في 5 آب/أغسطس، أدلى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بتصريحٍ مفاده أن ترك مليونَي فلسطيني في غزة "يموتون جوعًا" قد يكون أمرًا "عادلًا وأخلاقيًا" حتى تتمّ إعادة الرهائن الإسرائيليين المحتجزين في غزة، لكن "العالم لن يسمح لنا بذلك".
مضت أيام عدّة قبل صدور ردود فعلٍ دولية على مسعى سموتريتش لتحويل هذا التوجّه الإبادي إلى فعلٍ مبرَّر أخلاقيًا. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إن حكومته "تستهجن هذه التصريحات، وتشدّد على أن هذا الخطاب مؤذٍ ومزعج". يُشار إلى أن هذا التنديد كان فاترًا نوعًا ما في ظل الظروف الراهنة. فالدعوة إلى التجويع الجماعي بحقّ سكانٍ مدنيين بالكامل يجب أن تُصنَّف على أنها أكثر من مجرّد أمرٍ "مؤذٍ ومزعج".
لكن وزارة الخارجية لم تكن مستعدّة ربما لتوجيه إدانة شديدة اللهجة بحقّ وزيرٍ أساسي في حكومة بنيامين نتنياهو، الذي خصّه أعضاء الكونغرس الأميركي مؤخّرًا بالتصفيق الحارّ وقوفًا لأكثر من 50 مرة. لسخرية القدر، كان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من بين أولئك الذين أبدوا ردّة فعلٍ منطقية أكثر على تصريحات سموتريتش الدنيئة. فقد ألقى نصر الله كلمةً قُبيل تصاعد التنديدات بسموتريتش في الغرب أعرب فيها عن مفاجأته من أن أحدًا لم ينتقد حديث الوزير الإسرائيلي.
تندرج مسألة أخلاقيات إسرائيل في صُلب الصراع الدائر في غزة. فمؤيّدو إسرائيل على قناعة بتفوّقها الأخلاقي على أعدائها. وكان هذا أحد أسباب استمرار النخب الغربية في التغاضي عن ممارسات إسرائيل المروّعة في غزة، على الرغم من أن تبعاتها ظاهرة للعيان منذ أشهر بفضل قنوات التلفزيون الفضائية العربية ووسائل الإعلام الاجتماعي التي عجزت الحكومات عن إحكام قبضتها عليها. تجلّى هذا الانحياز التفاؤلي المُفرط مبكرًا على لسان المستشار الألماني أولاف شولتز، الذي أعلن في تشرين الأول/أكتوبر 2023 أن "إسرائيل دولة ديمقراطية تسترشد بمبادئ إنسانية للغاية، ولهذا السبب يمكننا أن نتأكّد من أن الجيش الإسرائيلي سيحترم القواعد التي يحدّدها القانون الدولي في كل ما يفعله".
قد يكون شولتز ندم على كلامه هذا على وقع التقارير التي سُرعان ما تواترت عن تنفيذ إسرائيل عمليات التطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين في غزة؛ وإقدام قواتها على تدمير المستشفيات، والمدارس، والمنازل، والبنى التحتية؛ وحرمان الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحصار من الموادّ الغذائية والأدوية؛ والسماح بتفشّي أمراضٍ شتّى في القطاع، مثل الجرب وشلل الأطفال؛ وارتكاب أعمال القتل الجماعي على نحو سافر ومن دون تمييز.
لكن هذا كلّه لم يمنع أعضاء الكونغرس الأميركي من التصفيق والقهقهة حين مَثَل نتنياهو أمامهم ووصف مواطنين أميركيين بأنهم "مغفّلون مفيدون" لإيران، وذلك لممارستهم حقّهم المكفول دستوريًا في التظاهر تنديدًا بارتكابات إسرائيل. لا أحد من هؤلاء الذين احتفوا بحديث نتنياهو تفوّه بكلمة واحدة لإدانة سموتريتش في توقه إلى إقدام إسرائيل على تجويع جميع الفلسطينيين في غزة من للإفراج عن رهائنها.
إن مسألة الأخلاقيات مهمّة لسببَين. أولًا، هي تسمح للولايات المتحدة بتبرير استمرارها في تزويد إسرائيل بالأسلحة التي استخدمتها لارتكاب معظم، كي لا نقول كلّ مذابحها في غزة، آخرها مجزرة مدرسة التابعين وسط مدينة غزة، التي راح ضحيتها أكثر من 100 شخص، الكثير منهم من الأطفال. زعَم الإسرائيليون، كعادتهم، بأنهم كانوا يستهدفون عناصر من حماس ينشطون داخل المدرسة، لكن حماس نفت صحة هذه المزاعم. وحين نشر الجيش الإسرائيلي صورًا لضحايا ادّعى أنهم مقاتلون في حماس، كتب أستاذ فلسطيني منخرط في مجال حقوق الإنسان وجمعته معرفة شخصية بعددٍ من هؤلاء الرجال تغريدةً على منصة إكس نفى فيها أي ارتباط بين هؤلاء الضحايا وحماس.
وثانيًا، ما دام الغرب ينظر إلى إسرائيل كجهةٍ أخلاقية، بينما يبدو واضحًا للجميع أنها عكس ذلك تمامًا، فستتّسع الهوّة بين الدول الغربية وبين كثرٍ حول العالم يلمسون ازدواجيةً في المعايير. وقد يؤدّي ذلك إلى تداعيات سياسية جسيمة، نظرًا إلى أن الكثير من هذه الدول، وخصوصًا في الجنوب العالمي، لن تجد سببًا يدفعها إلى قبول السرديات الغربية عن ضرورة الدفاع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقد رأينا بالفعل مثل هذا الرفض بشأن أوكرانيا، فيما زادت الحرب على غزة مشاعر الاستياء من النفاق الأميركي، واستغلّت الصين هذا الوضع ببراعة كبيرة.
