المصدر: Getty
مقال

زنازين آل الأسد

تناقش آن ماري ماكمانوس، في مقابلة معها، قضية نظام السجون في سورية وأهميتها في العملية الانتقالية.

نشرت في ٢٠ يناير ٢٠٢٥

آن ماري ماكمانوس مديرة مشروع The Prison Narratives of Assad’s Syria (سرديات السجون في سورية خلال عهد الأسد) المُموَّل من مجلس البحوث الأوروبي في منتدى الدراسات عبر الإقليمية (Forum Transregionale Studien) في برلين. صدرت لها مقالات كثيرة وتعمل راهنًا على تأليف كتاب حول الإنتاج الثقافي والحراك من أجل المعتقلين والمخفيين قسرًا في سورية. إضافةً إلى بحثها الأكاديمي، تشارك في مشاريع تعاونية مع باحثين وفنانين وناشطين سوريين، من بينها Lab for the Study of Violence in Syria (مختبر دراسة العنف في سورية)، حيث تعمل كمستشارة في الشؤون الأخلاقية والأساليب الرقمية. علاوةً على ذلك، قامت بتحرير كتابٍ شاركت في تأليفه مع الفنان خالد بركة، يصدر في العام 2025 عن منظمة Coculture، بعنوان Design of Necessity: Resilience Under Siege in Assad’s Syria (تصميم الضرورة: الصمود تحت الحصار في سورية خلال عهد الأسد). أجرت "ديوان" مقابلة معها في أوائل كانون الثاني/يناير لمناقشة نظام سجون الأسد والدور المُحتمَل لهذا الملفّ في نجاح العملية الانتقالية في سورية.

يزيد صايغ: مضى أكثر من شهر منذ أن أطاح تحالفٌ من جماعاتٍ تقودها الميليشيا الإسلامية، هيئة تحرير الشام، بنظام بشار الأسد، لينتهي بذلك حكم آل الأسد الدكتاتوري الذي دام 50 عامًا. هل يمكنكِ أن تقدّمي لنا بعض السياق للصور التي خرجت من السجون السورية خلال تلك الأحداث وما بعدها؟

آن ماري ماكمانوس: لم يكن تحرير السجون وفروع المخابرات حدثًا هامشيًا في سقوط النظام، بل كانت نهاية أرخبيل سجون الأسد في صميم هذا الانقلاب بطرق غير مسبوقة حقًا في التاريخ السوري والإقليمي الحديث. إن معظم القرّاء على دراية بالصور من صيدنايا، السجن العسكري الذي جرى تحرير معتقليه في ليلة 7-8 كانون الأول/ديسمبر قبل ساعات من فرار الأسد إلى روسيا. تحمل مقاطع الفيديو التي تُظهِر إخراج السجناء من الزنازين، بمَن فيهم النساء والأطفال، رمزيةً كبرى للسوريين لأن سجن صيدنايا كان يمثّل ذروة عنف النظام بعد العام 2011، حيث كان "مسلخًا بشريًا" على حدّ تعبير منظمة العفو الدولية في العام 2017. لكن سجن صيدنايا ورث سمعته السيئة من سجن تدمر الذي أُقفِلت أبوابه في العام 2001، وكان موقعًا للتعذيب، وعمليات الإعدام الجماعي، والاعتقالات غير المُحدَّدة المدّة، بحقّ معارضي النظام خلال ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي. نحن إذًا أمام أنماط متجذّرة من العنف السياسي استمرّت لعقودٍ من الزمن، وتطال تداعياتها صميم السياسة والمجتمع في سورية المعاصرة.

شكّلت السجون أيضًا جزءًا لا يتجزّأ من هياكل النظام العسكرية والسياسية، حيث كانت المواقع ومراكز الاعتقال خاضعة لإدارة فروعٍ وأقسام مختلفة: المخابرات العسكرية، والمخابرات الجوية، والفرقة الرابعة المدرّعة النخبوية، وما إلى ذلك. لذا، كانت السيطرة على السجون، أو التخلّي عنها، مسألةً تكتيكيةً أيضًا. كان صيدنايا واحدًا فقط من السجون التي حرّرها التحالف بقيادة هيئة تحرير الشام منذ بدء تقدّمه. وهؤلاء السجناء حُرّروا فعليًّا على أيدي مقاتلي المعارضة المحليين السابقين الذين أقنعوا حرّاس صيدنايا بالتخلّي عن مواقعهم من خلال تهديدهم بأن مقاتلي هيئة تحرير الشام سيصلون قريبًا. لقد كانت الأحداث الصغيرة هذه حاسمةً في الدلالة على انهيار النظام الوشيك. ويمكن مقارنتها بما حصل قبل أقلّ من أسبوعَين على الأحداث المذكورة، حينما نشرت هيئة تحرير الشام لقطات مشوّقة لمعركتها مع القوات الحكومية على سجن حلب المركزي، مُعلِنةً السيطرة على السجن باعتباره انتصارًا عسكريًا استراتيجيًا. عند النظر إلى التسلسل الزمني للأحداث، ندرك أننا كنّا نتابع مباشرةً تفكيك هياكل النظام من خلال مشاهد السجناء وهم يتدفّقون، في غمرة الذهول والفرح، إلى شوارع حماة وحمص وغيرهما من المدن السورية.

