المصدر: Getty
مقال

تفويض دبلوماسي في بيروت

يتحدّث سفير أميركي سابق، في كتابه الصادر حديثًا، عن التحوّلات الدائمة في سياسة واشنطن تجاه لبنان.

 عصام القيسي
نشرت في ١٧ مايو ٢٠٢٤

كتب سفير الولايات المتحدة لدى لبنان، ديفيد هيل، في كتابه الذي صدر مؤخرًا ويحمل عنوان "الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان: ستُّ محطات وأمثولاتُها (1943-2023)" أن التدخّل الأميركي في لبنان اتّبع في معظم الأحيان نمطًا يمكن التنبؤ به. وتأرجح هذا النهج الأميركي بين توقعات مفرطة تلاشت تحت وقع الحقائق المرّة، ما دفع بالولايات المتحدة إلى الانسحاب خلال مراحل معيّنة.

يسرد هيل، الذي يشغل راهنًا منصب زميل عالمي في مركز ويلسون في واشنطن العاصمة، تاريخ الدبلوماسية الأميركية في لبنان منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. ويقدّم آراء قيّمة حول التعقيدات التي تميّز الانخراط الأميركي في بيروت، بالاستناد إلى مسيرته المهنية المميّزة في وزارة الخارجية، حيث شغل منصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية وكان سفيرًا للولايات المتحدة في كلّ من لبنان وباكستان والأردن. وبينما يستعيد الشرق الأوسط مكانته على الساحة العالمية، يقدّم كتاب هيل تحليلات تاريخية للديناميكيات التي أثّرت على المنطقة ولا تزال، ما يجعل قراءته ضرورية للباحثين وصنّاع السياسات واللبنانيين الذين يميلون منذ فترة طويلة إلى تحليل سلوك واشنطن في المنطقة.

يستعرض هيل ستّ محطات مفصلية من الانخراط الأميركي في لبنان. ويتناول في كل فصل حدثًا تاريخيًا معيّنًا، بدءًا من استقلال لبنان والتدخّل العسكري في العام 1958 في عهد الرئيس دوايت آيزنهاور، ومرورًا بالجهود الدبلوماسية الأميركية لتجنّب تصعيد الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1976، والتدخّل العسكري للرئيس رونالد ريغان بين 1982 و1984، ووصولًا إلى سياسة "سورية أولًا" التي تبنّاها الرئيس بيل كلينتون خلال تسعينيات القرن المنصرم، ودعم الرئيس جورج دبليو بوش لـ"أجندة الحرية" خلال العقد الأول من القرن الحالي.

تسلّط كل محطة من هذه المحطات، في فصل من فصول الكتاب، الضوء على تأثير الديناميكيات العالمية والإقليمية في لبنان وأهداف السياسة الخارجية الأميركية. يتطرّق هيل في كتابه إلى بعض المواضيع بصورة متكرّرة منها: التقلّبات في حجم التدخّل الأميركي في لبنان، والتحديات التي طرحها حلفاء الولايات المتحدة من جهة وخصومها من جهة أخرى، فضلًا عن وجهات النظر المتباينة بين صنّاع السياسات الأميركيين والأفرقاء الشرق أوسطيين حول مسائل الحوكمة وحلّ النزاعات. ويسعى هيل في تحليلاته إلى فهم الطبيعة الدورية للانخراط الأميركي في لبنان، الذي تميّز بفترات تدخّل مكثّف وتلتها فترات إهمال، والتحديّات المتواصلة في إدارة العلاقات مع أصدقاء الولايات المتحدة وخصومها في المنطقة.

تستند خبرة هيل في هذا المجال إلى مسيرة مهنية دبلوماسية مميّزة امتدّت لأكثر من ثلاثة عقود. انضمّ إلى السلك الدبلوماسي في العام 1985، وشغل مناصب دبلوماسية مهمة في جميع أرجاء المنطقة، بما فيها تونس والبحرين والمملكة العربية السعودية. وسطع نجمه على السواء في المناصب التي تولّاها في واشنطن، حيث عمل كنائب مساعد لوزيرة الخارجية لشؤون العلاقات مع إسرائيل ومصر وبلاد الشام (2008-2009) وكمدير للشؤون الإسرائيلية الفلسطينية (2001-2003)، وشغل أيضًا منصب مساعد تنفيذي لوزيرة الخارجية مادلين أولبرايت خلال عهد كلينتون.

المُلفت في تجاربه كان خدمته المكثّفة في سفارة الولايات المتحدة في بيروت، التي امتدّت طوال 25 عامًا تقريبًا. بدأ عمله كالمسؤول السياسي الوحيد في السفارة خلال العام 1992، وشغل لاحقًا منصب نائب رئيس البعثة عندما كان ديفيد ساترفيلد سفيرًا بين العامَين 1998 و2001، قبل أن يُعيَّن هيل سفيرًا لدى لبنان بين 2013 و2015. وكان لمساهمات هيل، خلال جميع هذه السنوات، أثرٌ كبير على العلاقات بين الولايات المتحدة ولبنان.

