بانكاج ميشرا روائي وكاتب مقالات ولد في شمال الهند في العام 1969. هو حائز على بكالوريوس في التجارة من جامعة الله أباد، وماجستير في اللغة الإنكليزية من جامعة جواهر لال نهرو في نيو دلهي، وله كتبٌ عدّة، من ضمنها كتابٌ بعنوان From the Ruins of Empire: The Revolt Against the West and the Remaking of Asia (من أنقاض الجمهورية: الثورة ضدّ الغرب وإعادة تشكيل آسيا)، وآخر بعنوان Age of Anger: A History of the Present (زمن الغضب: تأريخ الحاضر)، صدَرا عن دار نشر بيكادور في العام 2013 والعام 2017 على التوالي، إضافةً إلى مجموعة مقالات بعنوانBland Fanatics: Liberals, Race, and Empire (المتعصّبون الباهتون: الليبراليون، والبنى العرقية والإمبريالية) صادرة عن منشورات فيرسو في العام 2020. وسيصدر له كتابٌ جديد في 6 شباط/فبراير عن منشورات بنغوين بعنوان The World After Gaza: A History (العالم بعد غزة). أجرت "ديوان" مقابلة معه في أواخر كانون الثاني/يناير لمناقشة كتابه الحديث والمحاور التي يتناولها بشكل عام.
مايكل يونغ: يُعدّ كتابك المرتقب، الذي يحمل عنوان The World After Gaza (العالم بعد غزة)، امتدادًا لمقالٍ كتبتَه في مجلّة London Review of Books في شهر آذار/مارس 2024. ماذا كان الدافع وراء كتابة هذَين النصَّين، وما الأفكار الأساسية التي رغبت في طرحها؟
بانكاج ميشرا: أردتُ من خلالهما التعقيب على الفاجعتَين الأخلاقية والفكرية اللتَين ألمّتا بنا عَقب أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر. تمثّلت الأولى في عمليات القتل والتدمير التي ارتكبتها إسرائيل بشكلٍ متعمّد للغاية في غزة بدعوى الدفاع عن النفس. والثانية كانت المحاولات التي بذلها مؤيّدو إسرائيل في الغرب، من صحافيين وسياسيين ورجال أعمال، لحجب حقائق واضحة جدًّا لا تتعلّق بعدوان إسرائيل فحسب، بل أيضًا بتاريخها الطويل من احتلال الأراضي الفلسطينية، وتوسّعها المستمرّ في الضفة الغربية، وتقويضها الحركات الفلسطينية غير العنيفة، وتمويلها حركة حماس. لا يسعني، بصفتي كاتبًا منفردًا، فعل الكثير لمواجهة مثل هذه الممارسات المُخزية المتمثّلة في التعتيم والإغفال والمراوغة، التي ارتكب الكثير منها زملاءٌ صحافيون، سوى محاولة إعلاء الصوت على منصّةٍ ما. لذلك، كتبتُ مقالًا في مجلّة London Review of Books ، سعيًا إلى قول أمورٍ اعتُبرَت من المحرّمات، وعوقِب عليها بشدّة في الفضاء العام الغربي. يهدف الكتاب إذًا إلى التعمّق أكثر في هذه المسألة، لاستطلاع الطرق التي تمّ من خلالها صنع الذاكرة العامة عن المحرقة في كلٍّ من إسرائيل وألمانيا والولايات المتحدة، واستخدامها لتبرير النهج الإسرائيلي التوسّعي العنيف، ودراسة كيف أصبح لثقافات الذاكرة دورٌ مهمّ في مجتمعاتنا، ولماذا تُعدّ أحداث غزة مؤشّرًا على انحلالٍ واسعٍ في المعايير الأخلاقية والسياسية قد لا نتعافى منه ما حيينا.
