ماذا جرى؟
في 27 أيلول/سبتمبر، قصفت طائرات إسرائيلية ما وصفه الإسرائيليون بأنه مقرّ القيادة المركزية لحزب الله، تحت مبانٍ سكنية واقعة في حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد استخدمت الطائرات، حسبما أُفيد، قنابل خارقة للتحصينات لقتل الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الذي قيل إنه كان متواجدًا في منشأة تحت المباني. وفي 28 أيلول/سبتمبر، أكّد حزب الله اغتيال نصر الله. وفي اليوم نفسه، أعلنت وزارة الصحة اللبنانية أن حصيلة الضحايا بلغت 33 قتيلًا و195 جريحًا، وهي لا تشمل فقط أولئك الذين قُتلوا أو أصيبوا في العملية التي استهدفت نصر الله (وهي أرقامٌ مرشَّحة للارتفاع في الأيام المقبلة بحسب الكثير من المراقبين)، بل أيضًا ضحايا الهجمات الجوية الإسرائيلية التي أعقبت هذه الغارة واستمرّت طوال الليل على الضاحية الجنوبية.
وقد أفادت تقارير أولية بأن بين القتلى الذين قضوا أيضًا في الهجوم علي كركي، قائد الجبهة الجنوبية في حزب الله. وكان كركي قد نجا من هجومٍ إسرائيلي استهدفه في 23 أيلول/سبتمبر. وأعلنت مصادر إعلامية مقرّبة من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني أن العميد الرفيع المستوى في صفوفه، عباس نيلفروشان، كان أيضًا في عداد ضحايا الهجوم. ووفقًا لوزارة الخزانة الأميركية، كان نيلفروشان نائب قائد غرفة العمليات في الحرس الثوري.
أين تكمن أهمية المسألة؟
أظهر الإسرائيليون، من خلال إقدامهم على قتل نصر الله، استعداداهم لتصعيد النزاع في لبنان إلى مستويات غير مسبوقة. وليس الأمين العام لحزب الله سوى الاستهداف الأخير في إطار سلسلة طويلة من الاستهدافات التي طالت كبار مسؤولي حزب الله، ولا سيما من القادة العسكريين ذوي المراتب المتقدّمة والمتوسطة، الذين اغتالتهم إسرائيل في الحرب التي بدأها الحزب في 8 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي. وقدّم اغتيال نصر الله مؤشّرًا إضافيًّا على أن إسرائيل تمكّنت من تحقيق خرقٍ شديد في صفوف الحزب، واستطاعت مرارًا وتكرارًا معرفة توقيت ومكان انعقاد الاجتماعات الرفيعة المستوى، أو ببساطة تحديد مواقع تواجد قادة الحزب.
ربما يعتقد الإسرائيليون أن الوقت مناسب الآن لاجتياح جزءٍ من جنوب لبنان. ففي ضوء الإرباك على مستوى القيادة في حزب الله، يُحتمل أن يُبدي الحزب مقاومةً أقل لأي اتفاق يجري التوصّل إليه مع الحكومة اللبنانية. قد يكون المنطق الذي يتّبعه الإسرائيليون أن احتلالهم للأراضي يمكّنهم من مقايضة أي انسحاب من لبنان بترتيبات أمنية مُعزَّزة عند الحدود اللبنانية الإسرائيلية، نظرًا إلى أن قرار مجلس الأمن 1701، الذي أنهى حرب 2006 ويحكم العلاقات في المنطقة الحدودية، لا ينصّ على آلية تنفيذية لمنع مقاتلي حزب الله من العودة إلى الحدود. ربما يفترض الإسرائيليون أن غياب نصر الله يمنح الحكومة اللبنانية هامشًا أكبر للتفاوض. ولكن من المُستبعَد أن توافق على زجّها في موقفٍ حيث يُنظَر إليها بأنها تدافع عن حدود إسرائيل ضدّ حزب الله.
