عندما يحلّ شهر كانون الثاني/يناير، حين يُفترَض أن ينتخب لبنان رئيسًا جديدًا للجمهورية، سيحدّد مصيرُ بضع كلماتٍ موقع لبنان اليوم، وقوة حزب الله النسبية، والمزاج السائد لدى مختلف الطوائف في البلاد. هذه الكلمات، كما يمكن لأيّ متابع للشؤون الداخلية أن يخمّن، هي "الجيش والشعب والمقاومة".
أُدرِجَت الصيغة هذه على مدى سنوات في البيانات الوزارية للحكومات كحلّ وسطٍ بين مَن يدعمون الفكرة القائلة إن احتكار استخدام القوة يجب أن يعود إلى الدولة اللبنانية وحدها، وبين إصرار حزب الله على أن سلاحه، أي سلاح المقاومة، يجب أن يحظى بالشرعية من الدولة. في ضوء ذلك، تجاهَل الحزب على مرّ السنين مطالب خصومه بضرورة توصّل اللبنانيين إلى نوعٍ من التوافق حول استراتيجيةٍ دفاعيةٍ وطنية، وهي مصطلحٌ اختزل فعليًّا دمج سلاح حزب الله في الدولة.
بعد أن مُني الحزب بهزيمة قاسية في صراعه مع إسرائيل، وخسر الآن قاعدته الاستراتيجية في سورية إثر سقوط نظام الأسد، أُعيقَت إمكانيته على فرض إرادته على سائر المجتمع اللبناني. صحيحٌ أنه لا يزال يحتفظ بسلاحه، ولكنه لم يَعُد يتمتّع بقدرة كبيرة على تهديد محيطه كما فعل في ما مضى. يُضاف إلى ذلك أن أيًّا من الطوائف اللبنانية، في غالبيتها، لم يَعُد مستعدًّا للرضوخ لحزبٍ يُنظَر إليه على نطاق واسع بأنه في موقع دفاعي.
شكّل المسعى الرامي إلى تبديد جميع مؤشرات الضعف ركيزة الخطابات الأخيرة التي ألقاها أمين عام حزب الله الجديد نعيم قاسم. فهو أكّد أن الحزب يتعافى من "جراحاته" التي تكبّدها نتيجة العدوان الإسرائيلي، وأن "المقاومة مستمرة"، وأن "هذا العدو لا يكبحه إلّا المقاومة". يبدو الأمين العام الجديد غافلًا عن حقيقة أن الحزب فشل في ردع إسرائيل، التي لا تزال قواتها منتشرة في مناطق من جنوب لبنان، ناهيك عن منعها من تدمير مساحات شاسعة من البلدات والقرى والأحياء ذات الغالبية الشيعية. مع ذلك، يُدرك قاسم ما هو على المحكّ. وما لم يتمكّن الحزب من نسج وهم الانتصار، سوف تتداعى مبرّرات احتفاظه بسلاحه في إطار علاقته بالدولة اللبنانية، مثلما انهارت منذ فترة طويلة في أوساط فئات واسعة من المجتمع اللبناني.
حالما يُنتخَب رئيسٌ للجمهورية، سيحتاج لبنان إلى حكومة جديدة. وأثناء عمل القوى السياسية المختلفة على صياغة البيان الوزاري للحكومة، ستكمن إحدى العقبات الأولى التي ستعترضها في مسألة إعادة إنتاج ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة". يبدو من شبه المؤكّد أن عددًا من المشاركين في الحكومة سيرفضون المصادقة مجدّدًا على هكذا الصيغة. هذا ما ستفعله القوات اللبنانية بالتأكيد، ومن الصعب التصديق أن أيّ رئيس حكومة سنّي سيوافق على هذه الثلاثية، خصوصًا في ظلّ مناخ طائفي يبدو متجدّدًا عقب سقوط بشار الأسد. لمَ قد يعتري السنّة، الذين يشعرون بحيوية متجدّدة بعد عقودٍ من هيمنة نظامٍ قاده العلويون في دمشق، بدعمٍ من القوى الشيعية في المنطقة، أيُّ دافعٍ لتفويت فرصة تقليص هامش المناورة الذي يتمتّع به حزب الله؟
إذا ما حصل ذلك، فما الذي يستطيع حزب الله فعله؟ إن فكرة نشر عناصره في الشوارع لترهيب خصومه تبدو غير واردة، إذ لم يَعُد أحدٌ ممَّن يعادون الحزب في لبنان على استعداد لقبول مثل هذا التصرّف. فقد اتّضح ذلك في عددٍ من الاشتباكات التي وقعت في السنوات الأخيرة، بدءًا من خلدة وشويّا، ووصولًا إلى الطيونة والكحّالة، حيث بدا السكان المحليون مستعدّين لمهاجمة عناصر الحزب بدلًا من الرضوخ لمحاولات الضغط عليهم.