يونغ: تقتبس في إحدى الفقرات مقولةً لجورج أورويل، الذي كتب في العام 1945 بأن فلسطين "مسألة متعلّقة بلون البشرة"، قبل أن تضيف بأن موهانداس غاندي رأى الوضع هناك من المنظور نفسه أيضًا. يبدو واضحًا أنك تشاركهما هذا الرأي. هلّا شرحت كيف ولماذا تتماشى هذه النظرة مع تفسيرك الأوسع للصراع في غزة، وما تأثيرات ذلك؟
ميشرا: تُعدّ فلسطين قضيةً متعلّقة بلون البشرة منذ أن ادّعى الصهاينة الأوروبيون أحقيّتهم بها بالتعاون مع القوة الإمبريالية البريطانية. أبدى أشخاصٌ مثل غاندي تعاطفًا مع الحركة الصهيونية، إلّا أنهم كانوا متوجّسين جدًّا من مساعيها لإقامة دولة من خلال الدعم العسكري البريطاني. والسبب أن غاندي والكثير من القادة الآسيويين والأفارقة الآخرين كانوا يخوضون معاركهم الخاصة ضدّ الأوروبيين المؤمنين بتفوّق العرق الأبيض. وبعد عقودٍ من الزمن، ردّد نيلسون مانديلا وديزموند توتو صدى هذه الفكرة عندما أصبحت إسرائيل حليفة مقرّبة من نظام الأبرتهايد ]الفصل العنصري[ في جنوب أفريقيا. ويبدو جليًا اليوم أن جنوب أفريقيا تقود دفّة المعارضة الدولية ضدّ النظام اليميني المتطرّف في إسرائيل، على الرغم من الضرر الكبير الذي يلحقه ذلك بمصالحها الاقتصادية، وتتلقّى دعمًا غريزيًا من دول كثيرة عانت من تبعات العنصرية والإمبريالية. والآن، مع وصول نظامٍ يؤمن صراحةً بتفوّق العرق الأبيض إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة، وتنامي نفوذ حلفائه في أوروبا، واتّحاد جميع هذه الأنظمة في موقفها المناهض للمهاجرين ذوي البشرة السمراء، وفي خوفها من الصين وكرهها لها، قد يُنظر إلى فلسطين بشكلٍ أكبر من السابق حتى باعتبارها قضية متعلّقة بلون البشرة.
يونغ: إحدى النقاط التي تطرحها في كتابك هي أن تأسيس إسرائيل في فلسطين حدث في اللحظة عينها التي كانت فيها القوى الاستعمارية الأوروبية تواجه تحدّيًا من الشعوب الخاضعة لها. بتعبيرٍ آخر، جرت التضحية بحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم على مذبح حقّ اليهود في تقرير مصيرهم، فيما كان الكثير من الشعوب المُستعمَرة في مختلف أنحاء العالم يسعى إلى الحرية. ولكنك تشير أيضًا إلى أن اليهود، بسبب المعاناة الشديدة التي تكبّدوها، ربما كانوا يستحقّون التمتّع بالأمن في دولةٍ خاصةٍ بهم. كيف كان دور الغرب في هذه الديناميات المعقّدة؟
ميشرا: كان دور القوى الغربية مشينًا للغاية منذ البداية، إذ كان التعصّب ضدّ اليهود متجذّرًا في مختلف أنحاء أوروبا الغربية بحلول أواخر ثلاثينيات القرن الماضي. لهذا السبب، ساعدت أوروبا بمعظمها النازيين في قتل 6 ملايين يهودي. وكانت دول الحلفاء على دراية بما يحدث منذ البداية، إلا أنها قلّلت من أهميته، بل رفضت حتى استقبال المزيد من اللاجئين اليهود. وكان البريطانيون على وجه الخصوص مخادعين للغاية. وحتى بعد انكشاف المحرقة، رفضت الولايات المتحدة فتح أبوابها بشكل أوسع للاجئين اليهود. كادت دولة إسرائيل ألّا تبصر النور، وعندما أصبحت قائمة شكّلت في المقام الأول ملاذًا لشعبٍ مضطهَد بشدّة وغير مرغوب فيه. من المهمّ أن نتذكّر ذلك عن إسرائيل بقدر ما هو مهمّ أن نعرف حقيقةً مفادها أن الكثير من الصهاينة كانوا شبه مستعمرين أوروبيين، ولا سيما على ضوء معاملة الفلسطينيين اليوم، في تكرارٍ قاتمٍ للتاريخ الحديث، على أنهم بيادق يمكن الاستغناء عنها على رقعة الشطرنج الجيوسياسية.