السؤال الهامّ هو كيف ستردّ إيران على خطر تعرّض حليفها الإقليمي الأساسي، حزب الله، للهزيمة في النزاع مع إسرائيل. لقد توعّد الإيرانيون بالثأر لمقتل نصر الله، ولكن ثمّة ثوابت في سلوكهم من غير المُحتمَل أن تتبدّل. فمنذ قصف السفارة الإيرانية في دمشق في نيسان/أبريل الماضي، ثم اغتيال إسماعيل هنية في طهران في تموز/يوليو، ووصولًا إلى تصفية حسن نصر الله، اعتبر الإيرانيون، عن صواب ربما، أن إسرائيل تنصب، بممارساتها هذه، فِخاخًا لإشعال حربٍ بين إيران والولايات المتحدة. هذا ما ألمح إليه الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في تصريحاته هذا الأسبوع، حين قال إن إيران لن تقع في "فخّ" حربٍ إقليمية.
في ضوء ذلك، يبدو أن ثمّة احتمالَين يتقدّمان على سواهما: أولًا، ستتجنّب إيران التورّط مباشرةً في الاشتباك، ولكنها ستستخدم حلفاءها الإقليميين للثأر من مقتل نصر الله بطريقة منسّقة، فيما تحرص على بقاء ذلك ضمن حدودٍ لا تستجلِب تدخّلًا من الولايات المتحدة. وثانيًا، ستستمرّ طهران في منع حزب الله، أو منعه إلى حدٍّ كبير، من استخدام الصواريخ الموجّهة بدقة التي زوّدته بها، والتي تتحكّم على ما يبدو في استخدامها، لاستهداف البنى التحتية والتجمّعات السكنية الإسرائيلية، فالهدف من هذه الصواريخ في نهاية المطاف هو الدفاع عن إيران ضدّ الهجمات الأميركية أو الإسرائيلية.
إذا صحّ هذا التقييم، فقد لا يؤدّي اغتيال نصر الله إلى اندلاع حربٍ شاملة، علمًا أيضًا أن إقدام حزب الله على تصعيدٍ كبير في لبنان محفوفٌ بمخاطر شديدة للحزب. فقد أصبح مئات الآلاف من المواطنين الشيعة نازحين داخليًّا، وتعرّضت مساحاتٌ شاسعة من مساكن الشيعة في جنوب لبنان والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية لتدميرٍ كامل. فأيّ تصعيد لوتائر الحرب، نصرةً لغزة كما يُفترَض، لن يُفضي سوى إلى زيادة الدمار على نحو عبثي، فيما من المُستبعَد إلى حدٍّ بعيد أن يتيح لحزب الله استعادة قدرته على الردع بعدما تمّ إضعافها. وقد يتسبّب ذلك أيضًا بزيادة منسوب الإحباط والغضب لدى البيئة الحاضنة لحزب الله وسط معاناتها الراهنة.
ما هي التداعيات في المستقبل؟
إن لم يكن اندلاع حربٍ إقليمية مطروحًا بالضرورة، وإن كان الهامش المتاح أمام حزب الله لتصعيد الحرب انطلاقًا من لبنان محدودًا بفعل القيود الإيرانية، فسوف تتّجه أنظارٌ كثيرة إلى الساحة الداخلية اللبنانية لمعرفة ما سيحدث. حزب الله معزولٌ داخليًّا، نظرًا إلى معارضة عددٍ كبير من اللبنانيين فتح جبهة الجنوب في مواجهة إسرائيل، فضلًا عن أسبابهم الطائفية الخاصة التي تقف خلف استيائهم من الحزب. وقد أدّى ذلك إلى نشوء وضعٍ قد يقيّد بشدّة هامش المناورة لدى حزب الله ويضع تعقيدات أمام قدرة الأمين العام الجديد على فرض نفسه قائدًا شرعيًا للحزب خلفًا للزعيم الكاريزماتي نصر الله.
ثمّة منطقان يفرضان نفسَيهما اليوم، فيما يرزح لبنان تحت وطأة الحرب مع إسرائيل: منطق المقاومة ومنطق الدولة. يؤكّد منطق المقاومة على ضرورة مواصلة النزاع ضدّ إسرائيل نصرةً لغزة، تحت عنوان ما يُعرَف باستراتيجية وحدة الساحات. بحسب هذه الاستراتيجية، يجب على مختلف الجهات المُنضَوية في محور المقاومة الموالي لإيران أن ينسّقوا خطواتهم ويهبّوا للدفاع بعضهم عن بعض كلّما تعرّض أحدهم للهجوم.