صايغ: ما هي تأثيرات انهيار نظام السجون منذ 8 كانون الأول/ديسمبر 2024؟ ومَن هم المعنيّون الأساسيون في هذه القضية اليوم؟

ماكمانوس: طرحت نهاية حقبة سجون النظام تحدّياتٍ هائلةً لا تستطيع الدولة الجديدة غضّ الطرف عنها. فلنبدأ بحجم المشكلة. في العام 2022، قدّر زميلاي جابر بكر وأوغور أونغور، في كتابهما The Syrian Gulag: Inside Assad’s Prison System (الغولاك السوري: سجون نظام الأسد)، أن 300 ألف سوري سُجِنوا منذ العام 2011، ما يعادل 1200 سجين لكلّ 100 ألف سوري. للمقارنة، كانت النسبة المُعادِلة في الولايات المتحدة، التي تُعَدّ الموطن العالمي للسجن الجماعي، 629 سجينًا. إن قطاعاتٍ واسعةً من المجتمع السوري معنيّةٌ إذًا بهذه القضية.

أولًا، أُفرِج في الآونة الأخيرة عن آلاف السجناء، ومنهم كثرٌ في حاجة ماسة إلى العناية الطبية والدعم النفسي. تُضاف إلى ذلك أعدادٌ لم تُحصَ بعد من السوريين الذين عملوا حرّاس سجون، ومحقّقين، ومخبرين للدولة. ولا يزال كثيرون منهم داخل البلاد ومجهولي المصير. ماذا سيحدث لهم؟ وما هو مكانهم في سورية المقبلة؟ هل سيُحاسَب جميعهم أو بعضهم فقط على أدوارهم في عنف النظام؟ وإذا كان الأمر كذلك، فوفقًا لأيّ معايير وأدلّة؟

لقد أشار قائد هيئة تحرير الشام، أحمد الشرع، بوضوحٍ إلى أن العدالة الانتقالية أولويةٌ للدولة الجديدة. وفي الشهر الماضي، نفّذت هيئة تحرير الشام عددًا من الاعتقالات البارزة، من بينها، على ما أُفيد، اعتقال محمد كنجو حسن، الذي أشرف على أحكام الإعدام في سجن صيدنايا في الأعوام 2011-2014. لكن تحقيق العدالة الانتقالية الفعلية للسوريين لا يزال بعيد المنال. فالمطلوب هو رؤية مجتمعية للعدالة الانتقالية، تتجاوز مجرّد تسوية الحسابات بين العسكريين، من أجل الشروع في ردم هوّة الانقسامات الاجتماعية الحادّة التي تَسبّب بها عنف النظام داخل المعتقلات.

تتطلّب هذه الرؤية إشراك مجموعة ثالثة أساسية من الأطراف المعنيّة، وهي أُسر الأشخاص المخفيّين قسرًا، التي تمثّل شبكةً لامركزية من الناشطين والمجموعات بقيادة نساء، مثل رابطة عائلات قيصر وعائلات من أجل الحرية، الذين يطالبون بالحصول على معلومات عن مصير أحبّائهم. منذ سقوط النظام، أثارت هذه المجموعات ضجّة كبيرة على الإنترنت، وهي الآن تعقد اعتصامات واحتجاجات داخل سورية. تحظى هذه الأُسر في نظر الكثير من السوريين بسلطة أخلاقية وسياسية فريدة نظرًا إلى ما تكبّدته من خسائر، وبفضل نشاط مجموعاتها على مرّ السنين. لذا، إن أيّ مبادرة للعدالة الانتقالية تتجاهل أُسر المخفيّين، ستتحمّل عواقب ذلك. في الوقت الراهن، تعبّر هذه الأُسر عن ألمها وغضبها تجاه المنظمات الدولية، وبشكلٍ متزايد تجاه الحكومة الانتقالية، لأن لا أحد يتصرّف بحزمٍ لتأمين وحماية المعلومات عن آلاف السوريين الذين لا يزال مصيرُهم مجهولًا على الرغم من تحرير السجون الشهر الماضي.

