المصدر: Getty
مقال

كيف تنظر موسكو إلى الفشل الذريع في سورية

شكّل سقوط نظام بشار الأسد انتكاسةً لروسيا، لكن تركيزها الأساسي يبقى على أوكرانيا.

 سيرغي ميلكونيان
نشرت في ٧ يناير ٢٠٢٥

إن حصيلة الأحداث التي أعادت تشكيل سورية أخذت جهاتٍ كثيرة على حين غرّة، ومن ضمنها روسيا. لم تكن موسكو مستعدّة لمثل هذا السيناريو، وأتت أفعالها في الغالب كردود فعلٍ على ما يحدث. واعتُبرت هذه النتيجة فشلًا ذريعًا للسياسة الروسية في الشرق الأوسط، ولكن لم تكن هزيمةً استراتيجية. فتركيز موسكو ينصبّ في المقام الأول على إلحاق الهزيمة بالدول الغربية في أوكرانيا، وهو أمرٌ أساسي لأمنها ومكانتها كقوة عظمى. وإذا نجحت في ذلك، قد تستعيد نفوذها في مناطق أخرى، بما في ذلك في سورية والشرق الأوسط. وحتى ذلك الحين، غالب الظن أن تسعى موسكو إلى الحدّ من خسائرها، والحفاظ على نفاذها إلى البحر الأبيض المتوسط، وعلى دورٍ لها في المشهد الدولي، حتى تحقيق النصر في أوكرانيا.

جنت موسكو الكثير من المزايا نتيجة انخراطها في سورية. أوّلًا، أدّى نجاح عملياتها العسكرية في الفترة الممتدّة بين 2015 و2024 وانتشار قواتها على الأراضي السورية إلى ترسيخ مكانتها كقوة عظمى، بعد أن وضعت لنفسها هدفَين مُعلنَين: النجاح في مكافحة الإرهاب الدولي، وإقامة قواعد عسكرية في "الخارج البعيد"، متجاوزةً نطاق المصالح التقليدية على طول حدودها. أدّى موطئ القدم الروسي على الساحل السوري في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​وظيفةً لوجستية مهمة تمثّلت في توفير مدخلٍ إلى الأصول الروسية في أفريقيا. ومن بين المزايا الأخرى اكتساب روسيا مصداقيةً كوسيط، وهو دورٌ يمكن أن تؤدّيه في دول أخرى في المنطقة؛ فضلًا عن ورقة ضاغطة في المفاوضات مع إيران وتركيا حول المنطقة. وقد سمح النفوذ الروسي في سورية لموسكو بعرقلة مشاريع خطوط أنابيب الغاز الطبيعي المحتملة من دول الخليج إلى أوروبا، والتي يمكن أن تتجاوز روسيا، كما سمح لها باحتواء الإرهاب على "تخومها البعيدة".

أما اليوم، بعد سقوط بشار الأسد، فقد شهدت روسيا خسارة، أو تضاؤل، الكثير من المزايا المذكورة. ركّزت جهود موسكو الفورية على تلافي حدوث كارثةٍ كاملة، بدءًا بإخراج الأسد من سورية، ما أظهر استعداد روسيا وقدرتها على ضمان سلامة حليفها. أشار توفير موسكو ملاذًا آمنًا للرئيس المخلوع، على الرغم من الانتكاسات التي مُنِيَت بها، استعدادها للوفاء بالتزاماتها تجاه النخبة السياسية السورية، حتى لو شكّل هذا الأمر مصدر إزعاجٍ في علاقتها مع الحكومة السورية الجديدة.

ثانيًا، تفادت موسكو التعرّض لإذلالٍ كامل، على الرغم من الخسارة الجسيمة في صورتها وفشلها في إرساء الأمن. فقد توصّلت إلى اتفاقياتٍ لحماية أمن موظفيها الديبلوماسيين وخفض عديد قواتها في سورية. ولم تلحق فصائل المعارضة الضرر بالقواعد العسكرية الروسية (خصوصًا في طرطوس وحميميم). وهذا أتاح لموسكو، بدرجة أقل، الحفاظ على ماء الوجه في سياق الفشل الذي حصل.

ومن منظور موسكو، شكّلت الأحداث السورية في المقام الأول هزيمةً لحلفائها السوريين وليس لها. عندما يضعف الروس، يميلون إلى تحويل اللوم إلى الآخرين. وفحوى حساباتهم أن النصر في أوكرانيا قد يكون ممكنًا على المدى القريب، وبالتالي سينحسر تأثير الهزائم في أماكن أخرى في نهاية المطاف، تمامًا كما حدث بعد تضرّر سمعة الولايات المتحدة نتيجة الانسحاب من أفغانستان.

ونظرًا إلى أن إلحاق الهزيمة بالغرب في أوكرانيا هو الهدف الاستراتيجي الرئيس الذي سيضمن أمن روسيا ووجودها ومكانتها كقوة عظمى على المدى الطويل، تُعتبَر الخسائر في مناطق أخرى ثانوية. على سبيل المثال، قبل عامٍ، سحبت روسيا قوات حفظ السلام التابعة لها من جنوب القوقاز في أعقاب الهجوم الذي شنّته أذربيجان على ناغورنو كاراباخ وما تلاه من تهجير قسري للسكان الأرمن المحليين. وكان هذا مخالفًا لرغبة موسكو، لكنها لم تحوّل مواردها إلى القوقاز. من منظور روسيا، أوكرانيا هي الساحة الرئيسة التي تركّز فيها مواردها، والتي يسعى الغرب فيها إلى تكبيد موسكو هزيمة حاسمة. لذا، ترى روسيا أن انتصارها هناك ضروري لاستعادة مكانتها في كلٍّ من الشرق الأوسط والدول التي كانت سابقًا جزءًا من الاتحاد السوفياتي.

