طنين الطائرات المسيّرة الإسرائيلية لا يكلّ، ضجيجٌ مستمرٌّ في الخلفية يضبط إيقاع الحياة اليومية في بيروت. تحوم المسيّرات فوق رؤوسنا أشبه بالطيور الجارحة، وغالبًا ما يَخرِق أزيزَها الذي لا ينقطع دويٌّ أعنف يُسمع من مسافةٍ أبعد ويُنبِئ بغاراتٍ جديدة.
أما السكان الذين هربوا من الجنوب أو البقاع أو ضواحي بيروت الجنوبية التي يُشار إليها محليًّا بـ"الضاحية"، فلا يشكّل صوت المسيّرات مصدر إزعاجٍ لهم وحسب، بل هو تذكيرٌ دائم بمعاناتهم في ظلّ الصراع الراهن: فقد نزحت أعداد كبيرة منهم ووجدوا ملاذًا لهم في المرافق والمساحات العامة في جميع أنحاء البلاد، حتى إن البعض افترشوا الأرض على كورنيش بيروت، ناصبين خيمًا مؤقّتة يبيتون فيها، تتمايل برفقٍ مع نسائم البحر الأبيض المتوسط المُنبسِط خلفهم.
لقد اضطّر حوالى 1.2 مليون شخص إلى النزوح من أحيائهم أو قراهم أو بلداتهم التي دُمّر الكثير منها بالكامل. وباتت بيروت ترزح تحت وطأة هذه المأساة الإنسانية. فالمدارس الرسمية تخدم اليوم غايةً مختلفة، هي إيواء اللبنانيين الذين أمسوا لاجئين في بلادهم. وبتنا نسمع في أروقتها همسات عائلات تتساءل إلى متى ستستمرّ هذه الحرب، وتزيد من قلقها مخاوف حلول فصل الشتاء وهم هنا، يجهلون ما إذا سيعودون إلى منازلهم أم إلى ركامها. أما شوارع بيروت الصاخبة دومًا فلم تكنّ، بل ازدادت فوضويةً. فسيارات النازحين مركونةٌ بشكل عشوائي على مقربة من منتصف الطريق، ما يؤدّي إلى سدّ التقاطعات ويتسبّب بزحمة سيرٍ خانقة. يترافق كل ذلك مع ضوضاء الرنين المستمرّ للهواتف المحمولة في أيدي مواطنين لا ينفكّون عن متابعة المستجدّات، ويترقّبون أنباء جديدة تبلغهم عمّا إذا طال القصف منازلهم، ويتحسّبون لوقوع الغارة التالية. وهي ستأتي، كما تفعل دومًا.
وليالي الحرب أسوأ من نهاراتها. ويخبّئ الظلام الآن قسوةً من نوع آخر. قد يغيب صوت المسيّرات ليلًا، وقد تخلو الشوارع من ناسها، فينتابك شعورٌ زائفٌ بالطمأنينة، إلى أن تبدأ غارات بعد منتصف الليل، على الضاحية خصوصًا، فتنسف معها وهمَ السلام العابر. هذا وقد اعتاد جميع مَن في المدينة ومحيطها على ترك نوافذهم مفتوحة قليلًا، كخطوةٍ فطرية لتفادي تحطّم الزجاج فيما الغارات تنهال على المناطق المجاورة.
كثيرًا ما يزعم الإسرائيليون بأنهم يستهدفون مستودعات أسلحة تابعة لحزب الله، لكن القصف يبدو عشوائيًا في الغالب من هنا، ويقع ضحيته مدنيون أبرياء. لكن في بعض الأحيان، تكون النية واضحة لا لبس فيها، وهي تصفية قياديين بارزين في الحزب باستخدام أكثر الأساليب تدميرًا. فدويّ الغارات التي أسفرت عن مقتل أمين عام حزب الله حسن نصر الله في 27 أيلول/سبتمبر وسوّت أربعة مبانٍ كبيرة بالأرض على الأقل، سُمع في جميع أنحاء بيروت. حتى أولئك الذين اعتادوا على العنف في لبنان ذُهِلوا من ضخامتها. بدا موت نصر الله مستحيلًا، ومنعطفًا لم يعتقد كثرٌ أنه سيحدث. فقد كان نصر الله للبعض رمزًا مهيبًا لمحور المقاومة الموالي لإيران، فيما اعتبره آخرون إرهابيًا مسؤولًا عن سنواتٍ من العنف والصراع. لكن الحقيقة الدامغة، كسائر الحقائق التي تجتاحنا في الظلام، هي أن نصر الله قد توفي.
من الصعب لنا أن نستوعب أن الحرب أسفرت عن مقتل أكثر من 2400 شخص وإصابة 11500 آخرين، وأن ما يربو على عامٍ كاملٍ قد مضى منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حين فتح حزب الله جبهة تضامن وإسناد مع حركة حماس، مستهدفًا مواقع إسرائيلية عَقِب الهجوم الذي شنّته حماس على إسرائيل في اليوم السابق. وقد اندرجت هجمات حزب الله في إطار استراتيجية "وحدة الساحات" التي تقضي بأن تعمَد الميليشيات المنضوية ضمن محور المقاومة إلى تنسيق عملياتها العسكرية ضدّ إسرائيل. وردّت إسرائيل بقصف أهداف في جنوب لبنان، واستمرّت الهجمات المتبادلة بين الجانبَين طوال أحد عشر شهرًا.
