Trucks carrying the belongings of Syrian refugees move along a road from a camp in Arsal in eastern Lebanon on their way back Syria on December 16, 2024
المصدر: Getty
مقال

سقوط الأسد يفتح أبواب العودة

ينبغي على لبنان تبنّي استراتيجية توافقية شاملة حيال ملفّ اللاجئين السوريين.

نشرت في ٢٢ يناير ٢٠٢٥

بعد سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أصبح باستطاعة اللاجئين السوريين في مختلف أرجاء الشرق الأوسط والعالم التفكير أخيرًا بالعودة إلى وطنهم. أما على المقلب الآخر من الحدود، فقد حَمل العام الجديد أجواء إيجابية للبنان بعد أشهر من الحرب المدمّرة مع إسرائيل، إذ شهدت البلاد انتخاب جوزاف عون رئيسًا جديدًا للجمهورية. لكن وسط هذه التحوّلات السياسية الكبرى في كلٍّ من سورية ولبنان، لا يزال مصير اللاجئين السوريين معلّقًا، ما يقتضي بلورة نهجٍ أكثر اتّساقًا.

أكّد عون، خلال إدلاء خطاب القسم أمام مجلس النواب اللبناني عقب انتخابه، على التزامه بتسهيل عودة اللاجئين السوريين عبر التعاون مع الحكومة السورية "لمعالجة هذه الأزمة بعيدًا عن الطروحات العنصرية أو المقاربات السلبية"، والسعي إلى "وضع آلية واضحة قابلة للتنفيذ الفوري تعيدهم إلى وطنهم". إذًا، يبدو أن مصير اللاجئين يقع في صُلب أولويات برنامج الرئيس الجديد.

وبعد يومَين من الانتخابات الرئاسية، توجّه رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، إلى دمشق في أول زيارة يجريها رئيس وزراءٍ لبناني إلى سورية بعد خمسة عشر عامًا من القطيعة. صحيحٌ أن الزيارة لم تتوصّل إلى خططٍ محدّدة بشأن آفاق عودة اللاجئين أو إلى اتفاقٍ على مقترحات سياسية ملموسة، إلّا أنها أفسحت المجال أمام تكثيف الاتصالات الدبلوماسية بين الجانبَين، وأرست الأُسس اللازمة لإجراء مفاوضات بهدف ضمان العودة الآمنة للّاجئين وضبط أعمال التهريب والفوضى العارمة على طول الحدود اللبنانية السورية.

وعلى الرغم من التقدّم المُحرَز في هذا الملف، ثمّة الكثير من الإجراءات التي يجب اتّخاذها قبل الانطلاق بقافلة العودة الطوعية. ويبقى السؤال الأساسي: ماذا تستطيع الحكومة اللبنانية والمجتمع الدولي فعله من أجل تهيئة الظروف أمام العودة الطوعية والآمنة والكريمة للّاجئين السوريين، بما يتوافق مع مبادئ القانون الدولي الإنساني؟ في هذا الإطار، وصف مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، هذه العملية الانتقالية بأنها مرحلة "مليئة بالفرص العظيمة والمخاطر الحقيقية".

كانت التدابير التي اتّخذتها الحكومة اللبنانية منذ العام 2011 لإدارة أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان مُرتجَلة ومتناقضة، ناهيك عن أنها حاولت إلقاء عبء اللاجئين على عاتق المجتمع الدولي. لذا، أمام القيادة اللبنانية الجديدة تحدٍّ يتمثّل في الابتعاد عن أسلوبها القديم وتبنّي نهجٍ استباقي وفعّال يسعى إلى الحفاظ على المصالح اللبنانية، وفي الوقت نفسه صون حقّ اللاجئين في تقرير مصيرهم.

انطبعت المقاربة اللبنانية حيال اللاجئين السوريين في الكثير من الأحيان بالغوغائية والارتجال، في ظلّ غياب التوافق على طريقة التعامل مع ملف عودتهم إلى وطنهم. لذا، وبمجرّد تشكيل الحكومة المرتقبة، على لبنان إنشاء لجنة تعبّر عن موقف لبناني موحّد وتحدّد إطارًا سياساتيًا واضحًا، لتعزيز قدرة لبنان التفاوضية مع كلٍّ من الحكومة السورية والمجتمع الدولي. وينبغي على اللجنة التفكير في خياراتٍ قابلة للتطبيق من أجل تحقيق عودة اللاجئين، وفي السُبل القانونية المُتاحة لأولئك الراغبين في البقاء في لبنان. يسمح هذا الإطار للحكومة بتوحيد جهودها والدفاع بشكلٍ أفضل عن المصالح الوطنية اللبنانية في المحافل الدولية.

