لوسيان بورجيلي كاتب، ومخرج مسرحي وسينمائي، وناشط سياسي لبناني، غالبًا ما تدور مسرحياته حول قضايا سياسية مثل الفساد والرقابة. اضطلع بورجيلي بدورٍ بارز في الحراك الاحتجاجي الوطني خلال العقد الماضي، كما خاض الانتخابات النيابية في لبنان مرّتَين مرشّحًا على لائحة المستقلّين. كانت أعماله الفنّية ونشاطه السياسي سببًا في مواجهات عدّة مع القوى الأمنية، وتعرّضت مسرحياته السابقة للحظر أو لمحاولات فرض الرقابة عليها، وأدّت مشاركتُه في الاحتجاجات المناهضة للحكومة إلى توقيفه. أما مسرحيته الأخيرة، التي عُرِضَت على مدى العام الماضي، فمنقولةٌ إلى اللغة العربية من نصّ مسرحية "عدوّ الشعب" للكاتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن. أجرت "ديوان" مقابلة مع بورجيلي للاطّلاع على رأيه في الجوانب التي تُحاكي فيها مسرحيته الوضعَ في لبنان اليوم.
هوشيغ كايماكاميان: عمّا تدور أحداث مسرحية "عدوّ الشعب"؟
لوسيان بورجيلي: تتمحور المسرحية حول الدكتور ستوكمان الذي يكتشف أن المياه المُستخدَمة في منتجع بلدته الصحّي، والتي تجذب السيّاح، وتساهم بشكلٍ كبير في الاقتصاد المحلّي، وتُسوَّق على أنها مياه يمكن أن تشفي من الأمراض، هي في الواقع مُلوَّثة بمرض مميت. يعتقد الدكتور ستوكمان أنه سيلقى دعمًا من أهل البلدة إثر هذا الاكتشاف (المدعوم بالأدلّة العلمية) لأنه ينقذ حياتهم. لكن شقيقه، وهو عمدة البلدة ورئيس المنتجع الصحّي، يقف في وجهه لسوء الحظّ، رافضًا الإقرار بأن المشروع بُني في الموقع الخطأ، وبأن كل المشاكل الصحّية التي قد تنجم عنه لم تُؤخَذ في الاعتبار. وهكذا، يبثّ العمدة الشائعات حول نوايا الطبيب، موحيًا بأن تدخّله ليس لمصلحة القرية، بل ينبع من دوافع شخصية. ويذهب العمدة إلى حدّ الاستعانة حتى بالصحافة لنشر الأكاذيب، ويخبر الناس أن إغلاق المنتجع أو إصلاح المشكلة قد يتسبّبان بإفلاس البلدة ماليًا. ونتيجة ذلك، يحرّض الناس ضدّ الدكتور ستوكمان الذي يصبح العدوّ. ثم تبلغ الأحداث ذروتها حينما يواجه أهل البلدة الدكتور ستوكمان أثناء اجتماعٍ عام، ويعلنونه عدوًّا للشعب. وفي نهاية المطاف، على الدكتور ستوكمان أن يقرّر ما إذا كان سيبقى في البلدة ويواصل النضال أم يغادرها، فيقرّر البقاء والنضال.
كايماكاميان: هل أضرّت مثاليةُ الدكتور ستوكمان به؟
بورجيلي: إن أيّ شخصية مثيرة للاهتمام في المسرح أو السينما لا تخلو من العيوب، وإلّا لما كانت لتبدو حقيقية، ولما تفاعل الناس مع القصة. ولدى الدكتور ستوكمان عيوب، بما فيها مثاليته، إذ ظنّ أن الجميع سيفكّر في صحته أولًا ثم الكسب المالي ثانيًا. لقد أعمَتْه مثاليتُه عن حقيقة أنّ ما كان يقوم به قد لا يلقى استحسان الجميع، فلم يفكّر عند سعيه إلى تحقيق هدفه في جعل الناس يفهمون فداحة الوضع ويتحرّكون لمواجهته. ولذا انقلب الناس عليه في نهاية المطاف، مع أن مصلحتهم كانت تكمن في دعمه. لم يُحسن التصرّف ليصل إلى هدفه. وهو عالمٌ أكثر مما هو سياسي، وبالتالي ليس دبلوماسيًا أو فصيحًا جدًّا، ولسوء الحظّ ليس الشخص الأمثل للدفاع عن أفكاره. في المقابل، أخوه الذي يرأس البلدية يتمتّع بالفصاحة، فاستطاع إقناع الناس بأكاذيب الدكتور ستوكمان مُحرّضًا البلدة بأكملها ضدّه.
