المصدر: Getty
مقال

وضع هجوم حلب في سياقه

يستعرض أرميناك توكماجيان، في مقابلة معه، التطورات الأخيرة في سورية.

نشرت في ٦ ديسمبر ٢٠٢٤

أرميناك توكماجيان باحث غير مقيم في مركز مالكوم كير–كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، تركّز أبحاثه على قضايا الحدود والنزاع، واللاجئين السوريين، والعلاقات القائمة بين الدولة والمجتمع في سورية. نشر مع خضر خضّور مؤخّرًا ورقة طويلة بعنوان Borders Without a Nation: Syria, Outside Powers, and Open-Ended Instability (حدود بلا دولة: سورية والقوى الخارجية وانعدام الاستقرار المستمر) تناولا فيها تأثير الديناميات التي تشهدها المناطق الحدودية السورية على الوضع في سائر أنحاء البلاد وعلى الصراع هناك. هذه الدراسة نافذة البصيرة، وخصوصًا على ضوء الهجوم الذي شنّته هيئة تحرير الشام بدءًا من المنطقة الحدودية في إدلب وأدّى إلى السيطرة على حلب. أجرت "ديوان" مقابلة مع توكماجيان في أوائل كانون الأول/ديسمبر للتوصّل إلى فهمٍ أوسع حول الأحداث الراهنة في سورية.

مايكل يونغ: هلّا شرحت التطورات الأخيرة في شمال غرب سورية؟

أرميناك توكماجيان: كما جادلنا سابقًا أنا وزميلي خضر خضّور، كان ثمّة وضعٌ قائم في سورية منذ العام 2020، عكس توازن القوى في ساحة المعركة آنذاك، وتمّ الحفاظ عليه بفضل التحالفات الإقليمية المحلية: روسيا وإيران مع نظام الأسد؛ تركيا مع فصائل المعارضة السورية؛ والولايات المتحدة مع الأكراد. خلال تلك الفترة، ركّزت هذه الجهات المختلفة بشكلٍ أساسي على إدارة خلافاتها بدلًا من حلّ الصراع. في الشمال الغربي، حافظت روسيا وإيران وتركيا مجتمعةً على الوضع القائم؛ وفي الشمال الشرقي، سعى التحالف الأميركي-الكردي والقوات المدعومة من إيران إلى إرساء توازن مماثل على طول نهر الفرات.

في الوقت الراهن، تداعى الوضع القائم، بعد اختلال توازن القوى وتبدّله بما لا يصبّ في صالح روسيا وإيران وحليفهما المحلي المتمثّل في نظام الأسد، الذي انهارت قواته جزئيًا في حلب ومحيطها. لقد حذّرنا أنا وخضّور من احتمال وقوع ما أسميناه "انهيارات جزئية" من داخل سورية. كانت كل القوى المحلية عرضةً لهذا الخطر، بيد أن التطورات الأخيرة أظهرت أن النظام هو الحلقة الأضعف. فهذا ما تجلّى من خلال الانهيار الجزئي لقوات النظام بعد بدء عملية العمل "ردع العدوان" بقيادة هيئة تحرير الشام في 27 تشرين الثاني/نوفمبر. وفي غضون أيام، كانت قوات المعارضة قد دخلت إلى وسط مدينة حلب.

وبعد بضعة أيام، انضمّت إليها القوات المدعومة من تركيا من الشمال، ووسّعت سيطرتها في شمال حلب، وخصوصًا في تل رفعت التي يسكنها الأكراد وتنشط فيها وحدات حماية الشعب الكردية. تحاول تركيا منذ فترة السيطرة على هذا الجيب، ويبدو أنها في طور تحقيق هدفها هذا أثناء كتابة هذه السطور. وبحسب التقارير، لا تزال خطوط التماس على حالها إلى حدٍّ بعيد في الشمال الشرقي. لكن دارت أيضًا اشتباكات بين قوات سورية الديمقراطية التي يهيمن عليها الأكراد من جهة، وبين النظام والميليشيات الموالية لإيران من جهة أخرى، بمشاركة أميركية بحسب ما أُفيد. لكن في ظلّ سيطرة المعارضة على حلب، وفيما يقاوم العراق الضغوط الإيرانية عليه لإرسال ميليشيات إلى سورية، يبدو أن كفة ميزان القوى في دير الزور ستميل على الأرجح لصالح قوات سورية الديمقراطية والولايات المتحدة.