عوضًا عن ذلك، قد يقرّر حزب الله مقاطعة أيّ حكومة لا تتبنّى صيغة "الجيش والشعب والمقاومة". ولكن ما ستكون جدوى هذا القرار إذا ارتأى حليف الحزب، نبيه بري، عدم مجاراته؟ فلا شكّ في أن هذا الأخير يدرك أن الشيعة أصبحوا بمفردهم في لبنان، وانقطعوا إلى حدٍّ كبير عن إخوانهم في العراق وإيران، وبالتالي سيكون إقدام حزب الله على عزل الطائفة الشيعية أكثر فكرةً سيّئةً للغاية. ولكن هل يستطيع رئيس مجلس النواب عدم إظهار تضامنٍ مع الحزب في هذه الحالة؟ ربما لا، غير أن موقف بري ليس قويًّا كما كان في السابق، فهو يواجه انتقاداتٍ داخلية ومعارضةً متعاظمةً من الخارج، ولا سيما من أعضاء في الكونغرس الأميركي، الذي سيشهد قريبًا تنصيب دونالد ترامب رئيسًا. إذا سعى حزب الله إلى فرض مقاطعةٍ شيعيةٍ للحكومة، فكلّ ما سيترتّب عن ذلك هو أزمة مفتوحة لن تُحَلّ عمّا قريب، في وقتٍ لم يَعُد بمقدور الطائفة الشيعية أن تتحمّل إلقاء اللوم عليها لتسبّبها بمزيدٍ من الجمود في الدولة.
غالب الظنّ أن بري، وربما أيّ رئيس جمهورية مُحتمَل، بناءً على هويّته، سيحاولان التوصّل إلى تسوية بشأن صياغة البيان الوزاري. ولكن حتى هذا لن يكون سهلًا. فأيّ رئيس وزراء سنّي لن يرغب في خسارة دعم طائفته من خلال تأييده سلاح حزب الله، فيما من المستبعد للغاية أن تكون القوات اللبنانية، الممثّل الأساسي للمسيحيين، أكثر مرونةً في هذا الصدد. ناهيك عن ذلك، في زمن الصحوة السنّية، لن يتمكّن أيُّ رئيس وزراء، حتى نجيب ميقاتي إذا عاد إلى منصبه، من اتّخاذ موقفٍ أقلّ حزمًا من موقف المسيحيين.
ثمّ سيكون للمجتمع الدولي أيضًا رأيٌ بشأن ما سيجري. فالولايات المتحدة ومعظم دول الخليج العربي، ولا سيما السعودية والإمارات، ستراقب عن كثبٍ تصرّف الحكومة المقبلة. ستنتظر هذه الدول أيضًا مآل صيغة "الجيش والشعب والمقاومة" من أجل الحكم على ما إذا كان الساسة في لبنان على استعداد للتحرّر من سيطرة حزب الله. وسيكون ردّ الفعل اللبناني حاسمًا في تحديد النتائج حيال مسألتَين أساسيتَين للبلاد، هما: تنفيذ القرار 1701، وإعادة إعمار المناطق الشيعية.
حاول قاسم جاهدًا مرّاتٍ عدّة التأكيد على أن القرار 1701 ينطبق على المناطق الواقعة جنوب الليطاني فقط، لكن هذا غير دقيق. فالقرار ينصّ على أن مجلس الأمن "يؤكـد أهميـة بـسط سـيطرة حكومـة لبنـان علـى جميـع الأراضـي اللبنانيـة وفـق أحكام القرار 1559 (2004) والقرار 1680 (2006) والأحكـام ذات الـصلة مـن اتفـاق الطـائف، وأن تمـارس كامـل سـيادتها، حـتى لا تكـون هنـاك أي أسـلحة دون موافقـة حكومـة لبنان ولا سلطة غير سلطة حكومة لبنان". إن قاسم يُدرك هذا تمامًا، لذا يحرص بشكلٍ كبير على التشديد على ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، كي يتمكّن من القول إن الحكومة أعطت غطاءً شرعيًا لسلاح الحزب.