عمومًا، ينظر المسؤولون الأميركيون إلى لبنان كقالب من القضايا المعقّدة والمثيرة للقلق، إلّا أنها لا تحظى بأهمية حيوية لمصالح واشنطن. كان التدخّل الأميركي في البلاد متقطعًا، إذ حرّكته مخاوف أبعد من التركيز الحقيقي على لبنان بحدّ ذاته. واتّضح ذلك خلال العامَين 1957 و1958 عندما دعمت الولايات المتحدة لأول مرة الرئيس كميل شمعون، ما أدّى إلى فوز كتلته البرلمانية في انتخابات العام 1957، ومن ثمّ نشر 14 ألف جندي في العام 1958 بعد انقلاب 14 تموز/يوليو في العراق، بهدف دحر ما اعتبره الأميركيون تهديدًا قوميًا عربيًا مدعومًا من الاتحاد السوفياتي في المنطقة. وكانت هذه الإجراءات بمثابة الخطوة الأولى في تنفيذ مبدأ آيزنهاور، الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة استعدادها للتدخّل بهدف حماية أنظمة تراها معرضة للتهديد من الشيوعية العالمية. علاوةً على ذلك، رسخ هذا التدخّل صورة الانخراط الأميركي الدائم في السياسة اللبنانية. لكن الأميركيين، في نهاية المطاف، لعبوا دورًا في إقناع الأطراف المتناحرة بإنهاء النزاع من خلال التوصّل إلى تسوية انتُخب بموجبها قائد الجيش فؤاد شهاب رئيسًا. ولا شكّ في أن مثل هذه التسويات السياسية ستواصل رسم معالم السياسة اللبنانية خلال الأعوام الخمسين المقبلة.

علاوةً على ذلك، يؤثّر التصوّر بأن الولايات المتحدة تواصل التدخّل في الشؤون اللبنانية في كيفية تعامل السياسيين اللبنانيين مع المسؤولين الأميركيين اليوم. في هذا السياق، يرى هيل أن المسؤولين اللبنانيين يعيرون اهتمامًا كبيرًا لموقف الولايات المتحدة من الأحداث الدائرة في بلدهم، حتى أن بعضهم يطلب المشورة والتوجيه من المسؤولين الأميركيين بشأن الخطوات المحتملة بهدف تقييم علاقتهم مع واشنطن. ويتناقض ذلك مع تجارب هيل في دول أخرى، حيث يركّز المسؤولون بصورة أكبر على تقديم المشورة للأميركيين حول سياساتهم. لذا، يعتقد هيل أن على الدبلوماسيين الأميركيين في لبنان الاعتراف بأن الولايات المتحدة لا يمكن أن تنأى بنفسها عن الديناميكيات المحلية في لبنان. ودفعه هذا الإدراك إلى التأكيد على الأثر الكبير الذي خلّفته الولايات المتحدة في لبنان، سواء من خلال التدخّل أو التقاعس، مؤكدًا ضرورة إمعان النظر في النهجَين على السواء.

يشير هيل إلى فترة زمنية قريبة، بعد انتهاء ولايته كسفير في بيروت في العام 2015، خلال مرحلة أخرى واجه فيها لبنان مأزقًا سياسيًا. وهنا، يستذكر أن الدبلوماسيين الأميركيين شنّوا "حملة نشطة وغير مدروسة" لدعم ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية. لكن هذه الخطوة لم تصبّ في النهاية في مصلحة أي طرف باستثناء رئيس التيار الوطني الحر آنذاك، ميشال عون، الذي انتخب رئيساً.

لا يدافع كتاب هيل عن تعزيز التدخّل الأميركي في الشؤون اللبنانية، بل على العكس، هو يسعى إلى تقديم فهم أعمق للأوضاع في لبنان ويهدف إلى معالجة التناقضات في نهج السياسة الأميركية تجاه البلاد. ويعتبر هيل الانخراط المستمر المترافق مع عرض واضح لأهداف السياسة الأميركية تجاه لبنان والمنطقة الأوسع بمثابة نقطة انطلاق نحو سياسة خارجية أفضل. في المقابل، لم تؤدِ فترات الإهمال أو التقاعس من جانب الولايات المتحدة، على غرار عدم ردّ إدارة ريغان على تفجير ثكنات المارينز في العام 1983 في بيروت، سوى إلى تشجيع خصوم واشنطن.

يعترف هيل أيضًا بالتحدّي الذي يطرحه الحفاظ على سياسات ثابتة خلال الدورات الانتخابية الأميركية التي قد تؤدي نتائجها إلى تحولات مفاجئة في الخارج. وتفسح هذه التحولات بدورها المجال أمام خصوم الولايات المتحدة غير الديمقراطيين، وحتى بعض حلفائها، للجوء دائمًا إلى خيار التريُّث وانتظار انتهاء ولاية الإدارات التي يعارضونها. ويعتبر هيل أن إرساء مزيد من الاستقرار في الشرق الأوسط، وبالتالي في لبنان، يتطلّب وضع خطط طويلة الأمد وتنفيذ استراتيجيات ثابتة وتبنّي سياسات واضحة لمعالجة القضايا الأساسية في المنطقة.

يقدّم الكتاب سردية مقنعة لانخراط الولايات المتحدة في لبنان. ومع تطوّر الأحداث في الشرق الأوسط، تشكّل آراء هيل دروسًا قيّمة ووجهة نظر من الداخل حول ذهنية الدبلوماسيين الأميركيين في ما يتعلق بالشأن اللبناني، ناهيك عن أنها مهمة بالنسبة إلى المسؤولين اللبنانيين الذين يحاولون فهم السياسة الأميركية تجاه بلادهم أو التعامل معها أو التأثير عليها في المستقبل.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.