يصرّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ فوزه بولاية ثانية، على أن بمقدوره تحقيق "السلام" في الشرق الأوسط. وهو صرّح خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في كانون الثاني/يناير الماضي بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، بأنه يستحقّ الحصول على جائزة نوبل للسلام مقابل جهوده. لكنه كشف، في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، هذا الأسبوع عن أن رؤيته للسلام تتمحور فعليًا حول التهجير القسري للفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، وانتهاك القانون الدولي. يعبّر مخطّط ترامب إذًا عن توجّه استعماري توسّعي جديد وعن عقلية تجارية قائمة على الربح لا تنظر إلى غزة باعتبارها موطنًا للفلسطينيين، بل كمشروعٍ عقاري قيّمٍ يُراد منه جذب الاستثمارات الخاصة والمشاريع التنموية.
عَقِب تنصيب ترامب رئيسًا في كانون الثاني/يناير الفائت، دعا علنًا إلى "تطهير" غزة من سكانها، وحثّ مصر والأردن على استقبال الفلسطينيين المهجّرين من القطاع. وعلى الرغم من موجة الإدانات الدولية التي جوبِه بها هذا المقترح، ازداد ترامب تشبّثًا بموقفه خلال مؤتمره الصحافي مع نتنياهو، مُعلنًا مجدّدًا تأييده لفكرة ترحيل الفلسطينيين عن قطاع غزة بشكلٍ دائم، ومشدّدًا على أن لا خيار أمامهم سوى المغادرة للعيش في مكان "جديد وجميل"، من دون إمكانية العودة إلى وطنهم أبدًا. وجدّد ترامب أيضًا مناشداته إلى مصر والأردن ودولٍ أخرى لم يسمِّها، بالموافقة على استضافة الفلسطينيين. بيد أن ردود الفعل الدولية المندّدة بتصريحاته دفعت المتحدّثة باسم البيت الأبيض في 5 شباط/فبراير الجاري إلى محاولة التخفيف من حدّتها، قائلةً إن إخراج الفلسطينيين من غزة سيكون لفترةٍ مؤقتة ليس إلّا.
إذًا، أوضح الرئيس الأميركي أن مقاربته للسلام في الشرق الأوسط لا تتضمّن التوصّل إلى تسوية سياسية. بل، هو يعمَد إلى تجاهل القانون الدولي من خلال الترويج لارتكاب التهجير القسري (الذي يُعدّ جريمة دولية) والتطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين، وكأنهم أصل المشكلة. بتعبيرٍ آخر، تتمثّل رؤيته لتحقيق "السلام" في تصفية القضية الفلسطينية وتقييد الحقوق السياسية للفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم والعيش بحرية وكرامة على أرضهم.
إن مساعي محو الفلسطينيين كشعب بانَت بوضوحٍ في خطاب ترامب الذي عمَد إلى نفي صفة الإنسانية عنهم انطلاقًا من مقاربةٍ عنصرية واستشراقية تجرّدهم من أي دورٍ في تقرير مصيرهم. فقد صوّر ترامب الفلسطينيين وكأنّهم طيّعون خانعون ليس لديهم أي تطلّعات سياسية. وبدا ذلك جليًّا في تصريحه بأن "السبب الوحيد الذي يدفع ]الفلسطينيين[ إلى العودة... هو أنهم لا يملكون أي بديلٍ آخر... وإلّا، فمَن عساه يريد العودة؟" تنمّ مثل هذه الادّعاءات عن جهلٍ فادح بالتاريخ الفلسطيني وبمدى تجذّر الفلسطينيين في أرضهم.
كذلك، أقدَم ترامب على تشويه الحقائق من خلال نزع الأوضاع في غزة من سياقها التاريخي والسياسي واختزال معاناتها بكونها مجرّد فاجعة إنسانية لا جذور تاريخية لها. فهو وصف القطاع بأنه "مكانٌ سيّئ الحظ" عاش فيه الفلسطينيون "وكأنهم في جحيم"، مشدّدًا على أن غزة "ليست مكانًا يمكن للناس أن يعيشوا فيه، ]وإن عادوا إليه[ أضمَنُ أنهم سيموتون". وصوّر "الجحيم" الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة وكأنه حصيلةٌ لا مفرّ منها ناجمة عن كارثة طبيعية مؤسفة ألمّت بهم، متغافلًا عن ثمانيةٍ وخمسين عامًا من الاحتلال الإسرائيلي، وسبعة عشر عامًا من الحصار، ونحو عامٍ وثلاثة أشهرٍ من حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على القطاع بأسلحة ومساعدات عسكرية أميركية. وقد أسفر هذا الفصل الأخير من الصراع عن مقتل أكثر من 61 ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وعن هدم 92 في المئة من الوحدات السكنية في القطاع، وعن التدمير الشامل للبنى التحتية الحيوية، مخلّفًا ملايين الأطنان من الركام والأنقاض التي قد تستغرق عملية إزالتها حوالى عشرين عامًا.
