المصدر: Getty
مقال

ضرورة إعادة تصوّر النضال الفلسطيني

تشير نتائج الانتخابات الأميركية واغتيال يحيى السنوار إلى أن الحركة الوطنية المعاصرة في طور الاحتضار.

نشرت في ١٣ نوفمبر ٢٠٢٤

تُنذر عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بأيام عصيبة آتية للفلسطينيين في الأراضي المحتلّة. لقد كانت حياة الفلسطينيين اليومية شاقّةً ومليئة بالعنف في الكثير من الأحيان حتى قبل هجوم حماس على جنوب إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لكن الممارسات الهمجية بحقّهم بلغت مستوياتٍ غير مسبوقة خلال الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة ردًّا على عملية حماس، بالتزامن مع تصعيد حادّ في وتائر أعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون اليهود في الضفة الغربية.

كان الاحتمال ضئيلًا بحدوث انفراجة حقيقية في ظلّ الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس جو بايدن، أو كامالا هاريس التي رشّحها لتكون خَلَفًا له، لكن من شبه المؤكّد أن الظروف ستكون أشدّ قتامةً بعد في عهد ترامب. وسيزداد حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الحراك التضامني العالمي نصرةً للفلسطينيين الذي انطلق خلال العام الماضي، في وجه الضغوط المتنامية التي سيتعرّض إليها، ولا سيما في الولايات المتحدة، حين تضع الإدارة الجديدة نصب أعينها قمع المعارضة الاجتماعية والسياسية عمومًا، وعلى رأسها الاحتجاجات المتضامنة مع فلسطين، وقطاع التعليم العالي، وحرية الصحافة.

لكن في غضون ذلك، ليست الحركة الوطنية الفلسطينية في وضع يخوّلها تقديم استجابة فعّالة لهذه التحديات المتعاظمة. لقد اعتبر كثرٌ أن عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر دليلٌ على حيوية حركة حماس وعلى جدوى نهج الكفاح المسلّح الذي تتبنّاه ضدّ الاحتلال الإسرائيلي وفي وجه التنكّر لحقوق الفلسطينيين. لكن الهجوم حجب حقيقة أعمق: فعلى مدى ربع القرن الماضي، كانت حماس آخر فصيل فعّال في النظام السياسي الفلسطيني المحتضر. والآن، بعد أن أمعنت إسرائيل في تدمير غزة وقتل سكانها، ينتظر حماس المصير نفسه الذي لاقته سائر مكوّنات هذا النظام. من هذا المنظور، يبدو أن هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر دقّت المسمار الأخير في نعش الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وشكّل مقتل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس يحيى السنوار في 17 تشرين الأول/أكتوبر واغتيال سلفه اسماعيل هنية قبل ذلك بنحو ثلاثة أشهر، مؤشّرًا على هذا المسار، وليس سببًا له.

إن الحركة الوطنية الفلسطينية التي انطلقت في أعقاب النكبة – وهي التسمية التي يطلقها الفلسطينيون على الكارثة التي حلّت بهم إثر تهجيرهم وطردهم جماعيًا من فلسطين الخاضعة آنذاك للانتداب البريطاني خلال الحرب العربية الإسرائيلية التي دارت بين 1947 و1949 – أصبحت ممَثَّلةً لاحقًا بمنظمة التحرير الفلسطينية. وقد تأسّست منظمة التحرير في العام 1964 وأصبحت خاضعة لسيطرة التنظيم الوطني المهيمن، حركة فتح، إضافةً إلى منظمات فدائية أصغر في العام 1968، ثم وقّعت في العام 1993 اتفاقية أوسلو مع إسرائيل التي أفضت إلى إنشاء السلطة الفلسطينية ومنحها حكمًا ذاتيًا محدودًا في أجزاء من الأراضي الفلسطينية التي احتلّتها إسرائيل في العام 1967.

في نظر منتقدي أوسلو، أصبحت حركة فتح وياسر عرفات، قائدها ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، شريكَين للاحتلال الإسرائيلي. وبغضّ النظر عمّا إذا كان هذا النقد منصفًا أم لا، واقع الحال هو أن هذه الاتفاقية سطّرت نهاية الحركة الوطنية الفلسطينية، وأدّت إلى انحسار التعبئة والتحشيد في أوساط المجتمع الفلسطيني. فقد جرى إدراج عشرات الآلاف من الناشطين الذين شاركوا في العام 1987 في الانتفاضة الأولى التي اتّسمت إلى حدٍّ كبير بطابعها السلمي، فضلًا عن آلاف الأسرى الذين أفرجت عنهم إسرائيل في أعقاب اتفاقية السلام، على جدول رواتب السلطة الفلسطينية، وتمّت استمالة النقابات العمّالية وغيرها من الجمعيات المنبثقة من القواعد الشعبية لتكون امتدادًا لسيطرة فتح والسلطة الفلسطينية.