كايماكاميان: هل يمكنك القول إن المثالية التي أظهرها الدكتور ستوكمان تشبه مثالية بعض النواب المستقلّين الموجودين اليوم في مجلس النواب اللبناني؟
بورجيلي: يمكنني أن أقارن حتى هذا النوع من المثالية بالناس الذين قاطعوا الانتخابات النيابية، لا بالمرشّحين فحسب. إذا أردت أن تكون مثاليًا حيال السياسة في لبنان، فيُفترض بك مقاطعة العملية الانتخابية برمّتها. يجب ألّا تشارك حتى في الانتخابات، لأن فعل ذلك يُعَدّ بمثابة تنازل. حالما يصبح الأشخاص داخل مجلس النواب، لا يعودون مثاليين. عندما تصبح في الداخل، لن تكون مثل الدكتور ستوكمان الذي ما كان ليشارك في الانتخابات البرلمانية. كان ليشعر بأن عليه إسقاط النظام بأكمله، لا إضفاء الشرعية عليه من خلال ممارسته لعبةً يعرف أنها مغشوشة. ومن بين النواب [المستقلّين] ثمّة مَن لم يقدّموا التنازلات فحسب، بل صوّتوا أيضًا لمرشّحين رئاسيين طرحتهم أحزاب النظام، وبدّلوا بذلك ولاءهم. هؤلاء يطيلون أمد النظام، ولا يحاولون حتى محاربته من الداخل.
كايماكاميان: ماذا يعني خوض المعركة من الداخل؟
بورجيلي: يعني أن بإمكانك، كنائب، إيصال صوتك إلى عددٍ أكبر من المواطنين، واستخدام منصّتك لفتح النقاش حول التغيير الراديكالي الذي تريده – أي تغيير النظام بكامله وصياغة دستور جديد، إضافةً إلى أمور أخرى. فأنت في هذه الحالة شخصٌ يمكن أن يسمعك الناس أو يُنصتون إليك، لأنك في الداخل. حالما يصبح المرء في الداخل، فهذا يعني أنه يمثّل قاعدة معيّنة، ويتمتّع بالشرعية النابعة من الانتخابات... وإلّا فما الهدف ممّا يفعله؟
كايماكاميان: هل المثالية ممكنة في البرلمان الحالي؟
بورجيلي: أن يكون المرء مثاليًا يعني في الواقع أن يكون عمليًا، لأن كل شيء آخر هو مجرّد أحلام وشعارات لن تصل إلى أيّ مكان. تعريفي للتفكير العمليّ هو ألّا يضرّ المرء بقضيّته بنفسه. يجب ألّا يصوّت النواب لبرنامج يختلف عن ذلك الذي انتخبهم الناس من أجله، ويختلف تمامًا عمّا يؤمنون به، ليكونوا "عمليّين". وإلّا لمَ يصوّت الناس للمستقلّين إذا كانوا يريدون من ممثّليهم أن يصوّتوا في نهاية المطاف لأحد المرشّحَين الرئاسيَّين [المطروحَين من أحزاب النظام]؟ أن يكون المرء "واقعيًا" يعني الانتحار سياسيًا.