صايغ: لماذا يحدث ذلك؟

ماكمانوس: إن وضع التوثيق في سورية فوضوي وكارثي، لذا ليست في حوزتنا أرقام دقيقة حول المخفيّين. فمن جهة، عُثِر على كمّيات ضخمة من الوثائق في السجون ومراكز الاعتقال، حيث أظهرت الصور ومقاطع الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي أكوامًا من الدفاتر والوثائق لمسؤولي النظام مكتوبةً بخطّ اليد، تضمّ أسماء المعتقلين والمخبرين، وسجلات المراقبة المفصّلة. يبدو في أحد مقاطع الفيديو الأخيرة ناشطٌ وهو يتجوّل في مكتب سرّي عُثِر عليه في مركز الاعتقال 215 (دمشق)، ويُظهِر غرفةً مليئة بالتقارير عن معارضي النظام من ثمانينيات القرن الماضي إلى ما بعد العام 2011. وهذه غرفة واحدة فقط في فرعٍ واحد. لقد بات من الواضح أن فرز وفهم هذه الأرشيفات، التي تحمل إجابات حول مصير المخفيّين قسرًا، وأكثر من ذلك بكثير في التاريخ الاجتماعي والسياسي لسورية، سيستغرق سنواتٍ من العمل.

ومن جهة أخرى، ما من هيئة مركزية تتولّى الإشراف على حماية هذه الوثائق. وقد أعرب حتى النشطاء الأكثر إحباطًا من هذا الوضع عن تفهّمهم لحالة الفوضى التي عمّت صيدنايا في أوائل كانون الأول/ديسمبر، حين هرع عشرات الآلاف من ذوي المعتقلين إلى السجن بحثًا عن أحبّائهم، وتمّ خلال هذه العملية إتلاف وثائق وأخذ أخرى. مع ذلك، لم تتولَّ منذ ذلك الحين أي سلطة – سواء كانت حكومية أو مدنية، سورية أو دولية – مهمة حفظ سجلات السجون السورية. لذا، ما زالت الفوضى مستمرة. في غضون ذلك، ولّد اهتمام وسائل الإعلام بسقوط النظام طلبًا جديدًا على نشر تقارير مثيرة عن السجون السورية. ونتيجةً لذلك، بتنا نشاهد الصحافيين وهم يسيرون في مسارح الجريمة، حرفيًا، ويلتقطون وثائق حساسة لعرضها على الكاميرا، فيما يطأون بأحذيتهم على ملفاتٍ أخرى. علاوةً على ذلك، نرى صورًا لرفاتٍ بشرية وعظام أُخذَت من مقابر جماعية غير خاضعة للحراسة، لتُترَك في القمامة أو تُلقى في الشوارع. هذا النوع من التغطية يؤجّج مشاعر الغضب في أوساط السوريين الذين يودّون الحصول على المعلومات وتحقيق المساءلة والمحاسبة كي يتمكّنوا من طي صفحة جرائم النظام، وهذا أمرٌ مفهوم.

صايغ: ما تقييمكِ لآفاق العدالة الانتقالية في سورية؟ وما هي الأُطر الأكثر فعاليةً برأيكِ في المرحلة المقبلة؟

ماكمانوس: يؤكّد الهدوء النسبي السائد منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي على توافر إرادة قوية بشكل عام للحفاظ على السلم الأهلي بعد سنواتٍ من الحرب. وفي الوقت نفسه، يتنامى زخم الدعوات المُطالِبة بالحصول على معلومات عن مصير الأشخاص المخفيين قسرًا، فيما قد تهدّد إطالةُ أمد التقاعس بزعزعة الاستقرار الأهلي ومستقبل العدالة الانتقالية على حدٍّ سواء.

من الضروري برأيي تبنّي خطوتَين منسّقتَين. أولًا، يتعيّن على مجموعات المجتمع المدني السورية، ولا سيما أُسر المخفيين قسرًا ومنظمات حقوق الإنسان، صياغة ميثاق جديد للإشراف على تنظيم الأدلة المتعلقة بالمخفيين في سورية وضمان سلامتها. ومن شأن هذه الخطوة أن تتماشى مع التوازن السياسي الآخذ في التشكّل بين الدولة الجديدة بقيادة الشرع والمجتمع المدني المُمثَّل إلى حدٍّ كبير راهنًا بمبادرة "مدنيّة"، التي افتتحت مؤخرًا مقرّها في دمشق.

