ماذا حدث؟
شنّ حزب الله، يوم الأحد الواقع فيه 25 آب/أغسطس، هجومًا جويًا بأكثر من 300 صاروخ على مواقع في إسرائيل، موضحًا في بيانٍ أولي أن هذه العملية تشكّل ردًّا على العدوان الإسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي أدّى إلى اغتيال القيادي الكبير في الحزب، فؤاد شكر. وأضاف البيان أن الحزب أطلق عددًا كبيرًا من المسيّرات "نحو العمق الصهيوني وباتّجاه هدف عسكري إسرائيلي نوعي سيُعلن عنه لاحقًا". وكشف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، في كلمته المسائية، أن الهدف الأساسي للعملية هو قاعدة غليلوت القريبة من تل أبيب، والتي تتواجد فيها وحدة 8200 التابعة للمخابرات العسكرية الإسرائيلية. وأصدر الحزب بيانًا ثانيًا أكّد فيه تنفيذ عمليته "بنجاح كامل"، محدّدًا مواقع عسكرية أخرى تمّ استهدافها وإصابتها، من ضمنها أربع ثكنات وقواعد في مرتفعات الجولان المحتل. وأعلن حزب الله أن عملية الأمس "قد تمّت وأُنجزت"، وقال نصر الله إن لبنان "يستطيع أن يرتاح" في المرحلة الحالية.
ووفقًا للأمين العام، تزامن توقيت العملية مع ذكرى أربعينية الإمام الحسين. وكان لافتًا أن معظم وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية ركّزت في تقاريرها على قيام سلاح الجوّ الإسرائيلي بشنّ ضربات استباقية ضدّ حزب الله، وهو أمرٌ حرص نصر الله والحزب على دحضه. فقد أشار الحزب إلى أن ادّعاءات إسرائيل حول العمل الاستباقي هي "ادّعاءات فارغة وتتنافى مع وقائع الميدان". وكان هذا مهمًّا له لإظهار نجاح عمليته والتشديد على أن إسرائيل لم تتمكّن من خرقها. وسلّط ذلك الضوء أيضًا على مساعي الطرفَين إلى التحكّم بالسردية، إذ ذكرت النسخة الإسرائيلية، كما وصفتها صحيفة Times of Israel مثلًا، أن الحزب كان ينوي شنّ "هجوم كبير على شمال ووسط إسرائيل"، أو حتى على أهداف مدنية مثل مطار بن غوريون القريب من تل أبيب. لكن نصر الله شدّد على أن الحزب لم تكن لديه نية التعرّض إلى أهداف مدنية أو بنى تحتية، بل أراد فقط استهداف قواعد عسكرية شاركت في اغتيال شكر. ووفقًا للكثير من المراقبين، سيكون من الأسهل تجنّب اندلاع حرب إقليمية إذا بقي ردّ حزب الله محصورًا بالمنشآت العسكرية.
أين تكمن أهمية المسألة؟
رغبة الجانبَين، كما ذكرت تقارير، في وقف المزيد من التصعيد، تَشي بأن سيناريو الانزلاق إلى حرب شاملة تمّ تجنّبه. لقد نفّذ الحزب عمليته الأخيرة بعد مرور أسابيع عدة على اغتيال شكر في بيروت، ورئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية في طهران. وقد أجّل كلٌّ من إيران وحزب الله الردّ، وكان من بين أسباب هذا التريّث، وفقًا لنصر الله، إعطاء فرصة لمحادثات وقف إطلاق النار في غزة؛ ولكن ربما تأخّرت العملية أيضًا بسبب انتشار السفن الحربية الأميركية في المنطقة والمخاوف من أن تحاول إسرائيل جرّ الولايات المتحدة إلى صراع مع حزب الله وإيران. حتى الآن، ما من مؤشّر على أن طهران تنوي تكرار الهجوم الذي نفّذته في نيسان/أبريل الماضي، حين أطلقت عددًا كبيرًا من الصواريخ والطائرات المسيّرة على إسرائيل.
وبالفعل، أشار المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني، العميد محمد علي نائيني، في 20 آب/أغسطس، إلى أن الإيرانيين قد يستجيبون بطريقة مختلفة على اغتيال هنية، قائلًا: "الوقت في صالحنا، وفترة انتظار الردّ قد تكون طويلة". وأضاف أن ردّ إيران قد لا يشبه العمليات العسكرية السابقة. في غضون ذلك، شكّك كلٌّ من بعثة إيران لدى الأمم المتحدة، والقائد السابق للحرس الثوري الإيراني محسن رضائي، على نحو منفصل، في احتمال أن تكون العملية الإيرانية وشيكة. فقد أكّدت بعثة إيران لدى الأمم المتحدة على أن ردّ بلادها "لا بدّ أن يتجنّب التأثير سلبًا على وقف إطلاق النار المحتمل في غزة"، فيما شدّد رضائي على أن الردّ "سيكون محسوبًا" ولا يجب أن يسمح لنتنياهو "الغارق في المستنقع بأن يخرج منه".