لكن بحلول 17 أيلول/سبتمبر، بدا واضحًا أن إسرائيل قد حوّلت تركيزها من غزة إلى لبنان، وباشرت تكثيف هجماتها على حزب الله. كان هدفها المُعلَن تحييد التهديد الذي يطرحه الحزب وتأمين حدودها الشمالية، من أجل السماح لعشرات آلاف الإسرائيليين بالعودة إلى منازلهم. لكن هذه الطموحات أعادت اللبنانيين بالذاكرة إلى أحداث العام 1982، حين تقدّم الجيش الإسرائيلي نحو بيروت سعيًا إلى طرد منظمة التحرير الفلسطينية. والسؤال المطروح اليوم: هل ستحاول إسرائيل مجدّدًا اجتياح هذه المدينة المنكوبة؟
كان لبنان ولا يزال ساحة حروبٍ بالوكالة منذ فترة طويلة، لدرجةٍ باتت معها ذاكرة الأحداث مشوّشة. لقد حذّر وزير المالية اللبناني الراحل، محمد شطح، في آخر تغريدة له قُبيل اغتياله في العام 2013، من أن حزب الله يضغط للاضطلاع بالدور نفسه الذي كان النظام السوري يؤدّيه في لبنان بعد العام 1976، ساعيًا إلى الهيمنة على قرار الدولة اللبنانية في الأمن والسياسة الخارجية. غالب الظن أن حزب الله كان مسؤولًا عن مقتل شطح، ويبدو أننا نعيش اليوم الواقعَ الذي حذّرنا منه. وقد اتّهمت المحكمة الدولية أيضًا أعضاء في الحزب بالضلوع في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في العام 2005، وأدّى هذا الاغتيال في نهاية المطاف إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان في شهر نيسان/أبريل من العام نفسه. وها هو لبنان مجدّدًا، مجرّد بيدقٍ على رقعة شطرنج التنافس الإقليمي المحموم، حيث تتقاطع الصراعات على السلطة، والسياسات الطائفية، ومصالح الدول الأجنبية لتملي علينا حاضرنا المتأرجح بين الحياة والموت.
إن عبء التاريخ ثقيلٌ على أكتاف مَن يعيشون في بيروت اليوم. حين يضغط سائق متحمّس بقوة على دواسة الوقود على الكورنيش، يتردّد صدى الصوت وكأنه تمهيدٌ لوقوع غارةٍ جوية. في مثل هذه اللحظات، يكفّ الخيال عن كونه صديقًا يؤنسنا. ويشكّل الواقع الجديد ضغطًا إضافيًا على البنى التحتية المتهالكة أصلًا في بيروت، حيث عجّت المستشفيات بالمصابين، وتحوّلت المدارس إلى مراكز لإيواء النازحين، فيما تفوح في شوارع المدينة بعد القصف الإسرائيلي رائحة كريهة تشبه الكبريت.
ما من مكانٍ يُشعرنا بالأمان. فالغارات لا تقتصر على الضاحية فحسب، بل تستهدف أيضًا أحياء في قلب العاصمة بيروت. فقد شنّت إسرائيل حتى الآن أربع هجمات كبيرة على وسط بيروت، أولها على حي الكولا في 30 أيلول/سبتمبر، ثم على الباشورة في 3 تشرين الأول/أكتوبر، وتلتهما غارات متزامنة تقريبًا على البسطة وشارع النويري في 10 تشرين الأول/أكتوبر، أسفرت مجتمعةً عن مقتل عشرات الأشخاص، مُخلِّفةً أضرارًا ماديّة جسيمة في المدينة وندوبًا عميقة في نفوس سكانها. ادّعى الإسرائيليون أنهم كانوا يستهدفون قادةً في حزب الله، ومستودعات أسلحة، وحتى مسؤولين في منظمات فلسطينية نفّذت عمليات في الضفة الغربية. لكن ذلك لا يغيّر في الواقع المرير شيئًا، وهو أن الهجمات حصدت، وما زالت تحصد، أرواح الكثير من المدنيين الأبرياء. نشعر وكأن ما من تمييزٍ واضحٍ بعد الآن بين المدنيين الذين يصادف تواجدهم في مكان الاستهداف والمقاتلين. نشعر أن الحدّ الفاصل بين السلامة والخطر قد تلاشى.
لكن، على الرغم من الشعور بالموت الوشيك الذي يخيّم على العاصمة، ما زالت بيروت تنبض بالحياة. فالناس يقودون سياراتهم، وتغصّ بهم شوارع المدينة الضيّقة، ويتبادلون أطراف الحديث مع الغرباء حينًا، ويتجادلون مع الأصدقاء حينًا آخر. وتكتسي النكات القديمة حول زحمة السير في لبنان نبرةً أكثر قتامةً عندما يدرك المرء أن الازدحام يزداد سوءًا بسبب الأعداد الهائلة من النازحين في المدينة. فالدراجات النارية تشقّ طريقها بين السيارات، على متنها عائلاتٌ بكاملها أحيانًا. لكن لا سبيل للهروب من الصراع.
إذا نجحتَ في كتم أزيز طائرات الاستطلاع التي تحلّق في الأجواء ودويّ الغارات في المناطق المجاورة، يأتي خرق جدار الصوت ليعكّر صفو لحظات الهدوء العابرة، ليُعيدَك مجدّدًا إلى الواقع، إذا تناسَيت ولو للحظةٍ شبح الحرب الذي يلقي بظلّه الثقيل على بيروت. ما من سلامٍ حقيقي ننعم به، وما يحرّكنا هو غريزة البقاء والصمود. هذه الحرب، كما الحروب السابقة، ستنتهي في آخر المطاف. لكن حياتنا في بيروت، بعد مرور شهرٍ على الحرب، تبقى معلّقة بين طنين الحاضر وصدى مستقبلٍ نعجز عن التنبّؤ به.