يونغ: هل يمكنك أن توضح لنا السياق الجيوسياسي الأوسع في الشرق الأوسط، وكيفية ارتباطه بالتطورات الدائرة في سورية؟

توكماجيان: ساهم عاملان رئيسان بشكلٍ كبير في تغيير موازين القوى في سورية، وهما: تراجع دور روسيا كوسيط أمني في المنطقة، والأهم، المواجهة بين إسرائيل وإيران. سأبدأ بالعامل الثاني. لا شكّ في أن إيران كانت حتى الآن الطرف الخاسر في مواجهتها مع إسرائيل، وظهر ذلك على مستويات عدّة. على سبيل المثال، أشار خطاب إيران التصالحي مع دول الخليج، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، بعد هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي شنّتها حركة حماس، إلى ضعف إيران ومحاولتها تقليل خلافاتها مع القوى الإقليمية خلال حربها مع إسرائيل. أما ميدانيًا، فقد تكبّدت إيران خسائر كبيرة: فهي خسرت حماس كورقة ضاغطة على إسرائيل؛ وقُتل الكثير من كبار المسؤولين الإيرانيين في سورية؛ وانسحبت قوات حزب الله من سورية إلى لبنان حيث مُنيت بالهزيمة أمام إسرائيل. وكل ذلك لم يُقابَل بردٍّ انتقامي قوي من جانب إيران. وأدّت مكامن الضعف هذه إلى تداعيات بعيدة المدى. فحتى في دمشق، جرى تهامسٌ حول تراجع النفوذ الإيراني قبل سقوط حلب بوقتٍ طويل.

يُشار إلى أن روسيا، الحليف الآخر للنظام، ازدادت ضعفًا أيضًا. فقد بدأ الانخراط الروسي في سورية يتقلّص بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا، الأمر الذي قوّض دور الوساطة الفريد الذي اضطلعت به موسكو بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية في سورية. في مرحلة سابقة، كان الروس حاضرين تقريبًا في كل اجتماع مهم حول سورية. وشكّل الاتفاق الذي سمح بعودة النظام إلى الجنوب السوري في العام 2018، بعد ضمان القبول الأميركي والعربي، والقبول الإسرائيلي غير المباشر، على حساب النفوذ الإيراني، إنجازًا دبلوماسيًا ملحوظًا. وكان قدرٌ كبير من نفوذ روسيا يُعزى إلى صورتها، باعتبارها قوة عسكرية يُعتدّ بها، تعود إلى منطقة الشرق الأوسط وتحقّق نجاحات بارزة في سورية.

لكن الحرب في أوكرانيا ألحقت الضرر بصورتها هذه، وقوّضت دور الوساطة الذي اضطلعت به موسكو، واستنزفت مواردها، إذ خسر الروس مجموعة فاغنر التي كانت تنشط في سورية. ولم تنجح روسيا إلى حدٍّ كبير في تنفيذ اتفاق العام 2018 على أرض الواقع، ولا سيما بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. ومنذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، حاولت موسكو العودة إلى المشهد السوري، كما تجلّى من خلال تجدّد نشاطها في الجنوب السوري. اعتقدتُ بدايةً أن هذه الخطوات قد تمهّد الطريق أمام روسيا لاستعادة دورها كوسيط، ولا سيما مع وصول دونالد ترامب الوشيك إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير المقبل. لكن الأحداث الأخيرة تُنبئ بحدوث عكس ذلك، إذ يبدو أن تركيا وإسرائيل فقدتا الثقة في قدرة روسيا على التوسّط، والأهم، على ضمان تحقيق النتائج. أدّى كل ذلك إلى اختلال موازين القوى في سورية، ما أحدث فراغًا كشفت عنه هيئة تحرير الشام، وتسعى مختلف الجهات المحلية والأجنبية إلى ملئه في الوقت الراهن.

