عندما تتحوّل الدراما الخاصة بك إلى سيكودراما أميركية، فاعرَف أنك تحقّق نجاحًا. إذ يواصل الطلاب في الولايات المتحدة احتجاجهم ضدّ المذابح التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتدميرها مساحات واسعة من القطاع لجعل الحياة فيه مستحيلة، أصبحت محنة الفلسطينيين قضيةً أخلاقيةً مركزيةً لجيلٍ من الشباب الأميركي الذي لا يتحمّل مشاهدة هذه الأعمال الشائنة تتواصل.
أرادت إسرائيل أن يكون ردّها الانتقامي ردًّا لا يُنسى، لئلّا يحاول الفلسطينيون مجددًا شنّ هجوم مثل هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر. غير أن لذلك عاقبتَين. فكلّما واصلت إسرائيل قصف سكان غزة من دون رحمة، ازدادت إحراجًا المؤسساتُ الأميركيةُ التي ترفض سحب استثماراتها مع إسرائيل، منها جامعة كولومبيا التي عبّرت عن هذا الرفض في 29 نيسان/أبريل.
استرضاءً للمحتجّين، عرضت رئيسة جامعة كولومبيا مينوش شفيق "القيام باستثمارات في مجالَي الصحة والتعليم في غزة، بما في ذلك دعم تنمية الطفولة المبكرة ومساندة الباحثين النازحين". كم هو مُعبِّرٌ أن تُقِرّ شفيق كما يبدو في جملة واحدة بأن ثلاثةً من الأمور التي أمعنت إسرائيل في تدميرها تعسّفيًا في غزة هي قطاعا الصحة والتعليم، والأطفال الصغار.
أما العاقبة الثانية، فهي أن كلّما زاد الدمار الذي يلحقه الإسرائيليون بغزة، اكتسبت حماس مزيدًا من الشعبية . يؤكّد أنصار إسرائيل، وقد يكونون على حقّ، أن عددًا كبيرًا من الدول العربية سيرحّب بهزيمة حماس. لكن القادة العرب يعرفون أيضًا أن سخط شعوبهم إزاء الوحشية الإسرائيلية في غزة سيكون تأثيره سلبيًا على سلوكهم في نهاية المطاف، ما يحدّ من هامش مناورتهم تجاه إسرائيل.
اتّخذت إدانة الطلاب المحتجّين أشكالًا عديدة، حيث اتُّهِموا بـ"معاداة السامية " ودعم الإرهاب ، حتى إن أحد الأميركيين المحافظين المؤيّدين لإسرائيل وصفهم بأنهم "أولاد نخب أميركية وأجنبية يشعرون بالشفقة تجاه أنفسهم وبأنهم يملكون الحقّ بفعل ما يشاؤون، يتظاهرون نيابةً عن المصالح السياسية للأنظمة المُعادية للولايات المتحدة وإسرائيل". إن الإغفالات في هذا الاقتباس لافتة، ولافتة هي أيضًا الحقيقة الجوهرية التي يبرزها الاقتباس، ولكن يبدو أن صاحبه أغفل مضامينها. فمن الواضح أن الاحتجاجات الطلابية لم تمسّ عصبًا حسّاسًا لدى المدافعين عن إسرائيل فحسب، بل أثّرت أيضًا على حسن تقديرهم.
إن كان ثمّة ما يمكن أن يُقال عن علاقة الولايات المتحدة المميّزة بإسرائيل، فهو أن النخب السياسية والعسكرية الأميركية أدامت هذه العلاقة، حيث دافعت عنها باعتبارها مفيدةً للمصالح الأميركية. ما لا يستطيع منتقدو الطلاب من المناصرين لإسرائيل هضمَه هو أن ما يشهدونه اليوم فعليًا خيانةٌ من النخب الأصغر سنًّا في الجامعات، الذين كان يُفترَض أن يكونوا في صفّهم. لقد أصبحت ثوابت الماضي المتّسمة بالتعجرف موضعَ شكّ لدى مَن سيصبحون في المستقبل صناع قرار ومسؤولين وأصحاب نفوذ، إلى حدّ أن التعاطف مع إسرائيل، الذي كان في متناول اليد سابقًا، لم يَعُد مضمونًا اليوم. وأدّى ذلك إلى اتّساع الفجوة بين الأجيال، إذ إن الطلاب يؤكّدون أن وجهات نظر آبائهم بشأن إسرائيل لم يَعُد لها وزن كبير في ظلّ ما يعتبرونه إبادة جماعية في غزة.
لقد تطرّق زميلي آرون ديفيد ميلر، الذي كان مفاوضًا في الشرق الأوسط لسنوات، إلى تداعيات هذا الأمر في مقابلةٍ أجراها معه آيزاك تشوتينر من مجلّة نيو يوركر، عندما قال : "إذا كنت تسألني: هل أعتقد أن جو بايدن يحمل لفلسطينيي غزة عمق المشاعر والتعاطف نفسه الذي يحمله للإسرائيليين؟ كلا، ولا يعبّر عنه أيضًا. أظنّ أن لا شكّ في ذلك على الإطلاق".
