يوجين روغان هو أستاذ مادّة تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أكسفورد، ومؤلّف كتبٍ عدة، من ضمنها: The Arabs: A History (العرب: من الفتوحات العثمانية إلى الحاضر) الصادر عن منشورات بايزك بوكس وبنغوين، الطبعة الأولى في العام 2019، والطبعة الثانية في العام 2012، وThe Fall of the Ottomans: The Great War in the Middle East, 1914–1920 (سقوط العثمانيين: الحرب العظمى في الشرق الأوسط، 1914-1920) الصادر عن منشورات بايزك بوكس وبنغوين، 2015، ومؤخرًا The Damascus Events: The 1860 Massacre and the Destruction of the Old Ottoman World (أحداث دمشق: مذبحة العام 1860 ونهاية العالم العثماني القديم) الصادر عن منشورات بنغوين في العام 2024. أجرت "ديوان" مقابلة مع روغان في منتصف شهر أبلول/سبتمبر لمناقشة كتابه الأخير.
مايكل يونغ: عند الحديث أو الكتابة عن الصراعات الطائفية التي شهدها لبنان ودمشق في العام 1860، ثمة ميلٌ إلى اعتبار أحداث دمشق امتدادًا للمجازر الطائفية في جبل لبنان ووادي التيم. هذا ما فعلته ليلى طرزي فواز مثلًا في إطلالتها التاريخية على الصراع. لكنك اخترتَ التركيز على دمشق. ما الذي دفعك إلى ذلك، وهل طرأت خسارة ما من خلال تبنّي هذه المقاربة؟
يوجين روغان: من المهمّ برأيي التمييز بين السياقَين المختلفَين جدًّا للعنف في جبل لبنان ودمشق في العام 1860. تعود جذور العنف في جبل لبنان إلى انهيار النظام الإقطاعي للإمارة الشهابية بعد الاحتلال المصري في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، ما أدّى إلى إشعال فتنة بين الغالبية المسيحية المارونية والأقلية الدرزية. وفي دمشق، كانت التوترات، إلى حدٍّ بعيد، ناجمة عن نمو حركة التجارة مع أوروبا والإصلاحات العثمانية التي عزّزت مصالح الأقلية المسيحية على حساب الغالبية المسلمة. أما القاسم المشترك بين أحداث جبل لبنان ودمشق آنذاك فهو الانطباع بأن المسيحيين الذي أصبحوا أكثر حزمًا باتوا يطرحون تهديدًا وجوديًا على جيرانهم الدروز أو السنّة. أثّرت الأحداث في جبل لبنان على ما حصل في دمشق عبر تقديم نموذجٍ أمكن محاكاته: فحيث اعتُقد أن المسيحيين يشكّلون تهديدًا، اعتُبر قتلهم حلًّا منطقيًا. بحسب كل التقارير المحلية، تابع المسلمون في دمشق أعمال العنف في جبل لبنان ووادي التيم بحماسة. وكما ذكرتُ في كتابي، كان العنف في جبل لبنان دافعًا أساسيًا لحوادث دمشق. لكن يبدو لي منطقيًا دراسة هاتَين الحالتَين على نحوٍ منفصل. فجذورهما كانت مختلفة للغاية، وانخرطت فيهما جهاتٌ مختلفة، واتّبعتا مسارَين مختلفَين للغاية، وأسفرتا عن نتائج سياسية مختلفة جدًّا. وفيما يعزو معظم المؤرّخين جذور نظام الحكم الطائفي اللبناني إلى العام 1860، لم تخلِّف أحداث دمشق أي إرثٍ طائفي في سورية.
