المصدر: Getty
مقال

الجماعة الإسلامية تشقّ مسارها الخاص

بينما تواصل المجموعات المسلّحة اللبنانية محاربة إسرائيل، تبرز بعض الانقسامات في أوساط السنّة حيال هويتهم السياسية.

 محمد فواز
نشرت في ٣٠ يوليو ٢٠٢٤

طرأت تحوّلات على المشهد السياسي السنّي في لبنان نتيجة الحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ردًّا على تنفيذ حماس عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفتح حزب الله جبهة عسكرية محدودة مع شمال إسرائيل دعمًا للفلسطينيين.

ربما خير مثالٍ على هذه التحوّلات هو قرار الجماعة الإسلامية، وهي حزب سياسي إسلامي سنّي، بتبنّي خطٍّ سياسي يتعارض مع خطّ القيادة السنّية التقليدية. ولم تكتفِ الجماعة الإسلامية، التي تربطها علاقات وثيقة بحماس، بالإعلان عن مشاركتها في العمليات العسكرية على الجبهة الجنوبية وبإطلاق الصواريخ على إسرائيل، بل بدأت أيضًا بالحديث عن التوفيق بين مشروعَين سياسيَّين يُفترَض أنهما متناقضان، وهما: المقاومة التي يمثّلها حزب الله من جهة، والنهوض بالدولة اللبنانية من جهة أخرى. ويُحتمل أن تفاقم هذه الخطوة الانقسام القائم في الشارع السنّي بين من يؤيّدون أهداف الجماعة، ومن لا يزالون يعارضون استراتيجية المقاومة التي ينتهجها حزب الله باعتبارها تقوّض مساعي "بناء الدولة" في لبنان.

لقد عارض قادة الطائفة السنّية وممثّلوها، ومن ضمنهم تيار المستقبل، وعددٌ من السياسيين، ودار الفتوى، أي الهيئة الرسمية المُشرفة على الشؤون الدينية للسنّة في لبنان، حزبَ الله وحلفاءه لحوالي عقدَين من الزمن، بدءًا من جريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، والتي اتّهم الكثيرُ من السنّة النظامَ السوري وحزبَ الله بارتكابها. وترسّخت هذه المعارضة مع انقسام لبنان إلى معسكرَي قوى 8 آذار و14 آذار؛ ثم وقوع أحداث 7 أيار/مايو 2008 حين سيطر حزب الله لفترة وجيزة على أحياء سنّية عدّة في بيروت؛ وتدخّل حزب الله في سورية ضدّ انتفاضة شعبية دعمتها غالبية السنّة اللبنانيين. لذلك، يشكّل توجّه الجماعة الإسلامية مؤخرًا نحو الاصطفاف مع حزب الله خروجًا عن ركنٍ أساسي من الهوية السياسية السنّية المعاصرة.

انتقدت قوى عدّة التوجّه الجديد للجماعة الإسلامية، إذ رأى خصوم حزب الله أنها حادت عن الموقف السنّي العام، وحرصوا على ألّا تؤثّر بشكلٍ كبير على الشعور السنّي الشعبي أو الرسمي.

على سبيل المثال، عارض رئيس الوزراء السابق فؤاد السنيورة الذي كان مقرّبًا جدًّا من الراحل رفيق الحريري جرّ لبنان، وتحديدًا السنّة، إلى الصراع الدائر في غزة. كذلك، ناشد رضوان السيد، وهو شخصية دينية تحظى بالاحترام، مفتيَ الجمهورية ودار الفتوى بالتدخّل لضبط المشايخ الذين يناصرون المقاومة. لهذه الأسباب، كانت الجماعة بدايةً حذرة من استعداء شرائح من الطائفة السنّية. فعندما أعلنت انخراطها في الجبهة الجنوبية ضدّ إسرائيل، أضافت بحرصٍ أن عملياتها لا تتمّ بالتنسيق مع أي مجموعة، في إشارة واضحة إلى حزب الله.

