مع تصاعد حدّة الصراع في لبنان، اضطّر عددٌ كبير من السكان، معظمهم من الطائفة الشيعية، إلى النزوح من قراهم وبلداتهم وأحيائهم، وبلغ عددهم وفقًا للحكومة اللبنانية حوالى 1.2 مليون شخص، فيما انتقل ما يُقَدَّر بنحو 200 ألف إلى 300 ألف شخص إلى سورية عبر الحدود. أفرز هذا النزوح وضعًا معقّدًا على الصعيد الاجتماعي، اتّسم حتى الآن بالتعاون والتضامن، إلا أن عواقبه المستقبلية ما زالت غير معروفة.
بعد أن فتح حزب الله جبهةً عسكريةً ضدّ إسرائيل في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بدأت التحضيرات في بعض المناطق لرعاية النازحين المُحتمَلين، كما حصل في منطقة الشوف الجبلية حيث أعيش، وحيث الزعيم الدرزي وليد جنبلاط هو الشخصية السياسية الأبرز. فالأحزاب السياسية الناشطة على الأرض هناك أنشأت لجان طوارئ، ما طمأن حزب الله بشأن الاستعداد المحلّي لاستضافة النازحين، مع أن العلاقات بين جنبلاط والحزب لم تكن دومًا جيّدة. في المقابل، أكّد الحزب أنه خزّن موادّ إغاثة، ما دفع المنظمات غير الحكومية والأحزاب السياسية إلى إبطاء وتيرة استعداداتها لثقتها في قدرة الحزب على إدارة جهود الإغاثة.
لكن مع تكثيف الإسرائيليين غاراتهم على الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية في أواخر أيلول/سبتمبر وصولًا إلى تشرين الأول/أكتوبر، فاقَت موجةُ النزوح الناجمة عن هذه الغارات قدرةَ خطط الإغاثة الأوّلية على الاستيعاب. فبدأت المشاكل عندما لم تستطع مراكز الإيواء المُخصَّصة للنازحين تقديم ما يكفي من الدعم اللوجستي والموادّ الأساسية مثل الغذاء والدواء والفُرُش. وبسبب هذا النقص، اضطرّ النازحون إلى البحث عن مأوى لهم في أماكن أخرى، ما أدّى إلى ارتفاع الإيجارات بشكلٍ كبير. وعلى الرغم من وعود حزب الله بأنه سيتولّى تقديم الإغاثة والمساعدة، أربك غيابه عن جهود الإغاثة المنظمات غير الحكومية المحلية والأحزاب. ففي منطقة الشوف على سبيل المثال، قدّمت المنظمات المحلية المساعدة، لكن قدراتها كانت محدودةً بسبب الدعم غير المتكافئ من الأحزاب السياسية، إذ غاب تيار المستقبل عن جهود الإغاثة بالكامل، فيما كانت المنظمات المرتبطة بالحزب التقدّمي الاشتراكي بزعامة جنبلاط، إضافةً إلى الجماعة الإسلامية، أكثر نشاطًا.
وأخذت أعداد النازحين ترتفع، واحتياجاتهم تزداد، وأصبح التمويل أكثر ندرةً. في غضون ذلك، كانت قدرة الدولة اللبنانية على تولّي جهود الإغاثة محدودةً، فالبلاد لم تتعافَ بعد من الانهيار المالي الذي أصابها في العامَين 2019-2020، إذ باتت الدولة مُفلِسة فعليًا. في الوقت نفسه، نشأت خلافات حول إدارة مراكز الإيواء بين المنظمات غير الحكومية والفروع المحلية للقوى السياسية، وحذّر البعض من استقبال النازحين المرتبطين بحزب الله بسبب معارضتهم له، أو بسبب مخاوفهم من أن تستهدف إسرائيل عناصر من الحزب موجودين بين النازحين. ولكن على الرغم من هذه التحدّيات، رحّب السكان عمومًا بالنازحين.