ضَمَن نظام المحاصصة (الكوتا) الذي كرّسته منظمة التحرير الفلسطينية منذ فترة طويلة استئثارَ حركة فتح بحصة الأسد من التعيينات والمزايا في القطاع العام الجديد، الذي سُرعان ما ازداد حجمه ثلاثة أضعاف ليبلغ عدد العاملين فيه 39 ألف موظف ثم 86 ألفًا بحلول العام 1997. ووصل عدد الموظّفين المدنيين إلى 71 ألفًا في العام 2003، فيما بلغ عدد الموظفين الأمنيين 89 ألفًا في العام 2006. وحصلت الفصائل الأصغر أيضًا على حصصها في هذا النظام. وقاد عناصر فتح بدايةً الانتفاضة الثانية التي اندلعت في أواخر العام 2020 وطغى عليها العمل المسلّح، لكن هذه الانتفاضة شكّلت آخر تحرّك مهمّ تنفّذه فتح ضدّ إسرائيل. فقد تمّ القضاء على جزءٍ كبير من قدرتها التنظيمية المتبقّية وتماسكها عندما أعادت إسرائيل احتلال جزءٍ كبير من المناطق الفلسطينية المتمتّعة بالحكم الذاتي في الضفة الغربية في العام 2002.

خلال السنوات اللاحقة، عجزت فتح بوضوحٍ عن تعبئة قاعدتها الشعبية الكبيرة لزيادة زخم المبادرات غير العنيفة وضمان استمرارية هذه المبادرات ضدّ التوسّع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية. في هذا الصدد، شكّلت أحداث قرية بلعين الاستثناء وليس القاعدة، إذ نجح فيها ناشطون فلسطينيون، ويهود إسرائيليون، ومتضامنون أجانب في مقاومة محاولة إسرائيلية لمصادرة أجزاء من أراضيها بين العامَين 2005 و2007. لقد تجلّى تراجع مكانة فتح من خلال فقدان سيطرتها على غزة لصالح حماس في العام 2007، ووقوفها في صفّ المتفرّجين بينما أحكمت إسرائيل حصارها على القطاع وشنّت أربع حروبٍ ضدّ حماس خلال السنوات السبع عشرة اللاحقة. صحيحٌ أن فتح لا تملك سوى قدرة محدودة للتأثير في مجرى الأحداث في غزة، لكن عجزها عن عرقلة النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية، ناهيك عن تحقيق الاستقلال، يشي بقصورٍ أكبر.

يمكن القول إن حركة فتح تحوّلت، قبل هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر بفترة طويلة، إلى كيانٍ بلا روح، يفتقر إلى الإرادة الذاتية وإلى القدرة على العمل المستقل. وتجلّى أُفولها السياسي بشكلٍ أكبر حين حلّت الأجهزة الأمنية الفلسطينية الرسمية، التي أسّسها وشكّل عصبَها عناصر من حركة فتح، محلّ هذه الأخيرة باعتبارها الجهة الأساسية المكلّفة ببسط سيطرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وسط التحوّل السلطوي الذي شهدته (وحاكته الأجهزة الأمنية التابعة لحماس في غزة). وانحسرت أيضًا مكانة التنظيمات الفدائية السابقة والأحزاب السياسية اليسارية، وعلى رأسها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (حزب فدا) المنشقّ عنها، وحزب الشعب الفلسطيني (الشيوعي سابقًا).

لم تكن حماس قطّ جزءًا من منظمة التحرير الفلسطينية رسميًا، بل كانت جزءًا من الحركة الوطنية الفلسطينية الأوسع، وهي لم تفلت من مصيرٍ مماثل. والأهمّ من ذلك أنها لم تخرج يومًا عن النموذج الذي هيمَن على النضال الفلسطيني المسلّح تحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصيلها الرئيس، فتح، حتى إنها لم تكسر هذا النهج أو تبدّله. فهي استخدمت على غرارهما وسائل العنف لممارسة السياسة، بغية اكتساب الشرعية الوطنية والتنافس على القيادة مع فتح، خصمها الفلسطيني الأساسي، والتفاوض مع إسرائيل.