مع ذلك، بدا جليًّا أن الجماعة نجحت في استقطاب مواطنين سنّة وعددًا من الشخصيات البارزة في دار الفتوى. فدعم القضية الفلسطينية ركيزة أساسية من ركائز الفكر القومي العربي والسياسات الإسلامية، وقد حظي هذان التوجّهان تاريخيًا بالشعبية في أوساط السنّة اللبنانيين. لقد فاجأ هذا الأمر إلى حدٍّ ما خصوم حزب الله من السنّة، وتجلّى ذلك من خلال محاولاتهم المرتبكة للتصدّي إلى تنامي تأثير محور حزب الله في أوساط السنّة. وسُرعان ما شعرت الجماعة الإسلامية بالثقة الكافية للإقرار بالتنسيق الميداني القائم مع حزب الله، بعد أن كانت نفت ذلك في وقتٍ سابق. كذلك، أفادت وسائل الإعلام عن لقاءٍ جمع بين الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله والأمين العام للجماعة الإسلامية ‏في لبنان الشيخ محمد طقوش. وأشار هذا اللقاء إلى أن مخاوف الجماعة من الكشف عن العلاقات التي تربطها بحزب الله قد انحسرت إلى حدٍّ بعيد. فبعد أن كانت الجماعة متردّدة حيال ذكر تعاونها الميداني مع حزب الله، باتت تتحدّث على الملأ عن المشاورات الجارية بين المجموعتَين على أعلى المستويات.

ولم تبقِ الأمور محصورةً بالمواقف السياسية، بل سُرعان ما اتّخذت بعدًا دينيًا. ففي 11 تموز/يوليو، ألقى طقوش كلمةً خلال إحياء يوم الرابع من عاشوراء في مقرّ المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بناءً على دعوةٍ من نائب رئيس المجلس الشيخ علي الخطيب. وكان هذا الحدث مُلفتًا لأسباب ثلاثة. أولًا، مع أن السنّة يجلّون الحسين بن علي بن أبي طالب، فإنهم لا يشاركون عمومًا في الفعاليات التي تُقام لإحياء ذكرى استشهاده في المعركة.

ثانيًا، أضفى الاصطفاف الوثيق للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى مع حزب الله وحركة أمل، ثاني أكبر حزب شيعي في لبنان، بُعدًا سياسيًا إلى مشاركته هذه. وثالثًا، واجه طقوش مخاطر أمنية نظرًا إلى انخراط الجماعة الإسلامية في عمليات عسكرية ضدّ إسرائيل وإقدام إسرائيل على اغتيال قياديين في الجماعة. لذلك، شكّل قراره حضور مثل هذا الحدث العلني وإلقاء كلمة فيه خطوة مهمّة وشجاعة.

أحد الأسباب خلف هذه الجرأة التي تُبديها الجماعة هو حصولها على دعم مشايخ بارزين من دار الفتوى. على سبيل المثال، ألقى مفتي زحلة والبقاع الشيخ علي الغزاوي كلمةً خلال تشييع أحد عناصر قوات الفجر، التي تمثّل الجناح العسكري للجماعة الإسلامية، وهو يرفع بندقيةً ويُعلن دعمه للمقاومة المسلّحة في وجه إسرائيل. وفي أعقاب ذلك، وجّه السنّة المعارضون لحزب الله انتقادات إلى الغزاوي، إلّا أن الشيخ أمين الكردي، ثاني أعلى سلطة في دار الفتوى، دافع عنه قائلًا، "بورِكت يداك.. أنت تمثّل كل العلماء، أنت تمثّل كل الشرفاء". علاوةً على ذلك، تكشف مقاطع فيديو من مراسم تشييع قياديين من قوات الفجر قتلوا في غارات جوية إسرائيلية عن الدعم الشعبي الذي يحظون به.

