل القريب، كان النبأ الأساسي في صبيحة يوم 14 نيسان/أبريل المحادثة التي أجراها بايدن مع نتنياهو وتطرّق فيها بوضوح إلى مسألتَين اثنتَين: الأولى أن إيران لم تتمكن من التسبّب بأضرار كبيرة، ولذلك يتعّين على إسرائيل اعتبار أنها حقّقت نجاحًا. فقد نُقِل عن بايدن قوله: "حقّقتم فوزًا. فاقبلوا بهذا الفوز". أما الثانية فهي أن الولايات المتحدة لم ترَ، في ضوء الفشل الإيراني، أيّ داعٍ للتوجّه نحو مزيدٍ من التصعيد والتسبّب بصراعٍ على صعيد المنطقة. تبعًا لذلك، إذا قرّرت إسرائيل الردّ على إيران، فإن إدارة بايدن لن تشارك في أي عملية من هذا القبيل.
لم يتّضح بعد كيف سيكون الردّ الإسرائيلي. فقد قال وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، إن التشنّجات مع إيران "لم تنتهِ"، بعدما كان نتنياهو قد صرّح، مساء 13 نيسان/أبريل، أن "مَن يؤذينا سنؤذيه. سندافع عن أنفسنا ضدّ أي تهديد وسنفعل ذلك بكل حزم وتصميم". من الممكن أن يقرّر نتنياهو الردّ من تلقاء نفسه، ولكن إذا كان الهدف إعادة إرساء ردعٍ متكافئ، فهو لا يستطيع أن يسمح بأن تكون الاستجابة دون المستوى المطلوب. تشير كل الدلائل إلى أن إيران تحتفظ بمجموعة واسعة من الوسائل لإلحاق الأذى بإسرائيل وإنهاكها من خلال تكبيدها الكثير من الجروح الصغيرة. علاوةً على ذلك، لا تزال قوات نتنياهو تقاتل في غزة، لذا من شأن تصعيد النزاع إقليميًّا أن يزيد من تعقيدات المعركة الطاحنة ضدّ حركة حماس.
عمومًا، تبدو إسرائيل، لأوّل مرّة في تاريخها، مكشوفةً على نحو خطير. ربما لا تواجه البلاد تهديدًا وجوديًّا، ولكنها تجني ثمار سياسة انتهازية تقوم إلى حدٍّ كبير على تجاهل الحقوق الفلسطينية والعربية، وتقطع الطريق على جميع السُّبل التي قد تُرغم إسرائيل على التنازل عن أراضٍ تحتلّها. لقد استغلّ الإيرانيون ذلك جيّدًا، وحتى لو لم تتسبّب هجماتهم الأخيرة بدمار واسع، فإن الضربات المقبلة، ولا سيما تلك التي تُنفَّذ من دون إنذار مسبق، قد تكون أكثر دموية. وهذا في حدّ ذاته كافٍ لتقول إيران إنها أعادت فرض توازن الردع، حتى لو لم يتبيّن بعد ما إذا كانت أي هجمات إضافية ضدّ مسؤولين إيرانيين في سورية ستستدعي ردًّا مماثلًا انطلاقًا من الأراضي الإيرانية.
هذه النظرة التي توحي بالعجز هي ما يثير سخط القادة الإسرائيليين. لطالما أظهرت إسرائيل نفسها في موقع قوّة. وقد نجح الإيرانيون في خدش تلك الصورة. يصعب أن نرى كيف يمكن لنتنياهو أن يأخذ باقتراح بايدن "القبول بالفوز"، في حين أن طبيعة الهجوم الإيراني تشير إلى أقل من ذلك.