كايماكاميان: بصفتك مرشّحًا سابقًا للانتخابات التشريعية، ما المقاربة التي قد تعتمدها لو خضت غمار السباق الانتخابي مجدّدًا وفزت بمقعد نيابي؟
بورجيلي: في الانتخابات التشريعية، كنت لأختار شخصًا لديه برنامج في غاية الوضوح، وأروّج لبرنامجه بصرف النظر عمّا يحدث لاحقًا. ولكن على الأقل، سيعرف الناس بهذه الطريقة مواقفي والقيم التي أؤمن بها. إذا تقيّد عددٌ كافٍ من الأشخاص بهذا المبدأ، سواء الآن أو بعد خمس سنوات أو عشر سنوات، فسيؤدّي ذلك إلى نتيجةٍ يُعتدّ بها. الأمر شبيهٌ بقصة السلحفاة والأرنب. على المرء أن يكون سلحفاة، وأن يلتزم، بإصرار وعزيمة، ببرنامج معيّن، مع شخص ومنصّة محدّدَين، وأن يبذل قصارى جهده لتحقيق هدفه. واقع الحال أن كل هذه الشعارات التي نسمعها اليوم لن تكون قد أفضت إلى شيء بعد عشرين عامًا ما لم يطمح أحدٌ إلى إحداث تغييرٍ ما ويسعى إليه بثباتٍ واتّساق ويقنع الناس بجدواه. من غير المنطقي أن تؤيّد أي مرشّحٍ كان لمجرّد أنّك لا تملك منصّة، وتفتقر إلى التنظيم اللازم، وإلى استراتيجية أو رؤية من أجل تحقيق ما تصبو إليه. فالبرنامج لا يشمل فقط ما تريد إنجازه، بل أيضًا كيف ستسعى إلى إنجازه.
كايماكاميان: كيف ستؤثّر تجربة النواب المستقلّين الحاليين على حظوظ المرشّحين في المستقبل؟
بورجيلي: إن ما يحدث اليوم سيّئٌ جدًّا لأن بعض النواب "التغييريين" الحاليين لم يسعوا بشكلٍ حثيث، للأسف، إلى تغيير بعض السياسات واستبدالها بسياسات جديدة، بل خضعوا على الفور إلى الضغوط التي مارستها أحزاب المنظومة السياسية القائمة وانحازوا إلى الرؤية التي تتبنّاها هذه الأحزاب.
لقد تفكّكت هذه المجموعة حين ظهر أعضاؤها على شاشة التلفزيون وطُرح عليهم سؤال بسيط جدًّا: هل أنتم مع الزواج المدني؟ فأجاب البعض بأنهم ضدّه. وخسر النواب المستقلون المعركة أيضًا لأنهم خيّبوا آمال الناخبين بسبب تناقضاتهم، وافتقارهم إلى برنامج موحّد واستراتيجية متّسقة، واختلافهم حتى على أبسط بنود البرنامج. لذا، للأسف، سيكون الأمر أصعب في الدورة المقبلة لأن الناس لن يصدّقوا هؤلاء المرشّحين. حين يرفع المرء شعارات رنّانة ثم يصبح أقرب إلى أحزاب المنظومة الحاكمة ويفتقر إلى الاتّساق، فسيصنّفه الناس ضمن سياسيي المنظومة الذين يطلقون وعودًا واهية لا يفون بها. على المرء أن يتصرّف كسياسي من نوعٍ آخر وأن ينتهج سياسةً مختلفة تمامًا من أجل إلهام التغيير الذي نتحدّث عنه.
كايماكاميان: ما هي مشاريعك المرتقبة؟
بورجيلي: تستمرّ إحدى مسرحيّاتي، "حبيبة قلبي إنتِ" في عرضها الخمسين هذا الخريف. تنتمي هذه المسرحية إلى نوع الكوميديا السوداء، وهي متجذّرة جدًّا في السياسة. قد لا يربطها المشاهد بالشؤون السياسية الاجتماعية السائدة في لبنان، لكنها في الواقع وثيقة الصلة بها. تدور أحداثها حول شخصٍ يُقدِم على اختطاف أحد السياسيين وحول التفاعل بينهما. في نهاية المطاف، تتمحور المسرحية حول العلاقة التي تجمع بين المواطن والمنظومة السياسية الحاكمة في لبنان.