يرتبط الموقف حيال مسألة أخلاقيات إسرائيل بمنظور غربي أساسًا، مفاده أن إسرائيل تأسّست على أيدي ضحايا ما يمكن اعتباره ربما أعظم جريمة في التاريخ، وهي الهولوكوست (أو محرقة اليهود). لقد تطرّق الكاتب الهندي بانكاج ميشرا إلى هذا الموضوع في مقالٍ ممتاز نُشر في شهر آذار/مارس الماضي في مجلّة London Review of Books. يروي ميشرا كيف عمَدت إسرائيل على مرّ الزمن إلى "إنتاج ونشر نسخة محدّدة للغاية عن المحرقة، يمكن استخدامها لإضفاء الشرعية على الصهيونية المتشدّدة والتوسّعية". لكن المحرقة ساهمت أيضًا في إرساء اعتقادٍ سائدٍ في أوساط الكثير من مؤيّدي إسرائيل بأنها، بطريقةٍ ما، في منأى عن المساءلة الأخلاقية". واقتبس ميشرا من الكاتب الإسرائيلي بواز إفرون وصفه بأن "التكتيك القائم على الخلط بين الفلسطينيين والنازيين والهتاف بأن ثمة محرقة أخرى وشيكة" أدّى إلى "انفلات المواطنين الإسرائيليين العاديين من 'أي قيود أخلاقية، لأن من يواجه خطر الهلاك يعتبر نفسه معفيًا من أي اعتبارات أخلاقية قد تقوّض مساعيه لإنقاذ نفسه'".
لكن، يجب ألّا تؤدّي هذه الملاحظة إلى حرف الانتباه عن واقع أن عددًا متزايدًا من اليهود، الذين تظاهر كثرٌ منهم إلى جانب من وصفهم نتنياهو بـ"المغفّلين المفيدين"، يعتبرون أن جوهر ديانتهم يتمثّل في الحفاظ على بوصلتهم الأخلاقية وسط المعركة.
خلص ميشرا إلى استنتاج قوي: من خلال ارتكاب جرائم واسعة النطاق في غزة، "تُقدِم إسرائيل اليوم على تقويض الأُسس التي قامت عليها منظومة المعايير الدولية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في العام 1945". لذلك، هذا "الشرخ العميق التي نعيشه اليوم بين الماضي والحاضر عبارة عن شرخٍ في التاريخ الأخلاقي للعالم منذ نقطة الانطلاق في العام 1945 – وهو تاريخٌ كانت فيه المحرقة لسنوات كثيرة الحدث المركزي والإطار المرجعي العالمي". في ضوء ذلك، "يبدو أن الذين أيقظت مأساة غزة وعيهم هم فقط مَن بإمكانهم إنقاذ إرث المحرقة من نتنياهو، و]الرئيس جو[ بايدن، وشولتز، و]رئيس الوزراء البريطاني السابق ريشي[ سوناك، وإعادة إضفاء الصفة العالمية على دلالتها الأخلاقية".
لقد بدأت آراء ميشرا تنجلي لكثرٍ حول العالم، لكنها لم تتمكّن على ما يبدو من اختراق الحصن المنيع المتمثّل في العقلية الراسخة للمؤسسة السياسية الأميركية والجهات المُلحَقة بها. لقد تجاهل السياسيون الأميركيون المتشبّعون بلغة الأحقّية الأخلاقية، سواء عمدًا أو سهوًا، المسار الذي يوجّه نحوه نتنياهو كلًّا من إسرائيل والولايات المتحدة، من خلال إمعانه بتدمير غزة، وتقويض اتفاق وقف إطلاق النار، ومحاولة توسيع رقعة الحرب عبر جرّ الولايات المتحدة إلى خوض مواجهة عسكرية مع إيران—وهذا سيناريو عمَد أصدقاء إسرائيل في واشنطن إلى الترويج له بحماسةٍ أمام الرأي العام. ماذا تعني هذه الخطوات، إن لم تكن تصبّ في إطار مساعدة وتشجيع نسخة متشدّدة وتوسّعية من الصهيونية؟
على نحو أعمّ، ما هي القيمة الأخلاقية لمؤسسة سياسية إسرائيلية تحظى على ما يبدو بتأييد غالبية في المجتمع، وتعتقد أن بإمكان إسرائيل إخضاع ملايين الفلسطينيين إلى أجل غير مسمّى تحت نير احتلالٍ غير مشروع، وحرمانهم من حقّهم في تقرير مصيرهم، ومنعهم من التمتّع بأبسط حقوق الإنسان، وتهجيرهم من قراهم مرارًا وتكرارًا كي يتسنّى للمتطرّفين اليهود الاستيلاء على ممتلكاتهم؟ هل هذه خطّة يمكن الدفاع عنها؟ وهل يخوّل ذلك إسرائيل بأي حال من الأحوال أن تقدّم نفسها نموذجًا أخلاقيًا؟
ميشرا على حقٍّ في أن قيمة المأساة التي تمثّلها المحرقة، فضلًا عن مرجعيتها العالمية، ستنحسران على وقع استمرار هذه الفظائع. فالممارسات غير الأخلاقية التي ترتكبها إسرائيل اليوم ستطغى على ذكرى المعاناة السابقة التي تكبّدها اليهود، مثلما أنست مذابح إسرائيل في غزة كثرًا من الناس ما حدث في 7 تشرين الأول/أكتوبر. كذلك، على النخب الغربية أن تعي تأثير هذا الوضع على قوّتها ونفوذها. وإذا كانت جادّة في دفاعها عن القيم الليبرالية في عالمنا المتغيّر، فلا يمكن إعفاء إسرائيل من المساءلة.