فيما يتوصّل المراقبون إلى استنتاجاتهم حول تأثير اغتيال قائد حماس، يحيى السنوار، من المهم الإضاءة على ما لم يتغيّر. مع أن الرئيس الأميركي جو بايدن وآخرين أشاروا إلى أن تصفية السنوار توفّر "فرصةً لتحقيق السلام" في غزة، والانتقال إلى "اليوم التالي"، يجب ألّا يتجاهل أحدٌ – وخاصةً في دوائر السياسة العامة في واشنطن – كثرة المسائل الشائكة التي لا تزال ماثلةً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
يرتبط جوهر هذا الصراع بشقَّين من القضايا، هما السيادة والاحتلال من جهة، والحرب والسلم من جهة أخرى. على المستوى الأول، اعترفت الولايات المتحدة مرارًا بضرورة "تهيئة الظروف لإرساء مستقبل أفضل، بما في ذلك تطبيق حلّ الدولتَين" – أي بتعبيرٍ آخر، إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإحلال السيادة الفلسطينية. ثمّة ميلٌ اليوم إلى اختزال النقاش بحركة حماس ومصير قادتها، ولكن احتلال إسرائيل لغزة والقدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان يسبق تأسيس حماس بعقدَين من الزمن. أما مسألة السلام والحرب، فعلى الرغم من أن السنوار خطّط لهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يكن هو الهدف الرئيس للغارات الإسرائيلية على غزة بعد هذا التاريخ، ولم يكن العقبة الأساسية في المفاوضات خلال العام الماضي. لو كان كذلك، لكان موقف إسرائيل اليوم مختلفًا جدًّا.
لقد كانت إسرائيل شفّافة في هذا الصدد. فقد نقلت وسائل إعلام إسرائيلية مرّاتٍ عدّة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تَعمَّد "إفشال المحادثات" حول الإفراج عن الرهائن الإسرائيليين الذين احتجزتهم حماس، والوقف المؤقّت للأعمال القتالية، الذي أملت إدارة بايدن، بحسب زعمها، أن يؤول إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار. إضافةً إلى ذلك، وعلى الرغم من أن الإدارة الأميركية اعتبرت أن هذه المحادثات ترمي إلى تحقيق وقف إطلاق النار، أوضحت حكومة نتنياهو أن إسرائيل لا تنوي إنهاء الحرب قبل تحقيق "النصر الشامل". يمكن للمرء أن يؤيّد أو يعارض هذه المواقف حول الحرب والسلم، لكن المهمّ أنها مواقف إسرائيلية لا لبس فيها صادرة عن شخصيات إسرائيلية.
عبّرت إسرائيل بشفافية أيضًا عن وجهات نظرها بشأن الاحتلال والسيادة. ففي آب/أغسطس، استحدث منسّق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التابع لوزارة الدفاع منصبًا جديدًا لغزة يوازي منصب رئيس الإدارة المدنية في الضفة الغربية. ويكون بذلك قد عيّن مسؤولًا عسكريًا إسرائيليًا للإشراف على الشؤون المدنية في القطاع. وهذا ليس مسعى قصير الأجل، إذ نقل موقع إخباري إسرائيلي "عن مسؤول دفاعي [إسرائيلي] بارز قوله إن 'هذا المنصب سيبقى فعّالًا خلال السنوات المقبلة'، مستبعدًا فكرة أن انخراط إسرائيل في غزة سينتهي قريبًا، بغضّ النظر عن وتيرة الأعمال القتالية أو أي اتفاقات محتملة حول الرهائن".
