بعد سنة من وقوع هجوم حركة حماس على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تخوض القوات الإسرائيلية حربَين "أبديّتَين" في أقل تقدير — في قطاع غزة ولبنان — بل وأكثر إذا نظرنا إلى عنف المستوطنين المتزايد في الضفة الغربية بمثابة ساحة حرب متميّزة جديدة، وإذا أضفنا العمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ وكلاء وحلفاء إيران في اليمن وسورية والعراق، علاوةً على إيران نفسها.
ما يجعل هذه الحروب "أبدية" هو غياب الآفاق الواضحة، ناهيك عن المخطّطات الفعلية، لإحداث "يومٍ تالٍ" مُجدٍ سياسيًا، خصوصًا في غزة ولبنان. فبالرغم من خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتبجّح عن السعي وراء "النصر الشامل" ضدّ حماس وحزب الله وتباهيه بمسعى تغيير النظام الإيراني وإعادة رسم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، تدلّ قراءة أكثر رصانة للمشهد على أن إسرائيل لن تحظى هي الأخرى بيومٍ تالٍ طالما بقي كلٌّ من غزة ولبنان بلا يومٍ تالٍ.
لقد وقع أمرٌ دقيق. انضمّت إسرائيل إلى مجموعة من البلدان العربية التي لا تُحسَد على كونها أسيرة حروب أبدية خاصة بها: السودان وسورية واليمن وليبيا والعراق ولبنان وفلسطين. إن هذه الحقيقة ليست مقياسًا فقط لمستوى الصراع المسلح الفعلي — وهو على أشدّه في السودان، وجزئي في سورية — ولا لديناميات الصراعات العصيّة على الحل التي خلّفت مفاوضات مسدودة وهدنات مؤقتة هشّة وقابلة دومًا للانهيار في اليمن وليبيا والعراق؛ علاوةً على لبنان وفلسطين حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. بل تقدّم تلك الحقيقة أيضًا مقياسًا لتآكل العلاقات بين الدولة والمجتمع.
إن المسألة التي تفوق شبح العنف المباشر الدائم أهميةً هي واقع أنّ الدولة لا تمثّل جميع مواطنيها في أيٍّ من هذه البلدان، بما فيها إسرائيل. ففي كل بلدٍ، قد تتمتع الدولة بالهيمنة ببعض المعايير، ولا سيما العسكرية والمالية، ولكنها بالرغم ذلك لا تمارس السيطرة المادية والإدارية الكاملة داخل حدودها. لعلّ السيطرة المختلطة ناجمة عن اتفاق رسمي كما هو الحال بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية أو بين الحكومة المركزية وحكومة الاستقلال الذاتي الكردستاني في العراق، ولعلّها تعكس الأمر الواقع كما بين الحكومة وحزب الله في لبنان. ويمكن كذلك أن تنجم السيطرة المختلطة عن الأمر الواقع وأن تتعرّض للتقويض كما في اليمن وليبيا وفي مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني الخاضعة لسلطتَين متخاصمتَين، أو أن تخضع للتنافس الحادّ كما في السودان. في كافة هذه الحالات، لم تكن الحدود نهائية يومًا، بل بقيت عرضةً للتحدي والتغيير.
هذا، ويشهد كلٌّ من بلدان هذه المجموعة تعايشًا مع مروحة من الجهات المسلحة في داخل حدوده. بل والأهم أن غالبية حالات التنافس المسلح تحصل بين جهات تتمتع بصفة التبعية الرسمية أو شبه الرسمية للدولة: الجيش و"الدفاع الوطني" في سورية، إضافةً إلى وحدات مدعومة من إيران أو روسيا، عدا الجماعات الجهادية والكردية والمعارضة الأخرى؛ الجيش والحشد الشعبي والبشمرگة (المنقسمة على نفسها) في العراق؛ القوات التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا أم للمجلس الانتقالي الجنوبي، وصولاً إلى أنصار الله (الحوثيون) في اليمن؛ فالجيش الوطني في شرقي ليبيا ومجموعة المليشيات الموالية لحكومة طرابلس الغرب والقيادات الجهوية الأخرى؛ الجيش وحزب الله في لبنان؛ أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية وحلفاؤها كتائب شهداء الأقصى وكتائب عز الدين القسام في كلٍّ من الضفة الغربية وقطاع غزة؛ والقوات المسلحة وقوات الدعم السريع، عدا مروحة من الجماعات المتمرّدة التي اكتسبت اعترافًا سياسيًا في اتفاقات سابقة للمشاركة بالسلطة في السودان.
إسرائيل تشكّل استثناءً ضمن هذه المجموعة، علمًا أن قواتها النظامية وأجهزتها الأمنية قد عملت في ذات الفضاءات الجغرافية التي عملت فيها أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية منذ العام1994 وفي قطاع غزة حتى العام 2005. ولكن مليشيا المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، التي تشكِّل رسميًا وحدات مناطقية احتياطية تحت إمرة الجيش الإسرائيلي، لا تسيطر فعليًا على غلاة المستوطنين المسلحين الذين يبعثون العنف في البلدات والقرى الفلسطينية. وفي رأي الباحث الناشط الإسرائيلي يهودا شاوول، "لم يعد واضحًا أين الحدود الفاصلة التي يبدأ وينتهي عندها الجيش، ويبدأ وينتهي عندها المدنيون".
