يزيد صايغ زميل أول في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تشمل اهتماماته البحثية الأدوار السياسية والاقتصادية المقارَنة للقوّات المسلحة العربية، والتداعيات التي تخلّفها الحرب على الدول والمجتمعات، والجوانب السياسية لعملية إعادة إنتاج الأنظمة السلطوية. وفي سياق أبحاثه حول المؤسسة العسكرية المصرية، صدرت له مؤخرًا دراسة بعنوان "عدم إلحاق الضرر: نحو إجراء مراجعة بيئية للمشروعات المدنية التي تديرها المؤسسة العسكرية في مصر"، تناول فيها السُبل التي يمكن اتّباعها كي تكون المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية أكثر رفقًا بالبيئة، وقدّم مقترحات عدّة في هذا الصدد. أجرت "ديوان" مقابلة معه في أوائل كانون الأول/ديسمبر لمناقشة موضوع دراسته.
مايكل يونغ: نشرتَ مؤخرًا دراسة حول الأبعاد البيئية للمشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية في مصر. ما هي حجّتك الأساسية؟
يزيد صايغ: الفكرة الرئيسة في هذه الدراسة واضحة ومباشرة. تواجه مصر تحديات بيئية جمّة، ويسهم تغيّر المناخ بمفاقمتها وتسريع وتيرتها. تشهد مصر، مع سائر دول شمال أفريقيا، ارتفاعًا في درجات الحرارة بمعدّل ضعفَي المتوسط العالمي، وتُعدّ معرَّضة بشدّة للتداعيات الناجمة عن ارتفاع منسوب مياه البحر، نظرًا إلى أن جزءًا كبيرًا من السكان ومن النشاط الزراعي في البلاد يتركّز في الأراضي المنخفضة في دلتا النيل. واقع الحال هو أن تغيّر المناخ يفاقم ندرة المياه، ويؤدّي إلى زيادة نسبة الملوحة في أحواض المياه الجوفية، ويسهم في تدهور التربة، وتدنّي إنتاجية العمل والإنتاج الزراعي، فضلًا عن تأجيج مشكلة انعدام الأمن الغذائي.
تولّت المؤسسة العسكرية خلال العقد الفائت تسليم نسبة تتراوح بين 25 و38 في المئة من مجموع المشروعات المُموَّلة من الحكومة في مجال التشييد والبناء، ومن ضمنها إنشاء المدن الجديدة والبنى التحتية الخاصة بالنقل، وهي توسّع راهنًا أنشطتها في مجالات أخرى مثل استصلاح الأراضي الصحراوية وزراعتها، واستخراج المعادن. تتمثّل المشكلة الأبرز لهذه القطاعات في استهلاكها الكثيف للطاقة والمياه، وبالتالي قد تؤدّي أنشطة المؤسسة العسكرية فيها إلى عواقب بيئية فادحة. ومن المستحيل إجراء تقييمات دقيقة للتبعات البيئية الناجمة عن هذه المشروعات لأن المعلومات حول أنشطة المؤسسة العسكرية محجوبةٌ عن الرأي العام بذريعة حماية الأمن القومي، حتى عندما تقع الأنشطة بالكامل ضمن المجال المدني.
إذًا، تجادل دراستي بأن مصر لا يمكنها مواصلة اتّباع النهج المعتاد الراهن، بل ينبغي على السلطات الرسمية إخضاع الأنشطة العسكرية لنفس إطار تقييم الأثر البيئي الذي يُطبَّق على الجهات المدنية والرامي إلى التحصين من التداعيات المُستقبلية الناجمة عن تغيّر المناخ. والسبب في ذلك هو ضمان إدراج الاعتبارات البيئية في صُلب دورة المشروعات التي تديرها المؤسسة العسكرية في البلاد، بدءًا من تصميمها ومرورًا بتنفيذها ووصولًا إلى مرحلة ما بعد تسليمها.
يونغ: ما هو تقييمك للإطار السياساتي القائم في مصر اليوم والرامي إلى تحقيق الأهداف البيئية؟
صايغ: يبدو الإطار السياساتي الرسمي جيّدًا على الورق، لكنه يفتقر بشكلٍ كبير إلى الآلية العملياتية اللازمة لتعميم الضوابط والضمانات البيئية ومراقبة حسن تنفيذها في مختلف الهيئات الحكومية والقطاعات الاقتصادية بصورة متكاملة. يرى الخبير في التخطيط العمراني إبراهيم عز الدين أن "الاستراتيجية الوطنية لتغيّر المناخ في مصر 2050"، التي أطلقتها الحكومة في أيار/مايو 2022، اعترفت بالقصور في تطبيق القوانين البيئية، وقلّة الخبرة وضعف القدرات داخل المؤسسات المعنيّة، وكذلك غياب التنسيق بين الوزارات والهيئات الرسمية، إضافةً إلى نقص التمويل الحكومي، ومحدودية انخراط المجتمع المدني والقطاع الخاص في تطوير السياسات والممارسات البيئية. إذًا، إن الإطار القائم لمراقبة التزام المؤسسة العسكرية بالأهداف والمبادئ التوجيهية البيئية ليس مناسبًا لتحقيق الغاية التي وُضع من أجلها. والمُقلِق أن السلطات المصرية على ما يبدو تتعامل مع القضايا البيئية في المقام الأول كوسيلةٍ لجذب تدفّقات التمويل الخارجي المُخصَّصة لمشاريع يُفترَض أنها "خضراء" ومراعية للبيئة، وبالتالي ليس لديها حافزٌ قوي لتوطيد الإطار السياساتي وتحسين السلوك البيئي للهيئات المدنية والعسكرية على السواء.