من المنطقي استنتاج أن خطاب الجماعة الإسلامية وأفعالها منسجمان مع مشاعر الكثير من السنّة، وكذلك مع موقف جناح أساسي من دار الفتوى. واقع الحال أن الطائفة السنّية متعاطفة مع غزة ومقاومتها، وبدأ الكثير من السنّة بالانفتاح على فكرة التنسيق مع حزب الله لخدمة أهداف المقاومة. لكن هذا لا يعني ضمنيًا نشوء تحالف سنّي شيعي. بل قد يتعيّن على السنّة التوفيق بصعوبة بين دعمهم انخراط حزب الله العسكري ضدّ إسرائيل، سواء دفاعًا عن فلسطين أو عن الأراضي اللبنانية التي ما زالت محتلّة، وبين معارضتهم لسياسات الحزب الأخرى، سواء في لبنان أو سورية.

في الواقع، عبّرت الجماعة الإسلامية عن أمور ذات دلالة مهمّة مؤخرًا على لسان نائبها الوحيد، عماد الحوت. ففي إشارة إلى الموقف السنّي التقليدي، قال الحوت إن الجماعة تسعى إلى بناء دولة قائمة على "المواطنة" و"إعادة انتظام المؤسسات". لكنه أضاف أيضًا في تصريح ينسجم إلى حدٍّ كبير مع موقف حزب الله، أن الجماعة عازمة على "التصدّي للعدو الصهيوني، والأصل فيه أن يكون من خلال استراتيجية دفاعية للدولة". إذًا، يدافع الحوت عن مشروع يجمع بين بناء الدولة والمقاومة. نظرًا إلى هذا النهج، قد تصبح الجماعة الإسلامية، وحتى الطائفة السنّية ككُل، بمثابة جسر يربط بين هذَين التوجّهَين المتعارضَين.

لكن التوفيق على نحو متوازن بين المقاومة وبناء الدولة أمرٌ صعب للغاية. فمن جهة، تحثّ القوى المسيحية والسياسيون السنّة التقليديون في لبنان دولَ الخليج ومصرَ على تحييد السنّة عن الصراع مع إسرائيل وعن تأثير حزب الله والأحزاب السنّية التي تتشابه معه من حيث التوجّه. ومن جهة أخرى، يبذل حزب الله جهودًا حثيثة لتحويل تنسيقه المؤقّت مع الجماعة إلى تحالف طويل الأمد من شأنه جذب مجموعات سنّية إضافية. نتيجةً لذلك، يمكن القول إن المستقبل القريب للسنّة في لبنان مسألة دقيقة ولا يمكن التنبّؤ بها، في ظل احتمال حدوث انقسامات صارخة.

وعلى الرغم من أن الجماعة الإسلامية ومعارضيها يعملون على تعزيز مكانة السنّة في المشهد السياسي اللبناني الداخلي وتحسين موقعهم، يعرّض الصراع المتواصل مع إسرائيل واحتمالات تصعيده جميعَ القوى المعنية للخطر. وقد تواجه الجماعة وحلفاؤها صعوبة في تطبيق رؤيتهم وتوفير الموارد اللازمة لذلك، ما قد يضعف تأثيرهم وتأثير مناصريهم. وفي حال فشلت الجماعة في تأمين الموارد الضرورية، قد تطلب الحماية والدعم من حزب الله. في المقابل، سيصبح خصوم الجماعة الإسلامية، الذين يعارضون تنامي الرأي العام المؤيّد للمقاومة في أوساط السنّة، في عزلةٍ عن قاعدتهم الشعبية، ما سيؤدّي إلى تقليص دورهم التمثيلي داخل الطائفة بصورة إضافية. هذه الديناميكيات من شأنها مفاقمة تهميش السنّة ورفع منسوب الإحباط داخل الطائفة.

في مطلق الأحوال، يتعيّن على القوى المعنية كافة بذل قصارى جهدها لمنع حدوث شقاق كبير داخل الطائفة السنّية، وتجنّب الوصول إلى وضعٍ تشعر فيه شريحة من السنّة بالاستبعاد والتهميش.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.