تبرز بعدئذٍ مسألة إعادة الإعمار. واقع الحال أن حزب الله ليس في موقع يخوّله اليوم خوض غمار خلافات سياسية داخلية تُفاقم حالة الجمود. فبعد تهجير مئات آلاف الشيعة من منازلهم وعدم تدفّق مساعدات كبرى لإعادة الإعمار، ستبقى الدولة اللبنانية على الأرجح المنسّق الأساسي بشأن هذا الملفّ في المستقبل. وبالتالي، ما يحتاجه الحزب هو دولة تنشط بقوّة وزخم لتوفير التمويل اللازم والشروع بإعادة الإعمار. لكن إذا رأت الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها، أن الرئيس والحكومة الجديدَين لا يزالان يخضعان لسيطرة حزب الله، فلن يكون لديها أي حافز لمساعدة لبنان في هذه العملية. لذا، سيمتلك الرئيس الجديد والحكومة ورقة ضغط قوية في وجه الحزب، وسيتعيّن عليهما استخدامها لتقويض ركائز هيمنته.
تشغل مسألة إيران أيضًا حيّزًا كبيرًا من النقاش. ففيما أعلن قاسم في كلمة له مؤخرًا أن طهران ستقدّم مساعدات مالية لأولئك الذين خسروا ممتلكاتهم في الصراع ضدّ إسرائيل، تُعتبر المبالغ التي وعد بها زهيدةً مقارنةً مع حجم الدمار والتكاليف المُقدَّرة لإعادة الإعمار. علاوةً على ذلك، يبدو أن ثمّة سجالًا مثيرًا للانقسام إلى حدٍّ كبير داخل إيران حول الأموال التي أُنفقَت على الاستراتيجية الإقليمية للبلاد، ولا سيما المبالغ الضخمة التي أُهدرت في سورية. وحتى أنصار النظام الإيراني انضمّوا إلى جوقة الأصوات المندّدة، ومن بينها الشيخ محمد شريعتي دهقان، الذي قال إن الخطة الإيرانية "بُنيت على أُسس ضعيفة". ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عنه مطالبته بـ"اعتماد نهجٍ جديد يُعطي الأولوية لبناء تحالفات مع الدول بدلًا من دعم الفصائل المسلّحة، وإعادة تخصيص الأموال والموارد إلى الشعب الإيراني".
في ضوء ما سبق، من المستبعد على نحو متزايد أن ينخرط الإيرانيون بشكلٍ واسع في عملية إعادة إعمار المناطق الشيعية في لبنان، وقد تضاءل هذا الاحتمال أكثر بعد أن خسرت طهران موطئ قدمها المهمّ في سورية. إن صحّ هذا التقييم، لن يكون من السهل أن يستعيد حزب الله مستوى الدعم الشعبي الذي كان يتمتّع به سابقًا في أوساط الطائفة الشيعية، وسيكون من المستحيل تقريبًا أن يتمكّن الإيرانيون وحلفاؤهم من إعادة إحياء السياسة الفاشلة المتمثّلة بتطويق إسرائيل بحزامٍ ناري. وإذا كان هذا الهدف بعيد المنال، فما هي قيمة صيغة "الجيش والشعب والمقاومة"؟ إن الإجابة عن هذا السؤال ليست واضحة للعيان بتاتًا.
سوف يترقّب كثرٌ الاستحقاق الرئاسي لتقييم نقاط قوة حزب الله أو مكامن ضعفه. هذا أمرٌ مفهوم، وإن كان عجزُ الحزب خلال السنتَين الماضيتَين عن إيصال مرشّحه المفضّل، أي سليمان فرنجية، إلى رئاسة الجمهورية قد أظهر بالفعل محدودية قدرته. مع ذلك، ستكون نتيجة صيغة "الجيش والشعب والمقاومة" المعركة الأهمّ، لأنها ستحدّد ما إذا كانت الطبقة السياسية اللبنانية مستعدّة للاستمرار في القبول بوجود تنظيمٍ مسلّح فوق سلطة الدولة. إذا وافق السياسيون على هذا الأمر، فسوف يصطدمون بمعارضة شريحةٍ أكبر من اللبنانيين الذين لا يريدون ذلك. أما إذا اتّخذوا في المقابل موقفًا غير معهودٍ من هذه المسألة، فربما يتسنّى للبنان أخيرًا تقويض أُسس النظام المعطّل القائم منذ انسحاب القوات السورية من لبنان في العام 2005.