يونغ: ما هي برأيك العقبة الأساسية على مسار تحقيق الأهداف البيئية؟ وكيف تعاملت السلطات المصرية مع المشروعات الكبرى، وما كانت أولوياتها؟
صايغ: المشكلة الرئيسة هي أن الأهداف البيئية لا تشكّل على ما يبدو أولويةً حقيقية. كما ذكرتُ في الدراسة، يُعدّ جذب التدفّقات المالية الحافز الفعلي لعملية صنع القرار الاقتصادي وللاستراتيجية الاستثمارية التي يتّبعها الرئيس عبد الفتاح السيسي منذ تولّيه سدّة الحكم في العام 2014، والتي تُمثّل المؤسسة العسكرية رأس الحربة فيها. أحد الجوانب البارزة في هذا النهج هو التركيز المفرط على بناء المدن الجديدة التي تُطلَق عليها صفة "الذكية" لأنها تستخدم تقنياتٍ مُوفِّرة للطاقة أو تحرص على خفض انبعاثات الكربون. لكن، مع أن تخضير المناطق الحضرية يُعدّ عنصرًا مهمًّا من المساعي العالمية الرامية إلى التخفيف من حدّة تغيّر المناخ، فإن بناء المدن الجديدة في مصر يهدف بشكلٍ كبير إلى إنشاء سوق عقارية فاخرة وتوليد الإيرادات المالية للدولة. إضافةً إلى ذلك، قد تُصنَّف مشروعاتٌ محدّدة بأنها خضراء أو مستدامة ككُل لمجرّد أنها تستخدم تكنولوجيا جديدة أو مكونًا ثانويًا معيّنًا، فيما يتمّ التغاضي عن تداعياتها الأوسع نطاقًا، مثل مفاقمة تآكل السواحل أو ندرة المياه. ومن المفارقات أن مصر تعاني من فجوة حقيقيةٍ في قطاع الإسكان، ناهيك عن العدد الهائل من الوحدات السكنية الشاغرة، الذي قُدِّر بنحو 11 مليون وحدة في العام 2018.
تَمثّل جانبٌ آخر من نهج الرئيس في الاستثمار في البنى التحتية الخاصة بالنقل لتحسين حركة التجارة الداخلية والخارجية على طول قناة السويس، بهدف الاستفادة من موقع مصر المتميّز عند مفترق طرق التجارة العالمية. هذا منطقيٌّ من الناحية الاقتصادية، لكن ثمّة تركيز مفرط على التوسّع المستمر لشبكات الطرق، مع أن حركة النقل على الطرق السريعة تُعدّ أكثر تلويثًا إلى حدٍّ كبير من النقل النهري والنقل بالسكك الحديدية (ويعاني هذَين القطاعَين من نقصٍ حادٍّ في التطوير). ويُعزى ذلك جزئيًا إلى أن المؤسسة العسكرية مُنحت امتيازًا تجاريًا حصريًا على معظم الطرق القومية، وبالتالي لها مصلحة في بناء الطرق. على نحو مماثل، يجري أيضًا تطوير البنية التحتية المرتبطة بالتجارة الخارجية من دون إيلاء اهتمامٍ يُذكر على ما يبدو للحاجات المتنافسة من قطاعات أخرى، مثل المدن الجديدة ومشروعات الطاقة المتجدّدة، على الأراضي والطاقة والمياه، ناهيك عن أنها تُبنى على نطاق ضخم، من دون إجراء مشروعات تجريبية، أو حتى من دون دراسات الجدوى في بعض الحالات على الأقل.