ومع أن حماس بقيت ملتزمةً خطابيًا بـ"التحرير الكامل" لفلسطين، وهو ما يعني القضاء على إسرائيل، لم تكن أعمالها العسكرية أبدًا متناسبةً مع هذا الهدف. أيًّا يكن ما قامت به، سواء العمليات الانتحارية في تسعينيات القرن الماضي وأوائل العقد الأول من القرن الحالي، أم الهجمات الصاروخية بعد بسط سيطرتها الكاملة على قطاع غزة في العام 2007، أم الهجوم الأكثر طُموحًا في 7 تشرين الأول/أكتوبر، لطالما كان هدفها السياسي أكثر تواضعًا: وهو إما الحلول محلّ فتح في معركة كسب تأييد الرأي العام الفلسطيني، أو ردع الاغتيالات التي تنفّذها إسرائيل أو الردّ عليها، أو تحقيق الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، أو تخفيف حدّة الحصار الإسرائيلي على غزة، وإما فرض التفاوض على إسرائيل في نهاية المطاف بعد قبول حماس حلّ الدولتَين في وثيقة المبادئ والسياسات العامة الجديدة التي أصدرتها في العام 2017.

وكانت حماس تسير على النهج الذي سبق أن تبنّته منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فتح بين العامَين 1973 و1988، حينما التزمت رسميًا بحلّ الدولتَين، واعترفت بحقّ إسرائيل في الوجود. لكن حماس فعلت ذلك بعد سنوات من إقفال نافذة الفرص لتطبيق حلّ الدولتَين مع اندلاع الانتفاضة الثانية في العام 2000. وللسبب نفسه كان الأوان قد فات أيضًا عندما اتّبعت حماس استراتيجيةً غير عنيفةٍ إلى حدٍّ كبير، تجسّدت في مسيرة العودة الكبرى في العامَين 2018-2019، التي سار فيها عشرات الآلاف من سكان غزة العزّل إلى السياج الأمني الفاصل بين القطاع وإسرائيل، والتي قتلت القوات الإسرائيلية خلالها 214 شخصًا، وأصابت ما يربو على 36,100 آخرين. بحلول ذلك الوقت، كان التحوّل نحو اليمين القومي والديني المتطرّف داخل إسرائيل يزداد زخمًا، وكان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد كرّس رسميًا هوية إسرائيل كدولة قومية عرقية يهودية، ما يعني منع قيام الدولة الفلسطينية. كان نهج منظمة التحرير الفلسطينية القديم القائم على العنف من أجل التفاوض قد انهار منذ فترة طويلة، ولكن حماس لم تستبدله بنهج آخر، ولم تكن أكثر نجاحًا من منافستها، حركة فتح، في معالجة التدهور الذي يشهده المجتمع والسياسة الفلسطينيَّين.

ربما كانت حماس محكومةً بالفشل، كما يرى المحلّل طارق بقعوني، بسبب إصرار إسرائيل على إدارة الصراع مع الفلسطينيين بدلًا من حلّه، وعلى إنكار مسعى السيادة الفلسطينية. كما أن مقاتلي حماس لا يزالون حتى اليوم يشتبكون مع القوات الإسرائيلية بعد عامٍ على توغّلها في غزة، وستبقى حماس مستمرّةً كفكرة، وحتى كمنظمة. فهي تستمدّ وجودها في نهاية المطاف من حقائق ماديّةٍ واضحة، وهي تهجير ثلثَي الشعب الفلسطيني بالكامل في العام 1948، والاحتلال العسكري في العام 1967، والحصار الخانق على غزة منذ العام 2007، والحرب الدائرة راهنًا التي تتخطّى بوحشيّتها الشاملة كلّ ما سبقها. إن الفلسطينيين محقّون عندما يقولون إن اغتيال السنوار لا يغيّر شيئًا لشعبٍ لا خيار له سوى مقاومة الاحتلال والتمييز الإسرائيليَّين اللذَين يبدو أن لا نهاية لهما. لكن ذلك لا يغيّر أيضًا الاستنتاج الواقعي بأن حماس كانت آخر مَن صَمَد في الحركة الوطنية الفلسطينية، التي لا بدّ الآن من إعادة النظر فيها وإعادة تصوّرها بشكل جذري، إذا ما أرادت أن تُعيد النضال من أجل حرية الفلسطينيين إلى مساره.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.