إلى جانب الحدّ من الأضرار وتخفيف المخاطر، لدى روسيا أولويات عدّة في سورية، إذ يتمثّل أحد هواجسها الملحّة في التصدّي للتهديدات الإرهابية. لقد ضمّت التنظيمات المختلفة التي قاتلت نظام الأسد وكانت مناوئة لموسكو مواطنين من روسيا والدول المجاورة لها. ونظرت موسكو إلى سورية باعتبارها بؤرة جذبٍ للمتطرّفين، ما سمح لها بإبعاد التهديدات الإرهابية المُتصوَّرة عن حدودها. واليوم، لم يَعُد لدى روسيا هذا الخيار، بل ثمّة بديلان عنه: إما التفاوض مع المجموعات المعادية لها، أو التركيز على التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب.

وفي ما يتعلّق بدور سورية كمدخلٍ إلى الأصول الروسية في أفريقيا، ستبحث موسكو عن طرقٍ بديلة إلى القارة من أجل الحفاظ على مصالحها. والخيار الأفضل هو ليبيا، حيث كثّفت موسكو حضورها في شرق البلاد منذ ربيع العام 2024، ونقلت الأسلحة والمعدّات العسكرية من سورية إلى هناك. فموقع ليبيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​وحدودها البرية مع الدول الأفريقية يمنحانها ميزةً على الدول الأخرى. مع ذلك، قد يعرّض الوضعُ العسكري غير المستقر في ليبيا المصالح الروسية للخطر مجدّدًا في المستقبل.

في غضون ذلك، سيستمرّ تنامي اعتماد روسيا على تركيا للحصول على الفرص اللوجستية. ولن يبقى الوصول إلى ليبيا ممكنًا إلّا عبر مضيقَي الدردنيل والبوسفور الخاضعَين إلى السيطرة التركية. وفيما قد تركّز روسيا بشكلٍ أكبر على أفريقيا، ستحاول على الأرجح الحفاظ على وجودها في سورية، وستعتمد حصيلة هذا المسعى على الاتفاقيات بين أنقرة وموسكو. وقد يكون أحد شروط الاحتفاظ بالقواعد العسكرية الروسية في سورية عدم استخدامها ضدّ أي طرف داخل البلاد، بل تسخيرها فقط لتحقيق أهداف لوجستية، مقابل تعديل موقف موسكو من السلطات الجديدة في سورية.

عقِب انهيار نظام الأسد، دخل الصراع السوري مرحلةً مختلفة تمامًا. ومن المتوقع أن يبقى التدخّل الروسي المباشر ضئيلًا، بانتظار إرساء توازن قوى أكثر استقرارًا بين الفصائل المعنيّة. وبمجرّد تحقيق الاستقرار، قد تنخرط موسكو في تيسير الحوار السياسي، ولا سيما أن دبلوماسيتها أبدت استعدادها للتفاوض مع تنظيماتٍ وصفتها سابقًا بالإرهابية أو استهدفتها أثناء الصراع، ما يدل على مرونة روسيا في سعيها إلى تحقيق أهدافها الاستراتيجية.

قد يكمن أحد المحرّكات الرئيسة للانخراط الروسي في الحاجة إلى تحقيق الاستقرار الخارجي، ولا سيما إذا سحبت الولايات المتحدة قواتها من سورية بالكامل، كما كان مطروحًا خلال ولاية دونالد ترامب الرئاسية السابقة. ويمكن أن تستفيد روسيا من علاقاتها الثنائية مع مختلف الفصائل لإعادة إحياء مسار أستانا كأساسٍ لمساعي وساطة مُعدَّلة. وسوف يعتمد الكثير على نتائج المحادثات بين روسيا والقوى المهيمنة في سورية، أي تلك التي سترسم في نهاية المطاف ملامح العملية السياسية في البلاد وتفرض سيطرتها على الأصول الاستراتيجية، مثل قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس.

إذا اتّخذت روسيا قرارًا سياسيًا باستعادة موقعها في سورية، فسوف تحدّد نقاطًا قد تستخدمها لتسهيل هذه العودة. وقد يشمل ذلك حماية الأقليات الإثنية والدينية، أو الاضطلاع بدور قوة خارجية محايدة تشكّل ثقلًا موازنًا. غالب الظن أن سياسة موسكو في الشرق الأوسط ستصبح أكثر مرونة. وإذا لزم الأمر، يمكنها التعاون مع تنظيماتٍ تعتبرها إرهابية، كما فعلت مع حركة طالبان. إذًا، إن انسحاب روسيا من الشرق الأوسط غير مُرجَّح. بل قد تنتظر ريثما تهدأ الأوضاع وتقترح مبادراتٍ لحلّ الصراع، مستبدلةً القوة الصلبة بالنشاط الدبلوماسي. من وجهة نظر موسكو، قد يوفّر الانتصار على الدول الغربية في أوكرانيا زخمًا للتحوّل نحو نظامٍ عالمي متعدّد الأقطاب، ما يعني ضمنيًا أن إعادة تنشيط الدور الروسي في الشرق الأوسط لا يزال ممكنًا على المدى البعيد.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.