ثانيًا، يجب على المنظمات الدولية، التي تمتلك موارد وفيرة وتاريخًا من الانخراط في هذه القضية (مثل الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التابعة للأمم المتحدة، ولجنة العدالة والمساءلة الدولية)، أو تلك المتواجدة في سورية (على غرار اللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود) أن تسخّر مواردها، بدءًا من اليد عاملة ومرورًا بخدمات التوثيق ووصولًا إلى التحليل الجنائي، لدعم عمل الميثاق. في ظلّ المناخ السياسي الراهن، إن أي مبادرة ذات مصداقية يجب أن تكون بقيادة السوريين أنفسهم وأن تشمل جميع المعنيين.

وكما شدّدتُ آنفًا، إن قضايا السجون والمخفيين هي في طبيعتها مشحونة سياسيًا وعاطفيًا. وإن تمّ التعامل معها بطريقة مراعية وشاملة للجميع، سيحظى السوريون بفرصةٍ لبناء نظام اجتماعي وسياسي جديد يولد من رماد نظام الأسد. لكن إذا استندت العدالة الانتقالية إلى مقاربة تنطلق من أعلى الهرم إلى أسفله، و/أو اقتصرت على إجراءات رمزية وسطحية، و/أو اعتمدت على أدلة فاسدة أو منقوصة أو مشكوك في صحتها، فستتحوّل إلى وسيلة فعّالة جدًّا لتأجيج جذوة الانقسام وإشعال فتيل الاضطرابات الداخلية.

صايغ: ماذا عن الحكومة الانتقالية؟ وما مدى مصداقية الشرع في هذا الشأن؟

ماكمانوس: لا يتمتع [الشرع] بما يكفي من المصداقية لقيادة حركة وطنية كفيلة بتحقيق العدالة الانتقالية. صحيحٌ أنه يقول ما يجب قوله، لكن عند كتابة هذا المقال لم يكن قد عقد بعد لقاءً رسميًا مع الأُسر مثلًا أو أنشأ لجنة معنيّة بالأشخاص المخفيين قسرًا. ولم تحرّك هيئة تحرير الشام ساكنًا للإفراج عن المعتقلين داخل سجونها في إدلب الواقعة شمال غرب البلاد والخاضعة لسيطرتها منذ العام 2019. لدى هذه السجون سجلٌّ مشابه بشكلٍ ملحوظ للممارسات داخل سجون النظام، لذا لا تبدو مصداقيته قوية في هذه القضية.

خرجت مظاهرات شعبية استمرّت أشهرًا عدة في ربيع العام 2024 في مناطق إدلب ضدّ هيئة تحرير الشام وقائدها الشرع، لأن القوات الأمنية التابعة لها والمعروفة باسم جهاز الأمن العام، كانت تشنّ حملةً من الاعتقالات التعسفية، ناهيك عن قتل السجناء من جرّاء التعذيب وعدم إبلاغ الأُسر بوفاة أبنائها، وإلقاء الجثث في مقابر جماعية. آنذاك، رفع المتظاهرون ما أصبح راهنًا العلم الوطني السوري – أي علم الثورة الذي تتوسطه نجومٌ ثلاث – ضدّ هيئة تحرير الشام، ووصفوا سجونها بالمسالخ وشبّهوها بمعسكرات الموت التابعة لنظام الأسد. في ضوء ذلك، سيكون من الحكمة أن تشرف الحكومة الانتقالية على عملية إصلاحٍ واسعة لهذه السجون، وأن تفوّض ائتلاف مجموعات المجتمع المدني الذي ذكرتُه آنفًا بقيادة المسعى الوطني لتحقيق العدالة الانتقالية.

وفي السياق السوري الأوسع أيضًا، لا تزال معسكرات الاعتقال قائمة في شمال شرق البلاد، وتخضع لسيطرة قوات سورية الديمقراطية التي يقودها الأكراد. على مدى سنوات، دقّت الأمم المتحدة ومنظمة أطباء بلا حدود ناقوس الخطر إزاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في هذه المعسكرات، بسبب الاحتجاز التعسفي غير المُحدَّد المدّة بحقّ الأشخاص، ولا سيما الأطفال، على خلفية اتهامهم بالانتماء إلى تنظيم الدولة الإسلامية. فمخيّم الهول مثلًا، يضمّ أكثر من 40 ألف سجين، معظمهم زوجات وأطفال مقاتلي التنظيم.

كان تحرير المعتقلين من سجون النظام في كانون الثاني/يناير 2024 مشهدًا مفرحًا بالفعل، إلّا أنه لا يشكّل حلًّا لقضية السجون في سورية، بل يفتح الباب أمام حقبة جديدة ومعقّدة من هذا الملفّ.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.