واللافت أن ادّعاء إسرائيل بشنّ ضربات استباقية على مواقع لحزب الله أعطاها هامشًا لتفادي تصعيدٍ كبيرٍ في لبنان. في غضون ذلك، أظهرت إيران من خلال السماح لحزب الله باستهداف إسرائيل، أن محور المقاومة الذي تقوده مستعدٌّ وقادرٌ على الحفاظ على توازن الردع ضدّ إسرائيل، على الرغم من انتشار القوات البحرية الأميركية في البحر الأبيض المتوسط. ويعني هذا أن بإمكان إيران أن تأخذ وقتها وتضع خططًا أخرى لمهاجمة الإسرائيليين ردًّا على اغتيال هنية.
ما هي التداعيات في المستقبل؟
تمحور أحد الأسئلة الأولى التي طُرحت عَقِب الهجوم حول إمكانية استئناف مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، إذ كانت جولة المحادثات الجديدة مُرتقبة في القاهرة يوم 25 آب/أغسطس. وقد أعلنت إسرائيل أن وفدها سيكون حاضرًا، ما ألمح إلى اعتقادها بأن العنف في لبنان قد تمّ احتواؤه في الوقت الراهن. وفيما طُرح مُقترحٌ جديد لوقف إطلاق النار، لم يكن ثمة تفاؤل يُذكر بأن هذه الصيغة ستُرضي حماس، فهي تسمح لإسرائيل ضمنًا إنما ليس صراحةً بإبقاء قواتٍ لها على طول محور فيلادلفيا الحدودي بين مصر وقطاع غزة. ويبدو حزب الله وإيران حريصَين على تحقيق وقف إطلاق النار في غزة، ويُحتمَل أن هجوم الحزب، الذي سبق استئناف المحادثات بوقتٍ قصيرٍ، كان أيضًا وسيلةً لدفع الولايات المتحدة إلى ممارسة ضغوط أكبر على إسرائيل، في وقتٍ عمَد نتنياهو إلى إضافة شروطٍ جديدة على مفاوضات وقف إطلاق النار، بحيث أصبحت موافقة حماس مستبعدة أكثر.
وحتى لو توقّف ثأر حزب الله عند هذا الحدّ، تبقى أسئلة عدّة من دون جواب. أولًا، متى وكيف ستردّ إيران على اغتيال هنية؟ فمع أنّ مسؤولين إيرانيين ألمحوا إلى أن شنّ هجوم وشيك على إسرائيل ليس مرجّحًا، أجمعوا على أن لا مفر من اتّخاذ طهران بعض الإجراءات. ومن خلال قصف إسرائيل، وفّر حزب الله لإيران هامشًا للمناورة. فمن الوارد أن تقرّر، مثلًا، اغتيال شخصية إسرائيلية بارزة بدلاً من محاولة قصف إسرائيل.
والسؤال الثاني الذي لا يزال بلا جواب هو ما إذا سيسعى نتنياهو مجدّدًا إلى جرّ الولايات المتحدة نحو مواجهة عسكرية مع إيران، علمًا أن هذا هدفه منذ فترة طويلة. لم يكن اغتيال هنية محاولته الأولى في هذا الصدد. ففي نيسان/أبريل الماضي، أقدمت إسرائيل على اغتيال قياديّين من الحرس الثوري في السفارة الإيرانية لدى دمشق، في إطار عملية اعتبرها كثيرون، بمن فيهم الرئيس جو بايدن، محاولةً لإشعال فتيل الحرب بين واشنطن وطهران. ولم توجّه واشنطن تنديدات لنتنياهو لا على خلفية هذه العملية ولا عَقِب اغتيال شكر وهنية. لذا، ما من ضمانات بأنه لن يعاود الكرّة.
ثمة سؤال ثالث أيضًا من دون إجابة وهو، ما الذي سيدفع الولايات المتحدة إلى فرض وقف إطلاق النار في غزة على رئيس وزراء إسرائيلي يريد مواصلة حملته العسكرية ضدّ الفلسطينيين، وتحويل غزة إلى أرض غير صالحة للعيش؟ فمثل هذه النتيجة وحدها ستضمن قيام الفلسطينيين تدريجيًا بمغادرة القطاع خلال السنوات المقبلة، وبالتالي خفض الأغلبية السكانية العربية في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن. في غضون ذلك، تعمَد إسرائيل إلى جعل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية صعبةً للغاية، وتحثّهم على المغادرة من خلال ممارسة شكلٍ أخفّ وطأةً من أشكال التطهير العرقي. ما لم يتمّ التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، ستزداد احتمالات حدوث مزيدٍ من التصعيد في لبنان. مع ذلك، أظهرت إدارة بايدن حتى الآن تسامحًا كبيرًا مع تكتيكات نتنياهو المُعرقلة، وأجرى وزير الخارجية أنتوني بلينكن زيارات متكرّرة إلى المنطقة، كانت كلٌّ منها أكثر عقمًا من سابقتها.