وفي موازاة ذلك، ينبغي على لبنان إصلاح الأنظمة المتعلّقة بالإقامة على أراضيه من أجل توفير خيارات للسوريين، بحسب ظروفهم. فيجب على الدولة إصدار تراخيص عملٍ للسوريين الراغبين في البقاء والعمل في لبنان - ما من شأنه أن يسهم في اقتصاد البلاد – والحدّ من خطر تعرّضهم للاستغلال. أما أولئك الذين يودّون العودة إلى سورية أو زيارتها، فيجب اتّخاذ تدابير قانونية تسمح لهم بذلك تحت إشراف الدولة اللبنانية.

وقد ذكرت التقارير أن عدد السوريين المغادرين لبنان عبر المعابر الحدودية الرسمية ما زال "منخفضًا، ولكنه ثابت"، ما يوضِح الحاجة إلى اتّخاذ إجراءاتٍ استباقية لتسهيل عودتهم، مثل توفير ضمانات أمنية، وحوافز مالية، وإرساء أُطر قانونية تحترم سيادة لبنان، مثل التصاريح المؤقتة، أو أنظمة التأشيرات، أو اتفاقيات مُنسَّقة لإعادة الدخول. ومن الضروري في هذا الصدد تعزيز دور الجيش اللبناني والمديرية العامة للأمن العام في مراقبة الحدود مع سورية على نحو فعّال لضمان العودة الآمنة والمنظّمة للّاجئين الراغبين في دخول الأراضي السورية. يُشار إلى أن الاتحاد الأوروبي أعلن في أيار/مايو الفائت عن حزمة مساعداتٍ مالية بقيمة مليار يورو لدعم لبنان خلال الفترة الممتدّة من العام 2024 وحتى العام 2027، على أن يُخصَّص جزءٌ منها لتجهيز وتدريب الجيش اللبناني وغيره من الأجهزة الأمنية على إدارة الحدود ومكافحة التهريب. ولا شكّ من أن هذه المبادرة تمثّل فرصةً كبيرة للبنان تتيح له معالجة التحدّيات على حدوده.

إن عودة اللاجئين ليست شأنًا لبنانيًا وحسب. فقد برز زخمٌ إقليمي ودولي للاستفادة من سقوط نظام الأسد للضغط من أجل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. في هذا الإطار، علّقت دول أوروبية عدّة البتّ في طلبات اللجوء التي تَقدّم بها سوريون. واستأنفت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين برامج المساعدة والدعم في المناطق السورية التي شهدت تحسّنًا أمنيًا، على غرار مدينتَي حلب ودمشق، حيث عاودت راهنًا نسبة 80 في المئة من المراكز المجتمعية تقريبًا عملها، من خلال توفير الخدمات الأساسية إلى العائدين والنازحين داخليًا. لكن على الرغم من هذه التطوّرات، لا يزال كثرٌ من الذين اختاروا العودة إلى ديارهم يواجهون آفاقًا قاتمة. فقد أشارت المفوضية السامية في تقارير صدرت مؤخرًا إلى أن أكثر من 125 ألف لاجئ عادوا إلى بلادهم بعد سنوات من التهجير، ليعانوا تحديّات جمّة، أبرزها صعوبة العثور على مأوى ملائم، ونقص المواد الغذائية والخدمات الأساسية.

لكن بعد حربٍ استمرّت أكثر من عقدٍ من الزمن وخلّفت ما مجموعه 7.2 ملايين نازحٍ داخليًا، إضافةً إلى 6.2 ملايين لاجئ يتوزّعون على مختلف دول العالم، من غير الواقعي توقُّع أن تتحسّن الأوضاع بين ليلة وضحاها، ولا سيما أن كثرًا من العائدين تنتظرهم بيوتٌ مُدمّرة أو غير صالحة للسكن. واستنادًا إلى التقييمات الأولية، أطلقت المفوضية السامية نداءً عاجلًا للتمويل بقيمة 310 ملايين دولار من أجل تلبية الحاجات الإنسانية العاجلة ودعم جهود التعافي. ونظرًا إلى مدى تعقيد هذه العملية وضبابية المشهد السياسي السوري، ينبغي على صنّاع السياسات التخطيط لعودةٍ تدريجيةٍ تؤمّن سُبل العيش للعائدين وتضمن أمنهم وحصولهم على الخدمات والبنى التحتية الأساسية.