يونغ: هلّا تحدّثت أكثر عن البُعدَين الإقليمي والدولي للأحداث، ولا سيما احتمال وجود تنسيق تركي-إسرائيلي، وربما أميركي أيضًا، حيال ما يحصل في سورية؟

توكماجيان: من غير المُثبَت بعد ما إذا عمَدت إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا إلى تنسيق خطواتها، ربما من خلال تبادل معلومات استخباراتية حول مواقع النظام في حلب والاتّفاق على توقيت الهجوم. على المستوى الرسمي، أعربت إسرائيل عن رغبتها في عدم الانحياز إلى أي طرف في هجوم حلب، فيما نفت تركيا انخراطها مع هيئة تحرير الشام، وأعادت الولايات المتحدة التأكيد على تصنيفها لهيئة تحرير الشام تنظيمًا إرهابيًا. مع ذلك، تلاقت على ما يبدو مصالح هذه الأطراف الثلاثة، جزئيًا على الأقل. تكفي رؤية مَن الجهات المستفيدة من هذا التبدُّل في موازين القوى لإدراك ذلك.

فقد عزّز سقوط حلب إلى حدٍّ كبير مكانة تركيا وقدرتها على المساومة للضغط على روسيا وإيران ونظام الأسد وحتى على الولايات المتحدة، سواء دبلوماسيًا أو عسكريًا. نلاحظ كيف أن جميع الاجتماعات الرفيعة المستوى عُقدت لغاية الآن في تركيا، حتى لو كان من المُقرّر عقد الاجتماع التالي في قطر، لكن هذا لا يزال غير مؤكّد. ومن الواضح أن انهيار الوضع القائم يصبّ في مصلحة إسرائيل، إذ كانت تهيمن عليه في الغالب روسيا وإيران. ومع أن إسرائيل تجنّبت خوض مواجهةٍ مباشرة مع روسيا، يبدو أنها فقدت الثقة بقدرة موسكو على الاضطلاع بدور وسيطٍ فعّال قادر على إبقاء إيران بعيدة عن الجنوب السوري. في المقابل، لا يمكن إنكار تبعات ما يحصل على إيران، إذ إن التغييرات التي طرأت على خارطة النفوذ فرضت قيودًا لوجستية شديدة عليها، وباتت محاطةً بخصومٍ أقوى في دير الزور.  

أما الولايات المتحدة، فمن الصعب تقييم موقفها. لا يرحّب الأميركيون على الأرجح بالمكاسب التي حقّقتها هيئة تحرير الشام، نظرًا إلى تصنيفهم لها كتنظيمٍ إرهابي، فيما يتسبّب دور تركيا المتنامي بالضغط على حلفائهم الأكراد أيضًا. مع ذلك، تبدو واشنطن متواطئةً نوعًا ما، ربما نظرًا إلى نشاطها المتزايد في الشمال الشرقي. فهي شنّت ضرباتٍ على أهدافٍ إيرانية، مُعتبرةً أنها تندرج في إطار الدفاع عن النفس ردًّا على استهداف القواعد الأميركية، أو في إطار العمليّات الهادفة إلى مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية، لكن ثمّة اعتبارات أكبر من ذلك على ما يبدو. تشير التقارير، مثلًا، إلى أن الولايات المتحدة تدعم تقدّم قوات سورية الديمقراطية نحو مواقع يسيطر عليها النظام والفصائل الموالية لإيران في عددٍ من قرى دير الزور، على الرغم من أن بعض المصادر ذكرت أن قوات سورية الديمقراطية لم تستطع السيطرة على هذه القرى. يجب الانتظار لرؤية ما إذا كانت الولايات المتحدة ستؤدّي دورًا نشطًا في قطع ما يُسمّى بالممر الإيراني الممتدّ من العراق إلى سورية عبر معبر القائم-البوكمال.

