المصدر: Getty
مقال

قوانين الهيمنة

يناقش هـ. أ. هليير، في مقابلة معه، مفهوم العدالة الدولية عَقِب طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحقّ مسؤولين إسرائيليين.

نشرت في ٢٧ مايو ٢٠٢٤

هـ. أ. هليير باحث غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط التابع لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي في واشنطن العاصمة، وزميل أول مشارك في المعهد الملكي للخدمات المتحدة المتخصّص في دراسات الدفاع والأمن في لندن، حيث يركّز على القضايا الجيوسياسية والشؤون الأمنية. أجرت "ديوان" مقابلة مع هليير بعد أن طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، إصدار مذكرات توقيف بحقّ قادةٍ في حماس، إضافةً إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت. نشر هليير مؤخرًا مقالًا في مجلة Foreign Policy حول ما يعنيه ذلك للنظام الدولي القائم على القواعد. يمكن متابعة تغريداته على تويتر/إكس: @hahellyer

مايكل يونغ: جادلتَ في مقالك الذي نُشر في مجلة فورين بوليسي في وقتٍ سابق من هذا الشهر بأن النظام الدولي القائم على القواعد هو "أفضل نموذج توصّلنا إليه، حضاريًا، للتخفيف من انتشار الحروب والصراعات". على ضوء قرار المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية طلب إصدار مذكرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف غالانت باعتبارهما يتحمّلان المسؤولية الجنائية المفترضة عن جرائم مُرتكبة في دولة فلسطين، وردود الفعل السلبية للغاية التي أثارها هذا الاتهام في الكثير من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، هل يُعدّ تطبيق مثل هذا النموذج ممكنًا أساسًا؟

هـ. أ. هليير: لا تزال المقولة الشهيرة لأوتو فون بسمارك تنطبق اليوم، وهي أن السياسة هي فنّ الممكن، والقابل للتحقّق، وفنّ ثاني أفضل الخيارات. يبقى مفهوم النظام العالمي القائم على القواعد والقانون الدولي أفضل من أي نماذج أخرى توصّلنا إليها تاريخيًا، إذ كلّها كانت نسخًا متنوعة من فكرة "البقاء للأقوى" أو "شريعة الغاب". لهذا السبب كان ردّ فعل إدارة بايدن على إعلان المحكمة الجنائية الدولية بأن المدّعي العام يسعى إلى إصدار مذكرتَي توقيف بحقّ نتنياهو وغالانت مضرًّا جدًّا. لكن السبب أعمق من ذلك أيضًا، لأن واشنطن كانت أيضًا عازمة على تجاهل محكمة العدل الدولية والإساءة إلى سمعتها بسبب تحقيقها في التهم الموجّهة إلى إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة، على خلفية الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّها في كانون الأول/ديسمبر الفائت.

لا أزال ثابتًا على اعتقادي بأن النظام الدولي القائم على القواعد ليس فقط ممكنًا، بل محبَّذًا. لكنه يقتضي التزامًا جادًّا من جانب الأطراف الأقوى في العالم، لذا من بالغ الأهمية أن تحتلّ الدول التي تدّعي تمسّكها بهذه الفكرة موقعَ الصدارة في هذا المسعى. حين تتجاهل روسيا المحكمة الجنائية الدولية، من الطبيعي ألّا يفاجئنا ذلك، لأن موسكو غير مهتمّة فعليًا بهذا النظام العالمي ولا تدّعي عكس ذلك. لكن في المقابل، حين ترفض الولايات المتحدة القرارات الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية حيال إسرائيل، فيما تقبل بقراراتها تجاه أوكرانيا، فالرسالة التي توجّهها إلى سائر دول العالم هي أن الدولة الأقوى في العالم غير متّسقة في مواقفها. فلماذا يجب إذًا أن يتوخّى أي طرف دولي آخر الاتّساق في مواقفه؟

يونغ: لماذا لم تحرز فكرة النظام الدولي القائم على القواعد تقدّمًا كبيرًا في دول الجنوب العالمي، كما تلمح في مقالك؟ فخلال الصراع الدائر راهنًا في غزة، لجأت بلدان مثل جنوب أفريقيا والبرازيل إلى المحاكم الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة للإعراب عن استيائها، أي بتعبيرٍ آخر إلى مؤسسات دولية تجسّد هذا النظام القائم على القواعد؟

هليير: لست متأكّدًا من عدم إحراز هذه الفكرة تقدّمًا في دول الجنوب العالمي. بل يسعني استخدام المثلَين اللذَين ذكرتَهما كدليلٍ على أن الكثير من الدول "الوسطى" ترى فائدة تُجنى من هذا النظام، وهذا أمرٌ إيجابي جدًّا. لكنها تريده أن يكون متّسقًا، وأعتقد أن هذا طلبٌ عادل، حتى لو أن مواقف هذه الدول يجب أن تكون متّسقة أيضًا. فقد شهدت جنوب أفريقيا مثلًا سجالًا داخليًا مثيرًا للجدل حول تطبيق مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي دُعي إلى قمة مؤتمر بريكس في آب/أغسطس 2023. إذا كانت الدول تريد تحقيق الاتّساق في المواقف، فيجب أن ينطبق ذلك على جميع المسائل، حتى لو أن دولًا أخرى أقل اتساقًا في مواقفها. مع ذلك، يُشار إلى أن غياب الاتّساق في المواقف يسبّب الضرر الأكبر حين تكون الدول القوية مسؤولةً عنه، لا الدول الأقل قوة.