يونغ: تركّز على ميخائيل مشاقة، نائب قنصل الولايات المتحدة في دمشق في العام 1860. لماذا وقع اختيارك عليه لتروي القصة من منظوره، ولا سيما أنه كما ذكرتَ، تبنّى في وقتٍ لاحق من حياته موقفًا حول أحداث العام 1860، اختلف كثيرًا عن ذاك الذي اتّخذه حين كان يكتب التقارير الدبلوماسية أثناء وقوع المجازر؟ هل ساورتك أي أسئلة حول موثوقيّته على ضوء هذا التبدّل الكبير في التوجّه؟
روغان: كان مشاقة مصدر الإلهام الذي دفعني إلى تأليف هذا الكتاب. حين كنتُ طالب دكتوراه في العام 1989، اكتشفتُ الدفاتر التي كتب عليها مشاقة تقاريره أثناء شغله منصب نائب القنصل الأميركي في دمشق، والتي تغطّي فترة زمنية تمتدّ من العام 1859 إلى العام 1870. كان مشاقة أول مسؤول قنصلي تعيّنه الولايات المتحدة في دمشق، وعكَف على كتابة هذه السجلّات باللغة العربية (لم يتعلّم الإنكليزية قط) على دفاتر صغيرة. لم يستطع أمناء الأرشيف قراءة هذه الدفاتر كي يعرفوا أنها تحتوي على الأجزاء الثلاثة الأولى من التقارير الدبلوماسية في دمشق، فتركوها على الرفّ، حيث عثرتُ عليها، مع سائر السجلّات المتعلّقة بدمشق.
تُعدّ هذه الدفاتر اكتشافي الأرشيفي الأكثر إثارةً للاهتمام على الإطلاق. فقد أدركتُ أنني أول باحث معاصر يطّلع على هذه السجلّات، التي بدأ مشاقة بكتابتها قبل عامٍ واحد من اندلاع أعمال العنف، وغطّت العقد الأول من عملية إعادة الإعمار التي أعقبت الحوادث. لقد كانت من دون شك أهم مصدر جديد يتناول إحدى أكثر المراحل إثارةً للجدل من التاريخ العربي في القرن التاسع عشر. لذا ما كان مني إلّا أن صوّرت كل صفحة من هذه السجلّات، وأمضيتُ العقود الثلاثة الماضية في جمع المزيد من الموادّ والمصادر مُحاولًا التعمّق في فهم ما شهدته دمشق قُبيل هذه الأحداث وطوال الطريق الطويل المؤدّي إلى إعادة الإعمار.
اتّضح أن مشاقة مصدرٌ ممتاز في هذه السردية. فعلى خلاف الكثير من السجلّات عن أحداث العام 1860، التي كُتبت بتأثير الإدراك المتأخّر بعد سنواتٍ من وقوعها، كانت كتابات مشاقة آنية وتزامنت مع التسلسل الفعلي للأحداث، ونقَل حالة اللايقين التي كانت سائدة حول المستقبل. شكّلت هذه السجلّات أفضل مصدرٍ تحديدًا لأن مشاقة لم يكن يعلم ما يخبّئه المستقبل آنذاك. لذا، بحلول العام 1873، حين كتب إطلالته التاريخية الخاصة على هذه الحوادث، كان من الطبيعي أن يطرأ تغيير على طريقة فهمه للموضوع. أعتقد أن تبدّل سرديته من اليأس من الحكم العثماني إلى تأييد الولاء الكامل للدولة العثمانية، يوفّر فهمًا عميقًا لمدى تأثير المساعي التي بذلتها الحكومة لإعادة إعمار المدينة وتحقيق المصالحة بين مجتمعاتها المحلية المنقسمة. إذًا، لم يعكس موقف مشاقة بحلول العام 1873 ثقته الكاملة في الدولة بقدر ما عبّر عن اعترافه بأن ما من بديلٍ عن العثمانيين وأن الدمشقيين كانوا يعتمدون عليهم لإعادة إعمار مدينتهم المدمَّرة.