وكما ذكرتُ آنفًا، ربما تتلاقى هذه المصالح بصورة جزئية فقط. صحيحٌ أن تقدّم هيئة تحرير الشام جنوبًا نحو حماة يعزّز نفوذ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلّا أنه يثير المخاوف من سيطرة الإسلاميين أو انتشار الفوضى في سورية، وهو وضعٌ يُقلق إسرائيل ولن يكون مقبولًا على الأرجح للولايات المتحدة التي تجمعها علاقة متوتّرة بتركيا منذ فترة طويلة بسبب دعم أنقرة للمجموعات الإسلامية. وفي الشمال الشرقي، يعزّز انهيار النظام، أو شبه انهياره، بسبب هجمات هيئة تحرير الشام تطلّعات الأكراد بتحقيق الحكم الذاتي. وهذا يضع تركيا أمام خيارَين أحلاهما مرّ: إما الدخول في حرب ضدّ القوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، أو القبول بحكم ذاتي كردي في سورية. في غضون ذلك، لا يجب أن ننسى أن الوضع لا يزال شديد التقلّب في الوقت الراهن.

يونغ: صحيحٌ أن الوضع متقلّب، لكن كيف يمكن أن تتطوّر الأوضاع الميدانية برأيك على المدى القصير؟ وما مصير العمليات السياسية التي كانت قائمة قبل هجوم حلب؟

توكماجيان: لقد أعادت التطوّرات في سورية خلط جميع الأوراق على المستويَين العسكري والدبلوماسي. ميدانًيا، وصل مقاتلو هيئة تحرير الشام إلى مدينة حماة. ولم يتمكّن النظام السوري وإيران وروسيا حتى الآن من حشد القوات بصورة فعّالة من أجل تشكيل خطوط دفاعية جديدة. أعتقد أن السبب يُعزى بشكل أساسي إلى أن قوات النظام في العام 2016 ضمّت أطرافًا عدّة هي الجيش، والفروع الأمنية التي اتّسع نطاقها وجنّدت مقاتلين، والقوّات الرديفة، إضافةً إلى حزب الله، والقوّات الأجنبية الموالية لإيران، وروسيا التي كانت تشنّ هجمات جوية. لكن مثل هذا التحالف العسكري لم يعد قائمًا اليوم.

يسعى النظام السوري وروسيا جاهدَين إلى حشد قواتهما. وتشير التقارير إلى أن النظام يعرض مبلغ 200 دولار أميركي راتبًا شهريًا للمتطوّعين الجدد أو يلجأ في بعض الأحيان إلى التجنيد الإجباري. في غضون ذلك، تواصل روسيا شنّ غارات جوية، لكن تأثيرها محدودٌ بسبب عدم وجود قوات بريّة يُعتدّ بها. ويبدو أن إيران تبذل جهودها الخاصة لحشد القوات، إذ تشير تقارير إلى أنها تحاول ضمّ وحدات من قوات الحشد الشعبي في العراق. لكن هذه المساعي معقّدة بسبب التحديّات اللوجستية التي تواجهها، مثل غياب الممرّات الآمنة لنقل المقاتلين إلى داخل سورية، وعوامل أخرى مثل احتمال تدخّل إسرائيل. على سبيل المثال، اغتالت إسرائيل مؤخرًا موفد حزب الله لدى الجيش السوري. وهذه الحالة تضع النظام في موقفٍ حرج، وتُضعف في الوقت نفسه روسيا وإيران، اللتَين لا تزال مصالحهما ترتبط ارتباطًا وثيقًا ببقاء نظام الأسد.

إذًا، لا يزال الوضع في سورية شديد التقلّب. لكن من الواضح أن المعارك الدائرة قرب مدينة حماة ستحدّد مصير سورية. فنجاح فصائل المعارضة في السيطرة على حماة والتوّجه غربًا وجنوبًا سيكبّد النظام أضرارًا كبيرة. وتبدو استعادة السيطرة على حلب راهنًا بعيدة المنال. لكن إذا استطاعت قوّات النظام وقف تقدّم المعارضة، قد يمهّد ذلك الطريق أمام التوصّل إلى تسوية ما. في غضون ذلك، أصبحت العمليات السياسية، مثل مسار الأستانة أو المبادرة العربية أو الحوار بين دمشق وأنقرة - أو على الأقلّ المنطق الذي كانت تستند إليه – أمرًا من الماضي.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.