لذا، يتعيّن على لبنان، قبل التقدّم بطلب للحصول على مساعدات مالية، أن يعمَد إلى تنويع مساعيه الدبلوماسية والانخراط مع المجتمع الدولي للدفع نحو تحقيق عملية انتقال سياسي سلسة في سورية، لضمان حقوق السوريين ودعمهم في تشكيل حكومةٍ تنبثق من الشعب وتعمل لخدمته. ومن شأن إطلاق عمليةٍ تحظى باعتراف دولي، على غرار مسار جنيف للسلام، أن تمهّد الطريق لتشكيل هيئة حكم انتقالي. وبعد استتباب الأمن، سيصبح من السهل توفير المساعدات اللازمة لدعم جهود التعافي، وإرساء بيئة اجتماعية واقتصادية ملائمة أكثر للعائدين. على سبيل المثال، أبدت دول الخليج وصندوق النقد الدولي استعدادهما للمشاركة في إعادة إعمار سورية ما إن تسمح الظروف السياسية والأمنية بذلك. يبدو واضحًا إذًا أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي في سورية سيزيد احتمالات عودة اللاجئين إلى بلادهم وإسهامهم في إعادة بناء مجتمعاتهم المحلية.

صحيحٌ أن الديناميات المحلية والدولية تؤثّر بشكلٍ كبير على هذا الملف، إلّا أن قرار العودة يبقى خيارًا شخصيًا نابعًا من الظروف والتطلّعات الفردية. لذا يتعيّن على الدول المضيفة، بما فيها لبنان، مراعاة التحديات الكبيرة التي يواجهها السوريون الذين استقرّوا في ربوعها، ومن ضمنهم الأجيال الأصغر سنًّا التي لم تعرف سورية وطنًا لها قطّ. ولا بدّ من منحِ هذه الفئات من اللاجئين فرصة التقدّم بطلبات للإقامة في البلدان المضيفة وبناء حياة لهم فيها بشكل قانوني، مع ضمان حريتهم في الاختيار. لكن الدول المضيفة تتمتّع أيضًا، بطبيعة الحال، بحقّها السيادي في اتّخاذ القرارات المتعلقة بالهجرة. مع ذلك، ونظرًا إلى حالة اللايقين المستمرة في سورية، لا يزال الكثير من اللاجئين متردّدين في العودة إلى وطنٍ اهتزّت ثقتهم فيه، فيما يسهم جزءٌ منهم في الاقتصاد اللبناني، وإن بطريقة غير رسمية وهامشية. وبالتالي، إذا تمّ دمج مساهماتهم بالكامل والاعتراف بها بصورة قانونية، قد تساعد بشكلٍ كبير في تحقيق تعافي الاقتصاد اللبناني خلال المرحلة الانتقالية. لذا، يجب أن تُصاغ الدعوة إلى عودة اللاجئين بعناية ضمن سياقٍ دولي يُتيح لهم اتّخاذ خيارات مدروسة في ظلّ أجواء من الحرية والأمن والسلامة، وفي كنف إطارٍ قانوني يحمي أولئك الراغبين في البقاء في لبنان.

نظام الأسد قد ولّى، لكن الأزمة الإنسانية في سورية لا تزال مستمرّة. ونظرًا إلى التقلبات والضبابية التي تحيط بهذه المرحلة الانتقالية، لن تكون عودة اللاجئين إلى سورية فورية أو مباشرة. بل ستتطلّب التزامًا طويل الأمد، وتخطيطًا استراتيجيًا، وتنسيقًا واضحًا بين القوى المعنية الرئيسة: أي الحكومتان اللبنانية والسورية، والمجتمع الدولي، والأهم، الشعب السوري. ويجب أيضًا تفادي إعطاء الأولوية لتحقيق مكاسب قصيرة الأمد، على حساب إرساء الاستقرار، ما يُعدّ أمرًا ضروريًا لإحداث تغيير دائم.

إن إسقاط الأسد لا يفسح المجال تلقائيًا أمام عودة اللاجئين. فتحقيق هذا الهدف يتطلّب بذل جهود متواصلة والتزوّد برؤية طويلة الأمد لبناء مستقبلٍ آمنٍ ومفعمٍ بالأمل للسوريين الذين عانوا الأمرَّين خلال أكثر من عقد من الزمن. فمن خلال العمل الموحّد والتعاون والعزيمة، يمكن للآمال المعقودة والفرص المتاحة أن تمهّد الطريق أمام إحداث تغييرٍ حقيقي، بدلًا من الاعتماد على أنصاف الحلول التي لا تولّد سوى مشاكل جديدة في المستقبل.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.