يونغ: ثمة شخصية مُلفِتة في كتابك، هي تحديدًا فؤاد باشا، المسؤول العثماني الذي أتى إلى دمشق للتعامل مع تداعيات المذبحة بحقّ المسيحيين. ما التحديات التي واجهها حين وصل إلى المدينة، ثم لاحقًا في جبل لبنان؟ وكيف تصف طريقته في التعاطي معهم؟
روغان: كان فؤاد باشا أحد أكثر رجال الدولة تأثيرًا في الإمبراطورية العثمانية في العام 1860. فهو شارك في صياغة الإصلاحات التي عُرفت بالتنظيمات العثمانية، وكان وزيرًا للخارجية جمعته علاقات وديّة مع قادة سياسيين أوروبيين بارزين. وعلى الرغم من هذه المقوّمات، واجه تحديات هائلة خلال أزمات العام 1860. فقد كانت القوى الأوروبية — أي بريطانيا وفرنسا وروسيا وبروسيا والنمسا — تتدخّل بانتظامٍ في الشؤون العثمانية نيابةً عن الأقليات المسيحية واليهودية. فالمذابح على نطاق المجزرة التي وقعت في العام 1860 لم تنطوِ فحسب على احتمال استتباع التدخّل الأجنبي، بل أيضًا على خطر حدوث استيلاء إمبريالي على الأراضي، من شأنه إنهاء الحكم العثماني في الولايات السورية. فقد شنّ نابليون الثالث ملك فرنسا حملة عسكرية كبرى على سورية، وشكّلت القوى الأوروبية لجنة دولية لـ"مساعدة" العثمانيين على استعادة النظام. طرح كلٌّ من هذَين التدبيرَين الأوروبيَّين تهديدًا خطيرًا على السيادة العثمانية. وكان على فؤاد باشا إثبات أنه قادرٌ على استعادة القانون والنظام، ومعاقبة المسؤولين عن ارتكاب المذابح، وتقديم الإغاثة الفورية للناجين، وتوفير التمويل اللازم للتعويض عن خسائرهم والسماح لهم بإعادة بناء منازلهم وأماكن عملهم.
واللافت أنه تمكّن من التعامل مع هذه الأوضاع الصعبة ووضع دمشق على مسار إعادة الإعمار في غضون سنة ونصف من الحوادث. وهو لم يقع أبدًا في فخّ السماح للحلّ المثالي بالوقوف في طريق الحلّ الجيّد والعملي، مقدِّمًا التنازلات اللازمة للحفاظ على تعاون المسلمين الدمشقيين، وإن على مضض، وكذلك على التنسيق مع المفوّضين الأوروبيين المتشكّكين. ونظرًا إلى نجاحه في تحقيق هذا التوازن المُلفِت، كوفئ فؤاد بحصوله على ترقية وتعيينه الصدر الأعظم، أو رئيس الوزراء، في نهاية جولته في دمشق.
يونغ: هلّا أخبرتنا عن التنافس بين بيروت ودمشق عَقِب أحداث العام 1860. من نواحٍ كثيرة، ارتبط مصير المسيحيين في المدينتَين ارتباطًا وثيقًا ببروز كلٍّ منهما كمركزٍ قائم بذاته. هلّا شرحت لنا كيف ذلك؟
روغان: ازدهرت بيروت خلال منتصف القرن التاسع عشر على وقع نموّ التجارة الأوروبية وحركة الشحن عبر البحر الأبيض المتوسط باستخدام السفن البخارية. أما دمشق فكانت العاصمة القديمة الكبرى التي كانت طوال قرونٍ مركزًا للإدارة والتعلّم والتجارة البرية مع آسيا وأفريقيا. وقد أثّرت مذابح العام 1860 على المدينتَين بشكل مختلف جدًّا. فبيروت لم تشهد أعمال عنف طائفية، لكنها باتت ملاذًا لعشرات آلاف اللاجئين من قرى جبل لبنان المُدمَّرة. أمّا دمشق فقد لحق بها خرابٌ هائل، إذ قُتل آلاف المسيحيين فيها ودُمِّرت أقسامٌ كاملة من وسط المدينة. أدخلت هذه الأحداث، إلى جانب الإجراءات العقابية التي اتّخذتها الحكومة العثمانية، اقتصاد دمشق في دوّامة قاتلة، إذ فُرض على السكان المسلمين واليهود ضرائب لتمويل عملية إعادة إعمار الأحياء المسيحية. وكان لا بدّ من ضخّ أموال طائلة لعكس مسار التدهور الاقتصادي في دمشق، ووفّر قانون الولاية الإصلاحي العثماني في العام 1864 وسيلة لزيادة التدفّقات المالية.