لقد بيّن الإسرائيليون بوضوح تامّ أنهم لن يغادروا غزة، حتى إن لم يكن هذا مُستساغًا في بعض الأوساط. بل على العكس، كرّر مسؤولون بارزون، مثل وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير، مؤخرًا دعوة الفلسطينيين إلى مغادرة القطاع. وفي مناسبات متعدّدة، آخرها هذا الأسبوع، دعا وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش إلى إعادة الاستيطان في غزة بصورة دائمة. لذا، يُعتبر الحديث عن "يومٍ تالٍ" للقطاع في المدى القصير بعيدًا كلّ البعد عن الواقع. وقد يكون الهدف تحديدًا تطبيق سيناريو "لا يوم تالٍ". ومن المُحتمَل أن تطبّق إسرائيل استراتيجية "الحرب الأبدية"، لأسباب قد لا توافق عليها القوى الخارجية، لكن الإسرائيليين برّروا المنطق الكامن خلفها بصراحة تامة.
وعند النظر إلى القدس الشرقية والضفة الغربية، لا شيء يدفع للاعتقاد بأن إسرائيل قد تنسحب من هناك أيضًا. ففي تموز/يوليو، أعلنت عن أكبر عملية مصادرة أراضٍ في الضفة الغربية منذ توقيع اتفاقيات أوسلو قبل أكثر من 30 عامًا. ولفت سموتريتش صراحةً إلى أن الهدف من هذه الخطوة هو "إحباط إقامة دولة فلسطينية"، من دون أن يأتي على ذكر حماس. ومع أن محكمة العدل الدولية أكّدت في تموز/يوليو على أن "استمرار وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وأنها مُلزمة بإنهاء وجودها فيها بأسرع وقت ممكن"، ما من مؤشرات على أن إسرائيل ستغيّر سياساتها في هذا الصدد، بل على العكس هي ترسّخ موقعها بشكلٍ أكبر.
لم يتأثرّ أيٌّ من هذه القضايا المرتبطة بالسيادة والاحتلال أو السلم والحرب، بمقتل السنوار لأن القرارات الإسرائيلية، وليس القرارات الفلسطينية، هل التي تحدّدها، سواء كانت لحماس علاقة بها أم لا.
لكن ثمّة عاملٌ أساسي في الحسابات الإسرائيلية يُعدّ مهمًّا على وجه الخصوص لدوائر السياسة العامة في واشنطن، وهو افتراض إسرائيل بأن الولايات المتحدة ستدعمها بصرف النظر عن أي امتعاضٍ من نتنياهو وحكومته. وهذا الافتراض في محلّه. فخلال العام الفائت، وضعت إدارة بايدن عددًا من "الخطوط الحُمر" لإسرائيل في إطار حربها الدائرة في غزة، إلّا أن تجاهلتها إسرائيل واستمرّت في ممارساتها. وأحدث مثال على ذلك كان إصرار الولايات المتحدة على قيام إسرائيل بإلغاء أوامر الإخلاء الجماعي لشمال غزة وتعزيز دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، بعد أن عرقلت ما يصل إلى 90 في المئة من المساعدات الإنسانية إلى شمال غزة. والقانون الأميركي ينصّ على وجوب تعليق المساعدات العسكرية في حال ثبُت أن الجهة المتلقية لها تنتهك القانون الدولي الإنساني. مع ذلك، بقي الدعم الأميركي لإسرائيل على حاله على الرغم من ندرة المساعدات الإنسانية التي تسمح بإدخالها إلى غزة.
أوضحت إسرائيل أن مقتل السنوار لا يوفّر فرصةً لإنهاء الحرب على غزة. وإدارة بايدن لا تحتاج إلى انتظار فرصة سانحة لوقف الصراع، إذ بمقدورها أن تخلقها بنفسها. فالولايات المتحدة قادرة على وضع حدٍّ لأعمال العنف وضمان التوصّل إلى حلٍّ سلمي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لكن عليها ببساطة أن تستخدم قدرتها هذه. إن الاستمرار في تفادي هذه النتائج وتحويل الأنظار بعيدًا عن القضايا الأساسية الكامنة في جوهر هذا الصراع، لن يسهما سوى في مفاقمة انعدام الاستقرار والأمن لسنواتٍ طويلة مقبلة.