واليوم تجلّت صورةٌ شاملةٌ عن عملية النزوح وإدارتها. ما لاحظتُه في قريتي أن الكثير من النازحين، بمَن فيهم أولئك الذين ذهبوا لاحقًا إلى سورية، عثروا في البداية على مأوى لدى أقاربهم أو معارفهم، في حين أن نسبةً أقلّ منهم استأجرت شققًا سكنية. أما الفقراء منهم، فلم يجدوا مأوى غير مراكز النزوح. وفي المرحلة الأوّلية، عانت هذه المراكز من نقصٍ حادٍّ في الخدمات، أكان منها الفُرُش، أم الطعام، أم المياه، أم المستلزمات الصحية، أم الحمّامات. ومع الوقت تحسّنت الظروف إذ نشطت المنظمات غير الحكومية القادرة، ما أدّى إلى استقرار نسبي في تقديم الخدمات للمراكز. كذلك أصبح التعاون والتفاعل مع النازحين أفضل، ما ساهم في تحسين الأوضاع. فعلى سبيل المثال، أخذ أحد الأشخاص على عاتقه إصلاح الحمّامات في مركزٍ للنازحين في منطقتي بما أنه يتمتّع بالمهارات التي تسمح له بذلك. وقد اضطلع النازحون أيضًا بدورٍ مهمّ في تنظيم مهامّ الطهي والتنظيف، الأمر الذي ساهم في رفع المعنويات، ولا سيما أن علاقاتٍ ودّية نشأت بينهم وبين أعضاء المنظمات غير الحكومية المعنيّة بمساعدتهم، وبينهم وبين السكان المشرفين على المراكز.
في المقابل، تفاقمت مشاكل النازحين الذين لجأوا إلى منازل أقاربهم أو اسـتأجروا شققًا سكنية، إذ اضطّروا إلى الاعتماد على أنفسهم أو على مضيفيهم. فقد تردّد كثرٌ منهم في طلب مساعدة المنظمات غير الحكومية والسلطات البلدية، ما أدّى إلى معاناة ملحوظة. معظم هؤلاء النازحين تركوا منازلهم من دون أموال كافية، في حين أن مَن يملك بعض المال منهم قلقٌ بشأن المستقبل بعد نفاد هذا المال، مع العلم أن قسمًا كبيرًا من النازحين يعتمدون على التحويلات المالية من الخارج.
لقد أصبح توزيع المساعدات والخدمات أكثر تنظيمًا مؤخّرًا، وتولّى مدراء المدارس التي تحوّلت إلى مراكز للنازحين إدارة هذه المرافق. وفي موازاة ذلك، وجدت الأحزاب السياسية والمنظمات غير الحكومية وسائل أفضل للتواصل في ما بينها وتوزيع الأدوار. ساهم هذا التحسّن في التنسيق، إضافةً إلى لجوء الكثير من النازحين إلى منازل أقاربهم ومعارفهم، في تجنّب الشقاق الذي كانت المجتمعات المضيفة تخشاه. وقد أعرب النازحون عن تفهّمهم وامتنانهم لسكان المناطق المضيفة، محافظين في الوقت نفسه على كرامتهم.
في مسقط رأسي الشوف، تكلّلت المرحلة الأولى بالنجاح إذ تمكّن المجتمع المحلّي من التعامل مع صدمة النزوح، وبدأت الجهات المعنيّة بتأمين المساعدات تُحوّل تركيزها نحو توفيرها بصورة مستدامة. في البداية، استأجرت أو شغلت عائلاتٌ عدّة شقة واحدة، لكن في الوقت الراهن بدأت كل عائلة بالبحث عن مكان خاص بها تفاديًا للاكتظاظ. وبدأ النازحون يحتسبون نفقاتهم للشهر المقبل ويفكّرون في مستقبلهم وسط حالة اللايقين السائدة.
والجدير بالذكر أن النازحين لم ينخرطوا في السياسة، وظلّ تركيزهم منصبًّا على حالتهم وأوضاع عائلاتهم وأقاربهم. لكن اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله كان له وقعٌ كبيرٌ عليهم ولا سيما أنه شخصية بارزة منذ عقودٍ. فقد سادت مشاعر اليأس في أوساط النازحين، وحاولوا رفع معنوياتهم من خلال تذكُّر حرب العام 2006 والانتصار الذي حقّقه حزب الله آنذاك. وأكّد البعض أن الحزب لم يخذلهم يومًا وأن النصر حليفهم على الدوام. ومع أن بعض النازحين كرّروا عبارات من القرآن وأخرى لنصر الله، مفادها أن "زمن الهزائم قد ولّى"، عبّر مزاجهم عن إدراكهم بأن وضعهم أصعب بكثير ممّا كان سابقًا.