يونغ: كيف أدّت الولايات المتحدة دورًا محوريًا في عملية تحويل المحرقة إلى آليةٍ للتوسّع الإسرائيلي، أي تحويل المصير الرهيب الذي لحق بالشعب اليهودي إلى حدثٍ أدّى، على حدّ تعبير الكاتب الإسرائيلي بواز إيفرون، إلى انفلات إسرائيل من "أيّ قيود أخلاقية، لأن مَن هو مُهدَّد بالإبادة يرى نفسَه معفيًّا من أيّ اعتبارات أخلاقية قد تقيّد مساعيه لإنقاذ نفسه"؟
ميشرا: كانت الشعوب المهاجرة في الولايات المتحدة محوريةً في تشكيل معالم الكثير من الدول القومية، من الهند وصولًا إلى أيرلندا. لكن الارتباط اليهودي-الأميركي بإسرائيل كان تاريخيًا الأكثر أهميةً وتعدّدًا للأوجه، إذ يعمل على مستويات مختلفة عدّة، سياسيًا واقتصاديًا وفكريًا وعاطفيًا. فهو يجمع بين مكوّنات متباينة، من الأصوليين المسيحيين إلى الملحدين المتشدّدين، ومن اليساريين العلمانيين في الأوساط الأكاديمية، إلى أباطرة وادي السيليكون ومُعادي السامية من اليمين المتطرّف. ويستجلب هذا الارتباط جميع أنواع المشاعر والرغبات: من المتعصّبين شبه الأمّيين الذين يتوقون إلى معركة هرمجدون ]نهاية العالم[، إلى الأشخاص ذوي التعليم العالي الذين يسعون إلى العثور على معنى في الفراغ الروحي للمجتمع التجاري الأميركي من خلال الارتباط بإسرائيل. ومع أن جميع الدول القومية لديها سرديات تمنحها الشرعية الذاتية، ما من دولة أخرى تشكّلت معالمُها الروحية والنفسية بعمقٍ بفعل حدثٍ ماضٍ كما تشكّلت معالم إسرائيل بفعل المحرقة. تُغرَس ذكرى معاناة الأسلاف هذه عمدًا في أذهان الشباب والأشخاص القابلين للتأثّر، وتُستخدَم لارتكاب أسوأ الفظائع التي يمكن أن يرتكبها البشر. بطبيعة الحال، يحاول القوميون الهندوس في الهند التعلّم من النموذج الإسرائيلي، إذ باتوا يتحدّثون أكثر فأكثر عن مظلومية الهندوس، ويحاولون بثّ الكراهية والخوف من المسلمين وغيرهم من الأقلّيات في نفوس الهنود الشباب. أحاول في الكتاب أن أجادل ضدّ ثقافات الذاكرة هذه التي تدمّر الحسّ الأخلاقي الفردي والتضامن الاجتماعي الأساسي، ناهيك عن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
يونغ: تُشيد في ختام كتابك على نحو كبيرٍ بالطلّاب (وغير الطلّاب أيضًا) الذين شاركوا في الاحتجاجات المناهضة للحرب في غزة، مشيرًا إلى أن "غزة دفعت كثرًا من الناس إلى الاعتراف بحقيقة المشاكل المتجذّرة في مجتمعاتهم". هلّا أخبرتنا أكثر عن الطلّاب الذين يبدو من أفعالهم أنهم ربما أفضل من فهم ما وصفتَه بأنه "قطيعة نهائية مع التاريخ الأخلاقي للعالم منذ ساعة الصفر في العام 1945".