ما أشار إليه ميلر ضمنيًا في ملاحظاته هذه هو انفصال بايدن عن الواقع الجديد. فإجابته جاءت بعد أن أشار تشوتينر إلى أن الرئيس غير قادر على الجمع بين خسائر الفلسطينيين والخسائر الشخصية التي تكبّدها في حياته، على خلاف ردّ الفعل الذي عبّر عنه إزاء الضحايا الإسرائيليين في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
هذا الانفصال بين رأي النخب والناس سرعان ما اتّضح بعد اندلاع حرب غزة. ففي حين سارعت إدارة بايدن والقادة الأوروبيون إلى الدفاع عن إسرائيل عقب هجوم حماس، أبدت مجتمعاتهم تردّدًا أكبر في السماح لإسرائيل بأن تكون مُطلَقة اليد. وبعد مرور سبعة أشهر على الحرب، وإذ ارتفع عدد القتلى الفلسطينيين إلى ما يزيد عن 30 ألفًا، وفقًا لمسؤولي الصحة في غزة، وإذ اعترفت الوكالات الحكومية الأميركية بأن إسرائيل منعت دخول الإمدادات الغذائية إلى غزة ، متسبّبةً بمجاعة "حتمية"، وإذ لا تزال الحكومة الإسرائيلية تصرّ على دخول رفح، حيث يلجأ 1.5 مليون شخص، ثبت أن المشكّكين هم مَن كانوا على حقّ، فيما المسؤولون الأميركيون والأوروبيون يتراجعون الآن عن مواقفهم على عجل.
قليلةٌ هي الأمور التي يمكن أن تثير الاشمئزاز أكثر من رؤية السياسيين يبدّلون مواقفهم بسرعة البرق. فتصريحات أورسولا فون دير لاين، التي تحوّلت من القول في 14 تشرين الأول/أكتوبر إن "أوروبا تقف إلى جانب إسرائيل التي تملك حق الدفاع عن نفسها؛ لا بل من واجبها الدفاع عن شعبها" إلى الإعلان في وقت سابق من شهر آذار/مارس أن "قطاع غزة يواجه مجاعة ولا يمكننا قبول ذلك"، لا يمكن أن تكون سوى محض نفاق. وإن أسهم أي عامل في تحفيز إسرائيل على ارتكاب جرائم حرب في غزة، فهو القبول التام الذي تلقّته من أمثال رئيسة المفوّضية الأوروبية.
وبالمثل، فسماع بايدن يصف القصف الإسرائيلي لغزة بأنه "تجاوز الحد"، لتعود إدارته وتوافق لاحقًا على تقديم مساعدات للجيش الإسرائيلي بقيمة 17 مليار دولار ، يُظهر لمَ الطلاب محقون في ازدراء قادتهم لهذه الدرجة.
لا بدّ هنا من الإشادة بالطلاب المحتجين في الجامعات الأميركية والأوروبية الذين رفضوا الرضوخ لإداراتهم الجبانة، أو للسياسيين المُخادِعين الذين أمضوا أشهرًا في إعادة تكييف مواقفهم المتعلقة بغزة لتتماشى مع مزاج ناخبيهم. فوفقًا لرؤية الطلاب، لا توجد خفايا عميقة في جرائم القتل الجماعي التي يشهدونها بصورة يومية. عبّرت عن هذا الرأي تشيساتو كيمورا، وهي طالبة في جامعة يال، خلال مداخلتها في برنامج One World على قناة CNN، قائلةً :
"لكن في ما يتعلق بفهم ما يحصل، لا يمكن اعتبار أعمال العنف المُرتكبة بحق الفلسطينيين في غزة سوى إبادة جماعية… أضف إلى أن [محكمة العدل الدولية] قالت إن ثمة قضية معقولة، وهو أعلى قرار يمكن أن تتخذه في هذه المرحلة، أي الاعتراف بارتكاب إبادة جماعية. علاوةً على ذلك، أجمعَ المجتمع الدولي، من خبراء قانونيين ومحامين في مجال حقوق الإنسان وأكاديميين وعدد كبير من الأشخاص، على الاعتراف عن حقّ بأن ما يحصل هو إبادة جماعية. وأعتقد أن من المهم جدًا تحديد سبب وجودنا هنا، لأننا نرى أعمال العنف هذه مباشرةً عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام. وأعتقد أن تجاهلها مستحيل".
برز في هذا القسم بوجه خاص تعليق إحدى المحاورتَين في البرنامج، بيانا غولودريغا، التي ذكّرت كيمورا بأن "إدارة بايدن صرّحت في وقت سابق من هذا الشهر بأن ليس لديها دليل على ارتكاب جرائم حرب في إسرائيل أو من جانب الدولة الإسرائيلية". وبدا واضحًا كيف أن القناة شعرت بالحاجة إلى إدراج هذا التعليق المثير للشكّ في المحادثة للتخفيف من وطأة تصريحات كيمورا، وكأن بالإمكان اعتبار إدارة تزوّد إسرائيل بالأسلحة لقتل عشرات الآلاف من سكان غزة صوتًا مستقلًا جديرًا بالثقة في كل ما يتعلق بالعملية العسكرية الإسرائيلية المدمرة في غزة.
لا تزال النخب في الولايات المتحدة تحافظ إلى حدّ كبير على روابطها مع إسرائيل، إذ ترفض البحث في احتمال سحب الاستثمارات، وتتجنّب استخدام مصطلح "إبادة جماعية" في وصف ما يجري، وتشعر بالإحباط من عدم استعداد الطلاب للانصياع إلى التهديدات الموجَّهة إليهم منذ أسابيع. ولكنّ ما يحصل في غزة في هذه المرحلة واضح جدًا لدرجة يصعب إخفاؤه، ناهيك عن أن جميع الجهود المبذولة لتعزيز الموقف الرسمي من إسرائيل باءت بالفشل. لا شكّ أن غريزة التمرّد المثيرة للإعجاب لدى الطلاب قد تُفضي، أو لا تُفضي، إلى تغييرٍ كبير، إلا أنها تشكّل مرحلة جديدة في رؤية الأميركيين إلى الفلسطينيين، ورؤية الطلاب إلى أنفسهم وإلى بلدهم في العالم.