يونغ: كيف يمكن أن تحقّق المؤسسة العسكرية الأهداف البيئية في مشروعاتها؟
صايغ: للمؤسسة العسكرية دورٌ مهمٌ في تهيئة مصر من أجل التصدّي للاضطرابات الناجمة عن تغيّر المناخ. فهي تتمتّع بخبرات ومؤهلات هندسية ملحوظة، بإمكانها الاستفادة منها مثلًا لتهيئة المناطق الساحلية المعرّضة بشدّة للتأثّر بتداعيات تغيّر المناخ، من أجل حمايتها من ارتفاع منسوب مياه البحر والتكيّف معه. من حيث المبدأ، ما من سبب يمنع استخدام الموارد العسكرية لدعم الجهود المدنية المبذولة في سبيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتعزيز القدرة على الصمود في وجه تغيُّر المناخ عمومًا. لكن لا بدّ من أن يستوفي هذا المسعى شرطَين لضمان تحقيق الفعالية القصوى وتفادي سوء التكيّف، وهما: توخّي الشفافية التامة في ما يتعلّق بدراسات الجدوى والمعلومات التقنية والبيانات المتعلّقة بالمشروعات في جميع مراحلها؛ ونقل المسؤولية إلى قيادة مدنية. لحسن الحظ، تمتلك مصر بالفعل نموذجًا لإضفاء طابع رسمي على هذا المسعى: فقد تعهّدت الحكومة أمام صندوق النقد الدولي في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 بإخضاع الشركات العسكرية لنفس معايير الشفافية المالية والتزامات الإبلاغ التي يُفترَض أن تخضع لها جميع المؤسسات والهيئات الاقتصادية الأخرى المملوكة للدولة. إن توافرت الإرادة السياسية السليمة، يمكن تطبيق هذا الالتزام في المجال البيئي أيضًا، من أجل إدراج كل عمليات إنتاج السلع والخدمات المدنية التي تديرها المؤسسة العسكرية ضمن إطار وطني موحّد، مع نظيرتها المدنية.
يونغ: لكن هل من المُرجَّح تطبيق هذه المقترحات في ظلّ الاستقلالية الكبيرة التي تتمتّع بها على ما يبدو الشركات التي تديرها المؤسسة العسكرية؟
صايغ: الواقع أن زيادة فعالية مساهمة المؤسسة العسكرية في الأهداف البيئية تتطلّب إعادة توجيهها بعيدًا من التركيز الطاغي راهنًا على توليد الإيرادات للدولة، وللمؤسسة العسكرية نفسها، علمًا أن ذلك يقتضي بدوره قبول الرئيس بهذه الخطوة. لكن من المستبعد تحقيق أيٍّ من هذَين التحوّلَين في الوقت الراهن. فالمؤسسة العسكرية لا تزال تسلك مسارًا توسّعيًا في استحواذها على عقود المشتريات العامة والأنشطة التجارية الأخرى. على سبيل المثال، تشرف القوات الجوية المصرية على مشروع "مستقبل مصر" الضخم لاستصلاح الأراضي الصحراوية، الذي دُشّن في أيار/مايو 2022؛ وعمَد ذراعها التنموي، أي جهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة، إلى إدراج مشروع الطاقة الشمسية العائمة في بحيرة ناصر ومشروع الطاقة الشمسية في مدينة نجع حمادي، وأعمال التنمية الاقتصادية لبحيرة البردويل ضمن محفظته في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2024. علاوةً على ذلك، تؤدّي المؤسسة العسكرية دورًا مُتناميًا ومُؤثّرًا جدًّا في الإدارة الاستراتيجية للاقتصاد ولاستثمارات الدولة عبر مستشار الرئيس للشؤون المالية، ويتولّى ضباط عسكريون رئاسة أو عضويّة مجالس إدارة الكثير من الشركات المملوكة للدولة وما يُعرف بالهيئات الاقتصادية العامة، وأيضًا عضوية المجالس الوطنية المعنيّة بوضع السياسات في قطاعات أساسية مثل التنمية الصناعية.
يونغ: بشكل عام، ما المخاطر التي تهدّد مصر في حال فشلت في تحقيق أهدافها البيئية؟ وهل من الممكن أن يؤثّر ذلك على صادراتها، نظرًا إلى أن الأسواق الغربية تفرض بشكل متزايد معايير بيئية؟
صايغ: لقد أشار صابر عثمان، المنسّق الأسبق لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيّر المناخ في مصر والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ، إلى أن مصر تواجه ظواهر جوية متطرّفة، وموجات من الحرّ والصقيع، ونسبة رطوبة متزايدة، وفيضانات مفاجئة، وعواصف رملية وغبارية، فضلًا عن ارتفاع منسوب مياه البحر، وتآكل الشواطئ، وتملّح التربة الخصبة، والغمر بالمياه. تهدّد هذه العوامل النظام البيئي المصري بكامله – الذي يشمل السكان والأنشطة الزراعية والموارد المائية – والقطاعات الاقتصادية الأساسية والأنشطة المدرّة للدخل مثل صادرات الموادّ الغذائية والسياحة.
هذا الوضع سيّئ في حدّ ذاته، لكن الأسوأ يتمثّل في التهديدات البيئية المُتدحرجة: فالخيارات الخاطئة التي تُتّخذ اليوم تقوّض قدرة النظام البيئي على مواجهة التحديّات المستقبلية. وللأسف، تسهم منظّمات خارجية، على غرار البنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، في مفاقمة السلوكيات الإشكالية لدى صنّاع القرار المصريين من خلال تمويل مشروعات توصَف بأنها "خضراء"، إنما من دون إيلاء اهتمامٍ كافٍ للعيوب التي تعتري سياق تنفيذ السياسات. وقد يفضي ذلك إلى سوء تكيّف مع تغيّر المناخ، وزيادة الضرر البيئي، إضافةً إلى ارتفاع تكاليف الإجراءات التصحيحية التي سيتعيّن على مصر والجهات المانحة الدولية اتّخاذها على المديَين المتوسط والطويل.