اللافت أن مخطّط ترامب يُعيد إلى الواجهة المطامح التي يتوق إلى تحقيقها منذ زمن طويل اليمين واليمين المتطرّف في إسرائيل. وبالرغم من أن هذه الفكرة بدَت بعيدة المنال في السابق، باتت تتردّد مرارًا على لسان المسؤولين الإسرائيليين. فعلى سبيل المثال، صرّح أرييل كالنر، وهو عضو في الكنيست من حزب الليكود، في أعقاب هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، قائلًا: "في الوقت الراهن، ثمّة هدفٌ واحد هو النكبة. نكبةٌ ستطغى على نكبة 48". كذلك، يدعو وزراء اليمين المتطرّف في إسرائيل، على غرار إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، منذ فترة طويلة إلى تحقيق "الهجرة الطوعية" للفلسطينيين من خلال فرض ظروف معيشية لا تُحتمَل، بحيث يُرغَمون على المغادرة. لذا من غير المفاجئ أن المسؤولين الإسرائيليين شعروا بفرحٍ عامر بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده ترامب مع نتنياهو، متبجّحين بأن بإمكانهم الآن العمل على "دفن الفكرة الخطرة المتمثّلة في إقامة دولة فلسطينية بشكل نهائي". والواقع أنهم ما كانوا ليتخيّلوا أبدًا أن يأتي رئيسٌ أميركي يؤيّد علانيةً فكرة الترحيل الجماعي للفلسطينيين ويناشد بتنفيذها.
لكن مخطّط ترامب لا يهدف إلى استرضاء اليمين الإسرائيلي فحسب، وليس مدفوعًا فقط بتقاربه الإيديولوجي مع إسرائيل، بل ينبع أيضًا من مصالح تجارية ومن ذهنية استعمارية جديدة تنظر إلى غزة بوصفها موقعًا مميّزًا للتطوير العقاري ولجذب رؤوس الأموال الخاصة. وربما صدرت هذه الفكرة عن صهر ترامب، جاريد كوشنر، الذي قال في شباط/فبراير 2024 إن "العقارات على الواجهة البحرية لغزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة". ومنذ بداية العام الجاري، تحدّث ترامب عن أن غزة تزخر بفرص الاستثمار العقاري، مُعرِبًا عن إعجابه بموقعها المطلّ على البحر ومناخها المعتدل. وخلال المؤتمر الصحافي، وصل به المطاف إلى حدّ الإعلان عن أن على الولايات المتحدة "الاستيلاء" على غزة و"امتلاك" تلك القطعة من الأرض، وكأن لا وجود للفلسطينيين فيها، وطرَح رؤية تحويلها إلى منتجع سياحي فخم على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وصفَه بـ"ريفييرا الشرق الأوسط". ومع أنه لم يأتِ صراحةً على ذكر حقلَي الغاز قبالة ساحل غزة، فهما يشكّلان على الأرجح عاملًا إضافيًا يزيد من اهتمامه بالقطاع، على الرغم من دعواته إلى تبنّي سياسة خارجية أميركية انعزالية.
وهكذا، من خلال تصوير مستقبل غزة على أنه جزءٌ من مشروع تجاري بقيادة الولايات المتحدة، ولا مكان فيه للفلسطينيين، بدا ترامب غير ملتزمٍ فعليًا بالمرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي تنصّ على إعادة إعمار القطاع. بدلًا من ذلك، أعاد تعريف هذه العملية بما يصبّ في مصلحة المستثمرين، على حساب أصحاب الأرض الشرعيين، أي الفلسطينيين.
صحيحٌ أن مخطّط ترامب محكومٌ بالفشل بسبب رفض الفلسطينيين القاطع لتهجيرهم قسريًا، بيد أن خطورته تكمن في أنه يجعل من الدعوة العلنية إلى ممارسة التطهير العرقي والقضاء على شعب بكامله أمرًا طبيعيًا، بعد أن كانت فكرةً لا يمكن تصوّرها في السابق. علاوةً على ذلك، قد تسهم التصريحات الصادمة التي أدلى بها ترامب في تشتيت الانتباه عمّا يجري على الأرض، خصوصًا فشل إسرائيل في فرض حلٍّ عسكري في غزة، ولا سيما عجزها عن القضاء على حركة حماس. ولذلك يجب التأكيد على أن التوصّل إلى حلٍّ سياسي وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي هما السبيل الوحيد لكسر هذه الحلقة المفرغة من الحرب والدمار.