ميشرا: كانت الاحتجاجات التي قادها الطلّاب في الغالب ضدّ تدمير غزة أكبر حركة من هذا النوع منذ ستينيات القرن المنصرم. وقد قوبِلت بحملات قمع حازمة، فيما يُقدِم ]الرئيس الأميركي[ دونالد ترامب راهنًا على اتّخاذ إجراءات أشدّ صرامةً ضدّ أشكال المعارضة العادية حتى. لكن أعتقد أن المتظاهرين أوضحوا أن ترامب لم يأتِ من عدم؛ وأن هذه الشخصية الغوغائية وغير المتّزنة أتت خلفًا لرئيسٍ عجوز مشوّش ذهنيًا كان مُحاطًا ومحميًّا من أشخاص وصوليين ومنافقين؛ وأن حالةً من السقم والعفن تنخر الدول والمجتمعات التي لا تُقدِم فقط على دعم وتسهيل ارتكاب أعمال القتل الجماعي، بل تجني أيضًا مكاسب مادية منها. من المهمّ أن هذه الصدمة الأولى من الوعي الأخلاقي باتت مُنتشرةً في أوساط طلّابٍ لم تُفسدهم بعد الحياة المهنية، ولم يُعرَض عليهم بعد الانخراط في نظامٍ يستشري فيه الفساد. لذا، أعتقد أن هؤلاء الطلّاب يُضفون بصيصًا من الأمل على ظلمة هذا الزمن، الأمل بأن ضمائرنا ربما لم تنحرف وتمُت بالكامل.
يونغ: سلّطْت الضوء في كتابك على أحد الأبطال المغمورين، وهو الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الذي نجا من معسكر أوشفيتز، إلّا أنه ربما لم ينجُ فعليًا، إذ أقدم على الانتحار في العام 1987 في مدينة تورينو. لماذا تَعتبره شخصيةً محورية؟
ميشرا: لا يخطر في بالي أيّ ناجٍ آخر من الهولوكوست تعمّق بقدر بريمو ليفي في التفكير بالصدمة التي عاشها، أو توصّل إلى خلاصاته غير المتوّقعة حول ثقافة التواطؤ الأوسع التي نعيش فيها جميعًا. كان ليفي من أوائل الذين ابتعدوا عن روايات تبسيطية مفادها أن المحرقة كانت مدفوعةً في الغالب بمعاداة السامية، ليلاحظوا أن ثمّة عوامل فردية وجماعية أكثر قتامةً سمحت بارتكابها. وهو حذّر من حدوث إبادة جماعية أخرى في المستقبل، ليس لأنه اعتقد أن معاداة السامية القاتلة هي ظاهرة باقية إلى الأبد (وهو ما يظنّه كثرٌ من مناصري إسرائيل)، بل لأنه رأى أن ترتيباتنا الاجتماعية والاقتصادية ومعاييرنا الأخلاقية التي شهدت تدهورًا كبيرًا تنطوي على احتمال حدوثها.
يونغ: ختامًا، ما الموضوع التالي الذي ستعمل عليه؟ هل من مشروعٍ نتطلّع إليه؟
ميشرا: لستُ أخطّط في الوقت الراهن لكتابٍ آخر. قادني إلى تأليف هذا الكتاب دافعٌ قسريّ داخلي، لمحاولة التغلّب على مشاعر اليأس التي انتابتني. لستُ واثقًا حتى من أنني سأضع كتابًا آخر. فالظروف العصيبة التي نمرّ بها، والتي قد لا نتخطّاها قبل سنوات عدّة، تتطلّب على الأرجح شكلًا آخر من أشكال التفاعل مع العالم. كذلك، أعتقد أنني قلتُ ما استطعت قوله، وربما حان الوقت لإفساح المجال أمام الأجيال الصاعدة كي تدلي بدلوها.