لكن الأحداث في الضفة الغربية تدل على تحوّلات أكثر عمقًا في الجيش الإسرائيلي، كشفتها الحرب الدائرة في غزة بوضوح ساطع. فمن جهة، أظهرت معارك السنة الفائتة مشكلات في القيادة والسيطرة في داخله. علمًا أن المسألة ألأهم هي ما أطلق عليه عالم الاجتماع السياسي الإسرائيلي ياغيل ليفي لقب "التحوّل اللاهوتي" للمؤسسة العسكرية. وقد وصف ذلك بأنه "انتقالٌ من مؤسسة علمانية بالمطلق إلى جيش لاهوتي"، نظرًا إلى تراجع حضور وتأثير "مجنّدي الطبقة الوسطى العلمانيين" وشبكاتهم في الشؤون العسكرية، مقابل انخراط المزيد من أتباع المعسكر القومي-الديني المتشدّد في صفوف الجيش. وبحسب شاوول، فإن قرابة 49 في المئة من التلاميذ الضباط في سلاح المشاة المتخرّجين في العام 2015 انتموا إلى هذا المعسكر. وهو الآخر قد رأى أيضًا نشوب "اصطدام بين الحرس القديم والمؤسساتية من جهة، وبين العناصر والأفراد والأشخاص القوميين-الدينيين من جهة أخرى… [الذين] يريدون تغيير طبيعة ونفس وروح الجيش".
لا يدل أيٌّ من هذه الاتجاهات على أزمة النظام برمته من النوع الذي قد يتمنّاه أعداء إسرائيل. فهي تبقى دولة قوية بمعيار ما يُعرف بمصطلح "القدرات" أو الخصائص الجوهرية — مؤسسية وقانونية وتنظيمية وتكنولوجية وإكراهية (عسكرية-أمنية) وتوزيعية (الموارد والدخول) — وقد احتفظت حتى وقت متأخر بالقدرة على التكيّف مع التغيرات الاجتماعية-السياسية من خلال تعديل التركيب الداخلي للبلاد بصورة جديدة ومستقرة نسبيًا. ولكن هنا بالضبط يكمن التشابه الأهم بين إسرائيل وبين عددٍ من البلدان العربية: تآكل أو حتى انهيار التسويات السياسية التي سمحت بإنشاء دولها تاريخيًا.
يعرّف علماء الاجتماع، مثل جوناثان دي جون وجيمس پوتزل، التسوية السياسية بأنها توزيع القوة الذي تستند إليه جميع الدول، غالبًا عبر التفاوض، بين الجماعات والطبقات الاجتماعية المتنافسة، ما يمكّن المقايضات في ما بين النخب وكذلك التنافس غير العنفي (عادةً) بين الدول ومجتمعاتها. وفي بعض الحالات، ولكن ليس في جميعها، يتم التعبير عن هذه التسويات السياسية في "عقدٍ اجتماعي" يتمتع بالصلابة والشرعية.
وبهذا المعنى، فإن الإصلاحات القضائية التي سعى إليها نتنياهو وحلفاؤه الحكوميون من أقصى اليمين منذ أواخر العام 2022 — الهادفة إلى إضعاف إشراف القضاء على قرارات وتشريعات الحكومة — مثّلت الهجوم المباشر الأهم حتى اللحظة على التسوية السياسية التي مكّنت قيام إسرائيل في العام 1948. كما وأن قيام نتنياهو منذ المبادرة القضائية بتحويل عملية خوض الحرب إلى عاملٍ دافع للسياسة في إسرائيل يجدّد ذلك الهجوم ويبطّن التوجهات التنكسية في صميم الدولة. ولعل المخاوف من انفصال المستوطنين المسلحين في الضفة الغربية أو وقوع حربٍ أهلية في داخل إسرائيل مبالغٌ بها، ولو حاليًا. ولكن، كما يشير عددٌ متنامٍ من المعلّقين الإسرائيليين، فإن الأساليب الصدامية التي يمارسها اليمين المتطرّف تعجِّل وتيرة الخروج على القانون، ما يفرّغ الديمقراطية ويغيّر بصورة جذرية مفهوم سيادة القانون، ويشجع الجماعات المتنوعة، بما فيها الأجهزة الأمنية، على انتزاع حق استخدام القوة لنفسها.
لا تزال التسوية السياسية الجديدة لإسرائيل تتكوّن، وقد لا تستقر أبدًا في ظل القيادة القومية-الدينية الجديدة الصاعدة. وكذلك، قد يتراجع الألم على مصير الرهائن في غزة والشعور بالوحدة أثناء الحرب في نهاية المطاف، كلما عادت هموم سياسية أخرى إلى الصدارة. لكن جذور ومصادر أزمة المعسكر العلماني-الليبرالي، بحسب لقبه الشائع، والذي هيمن على البلاد منذ العام 1948، أعمق بكثير: فإضافةً إلى الاتجاهات والتحولات الاجتماعية-السياسية والديمغرافية الطويلة الأمد، ثمّة قبول ذلك المعسكر بجوهر استراتيجية نتنياهو القاضية باعتبار الصراع مع الفلسطينيين مشكلة عالقة متبقية يمكن إدارتها (من دون حلها) إلى ما لا نهاية. فلا توجد معارضة تستحق الذكر في داخل ذلك المعسكر، الذي قد انهار إلى غير رجعة.
سوف تؤول مراحل الحرب "الساخنة" التي تخوضها إسرائيل حاليًا إلى نهاية ما في آخر المطاف. ستبقى الدولة وتقوم بوظائفها، ولكن التسوية السياسية التي استندت إليها البلاد لعقودٍ من الزمن قد ولّت. إسرائيل أقدر بكثير من البلدان العربية على توظيف الدولة لتوليد القوة وعلى الحفاظ على مكانتها الجيوسياسية، ولكنها أخذت تشبه تلك البلدان في خضوعها لتحوّل داخلي سيصعب عليها العودة عنه.