يونغ: كتب توني كارون ودانيال ليفي في مجلة The Nation  أن "فلسطين تحتلّ اليوم مكانة رمزية في جميع أنحاء الجنوب العالمي ومدن الغرب، باعتبارها تجسيدًا للتمرّد ضد النفاق الغربي ونظام ما بعد الاستعمار الظالم". هل توافق على وجهة النظر هذه، وفي هذه الحالة، ما هي آفاق تحقّق رغبتك في إرساء نظام قائم على القواعد في مشهد عالمي يتّصف بروح التمرّد هذه؟

هيلير: أعتقد أن الأمر يتوقف على ما تعنيه بكلمة تمرّد. فمن وجهة نظري، إن بناء نظام قائم على القواعد هو في حدّ ذاته تمرّد. وروح التمرّد التي ذكرتها ترتبط ارتباطًا جوهريًا بالعدالة، ويُفترض بالقانون صون العدالة. واقع الحال أن مساعي بناء نظام عالمي متّسق يستند إلى القانون الدولي، وإحلال الاتّساق محلّ النفاق، والقانون محلّ الظلم الذي ساد في مرحلة ما بعد الاستعمار، ليست مجرّد تمرّد، بل هي تحرّك ثوري برأيي.

يونغ: جادل كثيرون بأن الولايات المتحدة فقدت قدرًا كبيرًا من مصداقيتها من خلال انتقادها صراحةً، وحتى تجاهلها، لقرارات محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. لكن يبدو أن ما من إقرار بذلك داخل الفقّاعة الأميركية. هل فقدت الولايات المتحدة فعليًا قدرًا كبيرًا من مكانتها، وكيف سيتجلّى ذلك خلال السنوات المقبلة؟

هيلير: لا جدوى من إنكار الناس أن مصداقية الولايات المتحدة على الساحة الدولية قد تلّقت ضربة قوية نتيجة الصراع في غزة، ولا سيما في أوساط الدول التي لا تُعدّ في خانة حلفائها الغربيين. لنتذكّر أن الرئيس جو بايدن وصل إلى البيت الأبيض واعدًا باستعادة مكانة الولايات المتحدة في العالم، بعد الكوارث التي تسبّبت بها إدارة ترامب واستهدافها الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي وعددًا من المنظمات الدولية والمتعدّدة الأطراف الأخرى. مع ذلك، وجّهت إدارة بايدن على مدى الأشهر السبعة الماضية وبصورة متواصلة انتقادات مبطّنة، على أقل تقدير، إلى الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، والآن إلى المحكمة الجنائية الدولية. 

وأقدمت كذلك على تعليق تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وأبقت على خطوتها هذه حتى مع استئناف بلدان مثل ألمانيا مساهماتها. وواصلت استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضدّ مشاريع قرارات عدّة، ووصفت قرارًا طالب بوقف إطلاق النار في غزة بأنه "غير مُلزم"، وكان بالفعل تصريحًا صادمًا. وفي اليوم الذي أعلن فيه المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان أنه يسعى إلى إصدار مذكرات توقيف بحق نتنياهو وغالانت، رفض بايدن بشكل قاطع الفكرة في حدّ ذاتها، قائلًا إن إسرائيل، بغضّ النظر عمّا قالته المحكمة أم لم تقله، ليست مذنبة بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية.

قد يكون بايدن محقًا، لكن هذه القضية هي من اختصاص القانون، ومحكمة العدل الدولية هي المحكمة الأبرز في العالم. لذا، يجب على أقل تقديرٍ مراعاة قراراتها، لإبداء الاحترام ليس للمحكمة فحسب، بل أيضًا لركيزة أساسية من ركائز النظام الدولي القائم على القواعد. لكن بدلاً من ذلك، أقدم الرئيس الأميركي على تجاهلها فورًا، واضعًا الولايات المتحدة في موقع الدفاع عن إسرائيل المتّهمة بارتكاب أعمال إبادة، وعن نتنياهو وغالانت المتّهمَين بارتكاب جرائم حرب. تصبح إسرائيل أكثر فأكثر أشبه بدولة منبوذة في المجتمع الدولي نتيجة هذه الإجراءات القانونية.

إن تجاهل الولايات المتحدة الشديد لهذه الإجراءات له تأثيرٌ كبير على مصداقيتها حول العالم. إن لم يكن هذا الأمر واضحًا على الفور هناك، فسيكشف الكثير عن طبيعة الفقّاعة التي تتقوقع داخلها واشنطن.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.