سنةٌ بأكملها مرّت على الحرب الإسرائيلية على غزة تجاوزت إسرائيل فيها كل الحدود الإنسانية والسياسية والعسكرية. ولا يبدو أن لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي أي استراتيجية واضحة المعالم غير بقائه في السلطة لأطول وقتٍ ممكن. بعد اغتيال إسرائيل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، يبدو أن شعبية نتنياهو آخذةٌ في الصعود، ما يعزّز إمكانية بقائه في السلطة اليوم. ومن غير المستبعد أن يعمَد إلى إطالة الحرب لسببٍ آخر وهو عدم رغبته في إعطاء المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية الأميركية كامالا هاريس أي دور إيجابي لإيقاف الحرب وتفضيله انتظار نتائج الانتخابات الأميركية على ترامب الذي، في حالة نجاحه، سيتعامل معه بشكل أفضل من الديمقراطيين حتى في ظلّ الوقوف الصارخ لبايدن مع إسرائيل وتزويدها بكل الأسلحة التي تحتاجها لإدامة الحرب.
ولكن الحرب ستنتهي بشكلٍ أو بآخر في وقتٍ ما. وسيواجه الأردن بعدها معضلة كبيرة من حيث مقاربته للعلاقة المستقبلية مع إسرائيل. استخدم الأردن الرسمي تبريرًا كان يبدو مقنعًا في السابق، وذلك في سياق ترويجه لتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل أمام مواطنيه. تَمثّل هذا التبرير في أن توقيع المعاهدة أَرغَم إسرائيل على الاعتراف بالدولة الأردنية وبالحدود الأردنية، ما من شأنه دفن مقولة الوطن البديل الذي يعني عمليًا تفريغ الأرض الفلسطينية من السكان والزعم بوجود دولة فلسطينية في الأردن وليس على التراب الفلسطيني. بل أصرّ الأردن على تضمين المعاهدة نصًّا صريحًا ضدّ أي محاولة للتهجير الجماعي للسكان (أي من المناطق الفلسطينية إلى الأردن).
إضافةً إلى ذلك، وبعد وصول نتنياهو واليمين المتطرّف إلى السلطة، كان لسان حال الأردن الرسمي يقول إن موقف إسرائيل المتعنّت بالنسبة للعملية السلمية لا يمثّل نهاية المطاف، وإن نتنياهو سيترك الحكم في وقتٍ من الأوقات، وعلى الأردن الانتظار حتى يأتي رئيس وزراء إسرائيلي أكثر مرونةً واتّزانًا، ما سيسمح باستئناف الحديث مع إسرائيل حول السُبل التي من شأنها إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية.
لقد أضعفت الحرب الإسرائيلية على غزة هذَين التبريرَين إلى درجة كبيرة. فقد أصبح من الواضح أن أحد أهداف إسرائيل الرئيسة من الحرب التخلّص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين في غزة، إما عن طريق القتل المباشر أو عن طريق جعل غزة مكانًا غير قابلٍ للعيش بعد أن دمّرت إسرائيل كل مقوّمات الحياة في القطاع من شبكات الطرق والكهرباء والمياه، ومن المدارس والمستشفيات ودور العبادة. إضافةً إلى ذلك، فإن المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية ماضون في مهاجمة التجمّعات السكانية الفلسطينية، وبمساندة الجيش الإسرائيلي، في محاولات مكشوفة للتطهير العرقي للفلسطينيين، تمهيدًا لخلق أو الاستفادة من ظروف تسمح بالتهجير.
أما الحجة الثانية التي كانت تأمل بوصول رئيس وزراء إسرائيلي يستطيع الأردن التفاهم معه حول إقامة الدولة الفلسطينية فقد سقطت أيضًا، خاصة بعد أن أقرّ الكنيست الإسرائيلي في شهر تموز/يوليو الماضي، وبموافقة كافة الأحزاب الرئيسة الإسرائيلية من موالاة ومعارضة، على قانونٍ ضدّ إقامة الدولة الفلسطينية.
الانقسام الحالي في إسرائيل هو فقط بين من مع نتنياهو ومع الفريق ضدّ نتنياهو، أما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فثمّة شبه إجماع إسرائيلي على رفض الدولة الفلسطينية. ومن غير المتوقع لهذا الموقف المتعنّت الشعبي والرسمي الإسرائيلي أن يتغيّر، فالمجتمع الإسرائيلي آخذٌ في التطرّف بشكل متزايد منذ ما يزيد على العشرين عامًا، وما من كتلة حرجة شعبية إسرائيلية وازنة تنادي بالسلام، لا الآن ولا في المستقبل المنظور.
تبعًا لذلك، ثمّة معضلة حقيقية تواجه الأردن في مرحلة ما بعد الحرب. فاستئناف التعاون الاقتصادي والأمني مع إسرائيل سيعرّض الحكومة لمواجهة مباشرة مع رأيٍ عام غاضب ورافض، وسيعطي إسرائيل الانطباع بأن الأردن ليس جادًّا في معارضته للسياسات الإسرائيلية؛ أما الاستمرار في الموقف الأردني الحالي المتقدّم على غيره من الدول العربية من ناحية انتقاده اللاذع لإسرائيل، فسيعرّضه لضغوط جادّة من الولايات المتحدة وغيرها.
من هنا، تُعدّ نتيجة الانتخابات الأردنية في غاية الأهمية، فعوضًا عن أنها تعبيرٌ صارخ عن أين يقف الرأي العام الأردني، يمكن لصانع القرار الأردني استخدام هذه النتيجة لمقاومة أي ضغوط خارجية قد يتعرّض لها الأردن.
إن مفترق الطرق الذي سيواجهه الأردن من الأهمية بمكان، ما يستدعي حوارًا وطنيًا جادًّا حول مستقبل العلاقة الأردنية الإسرائيلية. وفي حين أن إلغاء معاهدة السلام قد لا يكون مطروحًا على الطاولة لاعتبارات عدّة، فإن دراسة باقي الخيارات وانتقاء الأفضل منها ضرورة وطنية، لأن العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا بين الأردن وإسرائيل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي ليس ممكنًا ولا مقبولًا.