كان لافتًا غياب مشاعر السخط تجاه حزب الله، بل على العكس بدا أن تمسّكهم بالحزب قد ازداد بسبب الصلة العميقة التي تربطه بالمجتمع الشيعي. فالنازحون يشعرون بأن مصيرهم مرتبطٌ بمصير حزب الله، ويخافون على مستقبلهم في حال مُني الحزب بالهزيمة. ويساورهم القلق من أن يعيدهم الوضع الراهن، أي فقدان منازلهم في الجنوب وتعرّضهم للتهجير والذلّ، إلى فترة ما قبل الإمام موسى الصدر الذي استنهض الطائفة الشيعية في ستينيات القرن الماضي. وعلى مدى العقود الأخيرة، لم يعرف الشيعة مؤسسات كثيرة خارج مظلة حزب الله وحركة أمل، وكان توفير الخدمات يقتصر على الشبكات التابعة للحزب أو للحركة داخل الدولة وخارجها.
أما المجتمعات المضيفة التي بدأت تُظهر مؤشرات إنهاك اقتصادي، فقد استقبلت النازحين بحفاوة ودفء. وفي بلدتي ذات الغالبية السنيّة، حاول السكان تجاهل الإساءات التي صدرت عن حزب الله، بدءًا من الاشتباه بتورّطه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، ومرورًا باستيلائه على مناطق سنّية في بيروت يوم 7 أيار/مايو 2008، ووصولًا إلى دوره في تقويض الدولة اللبنانية وقمع الثورة السورية. وعلى الرغم من هذه الذكريات، دفعت التحديات الراهنة، والعلاقات الشخصية بين المواطنين، والإدراك السائد بأن اغتيال نصر الله أثّر بشكل كبير على الطائفة، الكثيرَ من الأشخاص إلى الترحيب بالنازحين واستقبالهم تلبيةً لنداء الواجب الوطني. فتمّ تأجيل الخلاف مع حزب الله إلى وقت لاحق.
مع ذلك، ثمّة قيود فعلية لما يمكن القيام به. فلبنان بأكمله يواجه صعوبات اقتصادية، ما يقيّد بصورة إضافية القدرات المتوافرة لمساعدة النازحين. وقد ذكّرني رئيس إحدى المنظمات غير الحكومية بما كان عليه الوضع خلال حرب تموز/يوليو 2006، قائلًا: "كنّا نذهب من باب إلى باب، وكان كل بيت يقدّم لنا بعض الأشياء للنازحين. أما اليوم، فقد تغيّرت الأوضاع الاقتصادية، وعلى الرغم من التعاطف مع النازحين، لا يمكن أن يصل إلى مستويات العام 2006 لا مادّيًا ولا معنويًا".
عبّر النازحون في منطقتي عن رغبتهم في العودة إلى أماكن سكنهم حالما تنتهي الحرب، حتى لو أنهم سيعيشون في خيمة. وقد هدّأ ذلك المخاوف من بقاء النازحين بصورة نهائية في المناطق التي نزحوا إليها. مؤخرًا، استهدف الإسرائيليون شقة سكنية يقطنها نازحون في بلدة بعدران الشوفية، ما أدّى إلى مقتل ثمانية أشخاص، بينهم ثلاثة من أبناء البلدة. وأجّج هذا الهجوم القلق من إقدام الإسرائيليين على استهداف نازحين آخرين، ما دفع سكان المناطق المضيفة إلى زيادة التدقيق بهوية الوافدين الجدد وسط الاشتباه بإمكانية انتمائهم إلى حزب الله.
أدّت حوادث أخرى، أقلّ خطورة، إلى مفاقمة الخلافات على الأرض. فقد تسبّب وجود النازحين بزحمة سير خانقة في المناطق المضيفة، وبزيادة استهلاك موارد شحيحة مثل المياه، واشتكى البعض أيضًا من تكدّس كميات كبيرة من النفايات. كل هذا يشير إلى أن بقاء النازحين مدّة طويلة في المناطق المضيفة، على الرغم من الترحيب الذي يحظون به راهنًا، قد يصبح مصدر خلاف مع السكان المحليين.
على المستوى السياسي، يُشار إلى أن الأحزاب شبه غائبة عن عمليات الإغاثة، علمًا أن بعضها يشارك بصفة اجتماعية من خلال العلاقات التي تربطه بمنظمات دولية من أجل الحصول على دعمها. والدولة أيضًا غائبةً على الجبهات كافة. إذًا، أسهمت العلاقات بين النازحين ومضيفيهم في تعزيز قدرة هذه المجتمعات على التصدّي لمحاولات زرع بذور الانقسام، الأمر الذي خفّض منسوب التوترات الطائفية والنزاعات السياسية. مع ذلك، من الضروري الاستمرار في بذل جهود حثيثة للتعامل مع تداعيات الاكتظاظ، والمشقّات الاقتصادية، والاحتمال الكبير المتمثّل في اتّساع رقعة الحرب.