ولكن منطق الدولة يفرض نفسه أيضًا على بلدٍ جُرَّ إلى الكارثة على يد تنظيم مسلّح لم يكترث للدولة اللبنانية. يدعم هذا المنطق تعزيز مؤسسات الدولة وإنهاء الحالة الشاذّة لبلدٍ تحكمه جهة غير حكومية. يعتبر كثرٌ أن المؤسسة الوطنية الوحيدة التي تحافظ على مصداقيتها وتحظى بتأييدٍ شعبي واسع هي الجيش اللبناني. وفي حين أن منطق المقاومة يقود إلى دعم المرشّح المفضّل لدى حزب الله، سليمان فرنجية، لتسلّم منصب رئاسة الجمهورية، إذ يصفه حزب الله بأنه الشخص الأفضل قدرةً على حماية ظهر المقاومة، فإن منطق الدولة يقود إلى انتخاب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية. يمنح الجيش الطمأنينة لمعظم اللبنانيين من خلال اضطلاعه بدور حيوي في الحفاظ على الاستقرار، في وقتٍ تسود حالة من اللايقين الشديد، ويُتوقَّع أن يضطلع بدورٍ بالغ الأهمية في المفاوضات حول الترتيبات الأمنية في الجنوب التي من شأنها إنهاء النزاع مع إسرائيل.
على مسافة وسطى بين هذَين النهجَين المتناقضَين يقف نبيه بري، رئيس مجلس النواب اللبناني. بري، الذي يُعَدّ المسؤول الشيعي الأبرز في الدولة اللبنانية، والرئيس الوحيد لجهازٍ وطني حاكم غير خاضع للشغور أو لتصريف الأعمال، هو المحور الذي تدور حوله الآن سلطات الحكم في لبنان. وتبعًا لذلك، سيكون له دورٌ أساسي في تحديد ما إذا كان المنطق الذي سيسود هو منطق المقاومة أو منطق الدولة.
إذا قرّر بري دعم منطق المقاومة من أجل حماية روابطه مع حزب الله، فقد يعود ذلك بالضرر عليه في المحصّلة. فالطائفة الشيعية تعاني الأمرَّين بسبب الهجمات الإسرائيلية، ولذلك فإن دعم استمرار الحرب قد لا يؤدّي سوى إلى إضعاف الطائفة أكثر فأكثر، وبالتالي إضعاف بري نفسه. من جهة أخرى، إذا دعمَ بري منطق الدولة، فسيكون له دورٌ أساسي في إيصال رئيس جديد إلى سدّة رئاسة الجمهورية. وهو لطالما فضّل فرنجية الذي يبدو انتخابه شبه مستحيل اليوم، لذلك إذا حصل إجماع على جوزيف عون، فقد يوافق رئيس مجلس النواب عليه من أجل الحفاظ على موقعه المركزي في المنظومة. وسيكون الدعم من بري ضروريًّا أيضًا لإقناع حزب الله بقبول التسوية.
ولكن من الوارد تمامًا أن يكون الأمين العام الجديد لحزب الله أكثر تمسّكًا بفرنجية ممّا كان عليه نصر الله نفسه، لسببٍ أساسي هو أن عليه إثبات أنه يُضاهي سلفه. ولكن الوقوف في وجه بري قد لا يكون أمرًا سهلًا، ولا سيما لشخصية أقل خبرة، في حال دَفَع رئيس مجلس النواب في اتّجاهٍ معيّن. في نهاية المطاف، قد يختار بري ألّا يفعل شيئًا، ولكن ذلك لن يؤدّي سوى إلى تعميق المعضلة التي يواجهها حزب الله: فالحزب يرفض إنهاء دعمه لغزة، لأن ذلك قد يثير ردود فعلٍ عنيفة من الطائفة الشيعية الغاضبة التي ستطالب بمعرفة ماذا كانت الجدوى من تضحياتها. ولكن الاستمرار في خوض حربٍ غير متكافئة حُكمًا للحزب لن يفضي سوى إلى إلحاق مزيدٍ من الدمار بالمناطق الشيعية، وربما بجميع الأراضي اللبنانية. في هذه الحالة، سيقف حزب الله في مواجهة نقمة عارمة من الطائفة، لا بل من البلاد بأسرها التي سترى في هذا القرار مبرّرًا كافيًا للتشكيك في الهيمنة الهدّامة التي يمارسها.