طُبّق هذا القانون، الذي أصبح مرتبطًا بفؤاد باشا بمنصب الصدر الأعظم، على سورية في العام 1865، بحيث ضُمّت ولاية دمشق إلى ولايتَي صيدا (التي حُكمت من بيروت) والقدس لتشكيل ولاية كبيرة تحت اسم سورية. وسارع كبار التّجار المسيحيين والمسلمين في بيروت إلى ترشيح مدينتهم لتكون عاصمة ولاية سورية الجديدة، فيما استنفر الدمشقيون بدورهم لعرقلة جهود البيروتيين حديثي الثراء والدفاع عن أحقيّة مدينتهم بصفتها المركز الإداري "الطبيعي" لسورية. كانت الرهانات عالية، إذ خُصِّصَت للولاية الجديدة ميزانية تفوق بخمسة أضعاف عائدات ولاية دمشق السابقة. وفي نهاية المطاف، قرّرت السلطات العثمانية تسمية دمشق عاصمةً للولاية الجديدة، ما شكّل حبل النجاة لإعادة إعمارها. فبين العام 1865 وانفصال بيروت عن سورية لتصبح عاصمة ولاية بيروت الجديدة في العام 1888، شهدت دمشق طفرة عمرانية وانتشار المرافق التجارية والإدارية والثقافية والتعليمية التي ساهمت في انتشال المدينة من انهيارها الاقتصادي وفي إعادة إعمارها وتحويلها إلى مدينة حيوية ومزدهرة.
يونغ: لقد انطبع العام 1860 بالمجزرة التي ارتُكبت بحقّ المسيحيين في دمشق (إضافةً إلى جبل لبنان ووادي التيم)، لكنّك خصَّصتَ وقتًا طويلًا لدراسة النتائج الإيجابية التي تلتها على صعيد الردّ العثماني، سواء تجاه دمشق أو العلاقات الأوسع داخل الإمبراطورية بين السلطات العثمانية ورعاياها. هلّا أوجزت تفكيرك حول هذا الموضوع، وفي المقام الأول اعتقادك بأن حقبة جديدة من الحداثة العثمانية بدأت بعد العام 1860؟
روغان: أتت أحداث العام 1860 نتيجةً لإصلاحات عثمانية زعزعت استقرار المجتمع، مثل فرض المساواة القانونية بين المسلمين وغير المسلمين، في خطوةٍ هدفت إلى إرساء الاستقرار في العلاقات بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية من دون التشاور مع المجتمع العثماني أو الحصول على موافقته. لكن الإصلاحات اللاحقة أدّت دورًا مهمًّا في عملية إعادة الإعمار والمصالحة التي أعقبت هذه الأحداث. قبل العام 1860، حكم العثمانيون من خلال منظمات مجتمعية مثل مجالس القرى والأحياء والمجالس الدينية. وسمح نظام الملّة، الذي منح الطوائف الدينية الاستقلال الذاتي في إدارة شؤونها الداخلية، للمسيحيين واليهود بدرجة عالية من الحكم الذاتي، إلّا أنه جعل أبناء الأقليات غير المسلمة مواطنين من الدرجة الثانية.
تمثّلت الخطوة الأولى نحو المواطنة في إصلاحات العام 1856 المثيرة للجدل التي أدخلت مفهوم المساواة القانونية، وأدّت برأيي دورًا أساسيًا في وقوع مذابح العام 1860. لكن الإجراءات العثمانية التي أعقبت المجازر عطّلت أي مقاومة إضافية في وجه المساواة، فضلًا عن أن الإصلاحات اللاحقة مثل قانون الولاية في العام 1864 استَبدلت نظام الحكم المحلي القديم بنظام المجالس المُنتخَبة الذي يحقّ فيه لجميع العثمانيين التصويت وأيضًا الترشّح للمجالس البلدية، ومجالس الولايات، ونظام المحاكم، وكذلك للبرلمان بعد إعلان دستور العام 1876.
ترافق تعزيز حقوق المواطنين وتوسيع نطاق مشاركتهم في الإدارة مع مسؤوليات إضافية، على غرار فرض الضريبة الفردية والخدمة العسكرية. لكن النتيجة النهائية كانت الانتقال من نظامٍ سلطوي إلى نظامٍ تشاركي يتماشى بصورةٍ أكبر مع معايير إدارة شؤون الدولة الحديثة.