يُشكّل البيان الوزاري للحكومة التي يقودها رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام، والذي سوف يسلك طريقه إلى مجلس النواب الأسبوع المُقبل لنيل الثقة، مؤشّرًا إضافيًا على التغييرات الكثيرة التي طرأت على طريقة تعامُل حزب الله مع الواقع اللبناني الجديد. فالبيان لا يأتي على ذكر ثلاثية "الجيش والشعب والمقاومة"، التي وضعت حزب الله على قدم مساواةٍ مع الجيش اللبناني. فقد أكّد كلٌّ من رئيس الجمهورية، جوزاف عون، ومجلس الوزراء برئاسة نواف سلام، وللمرة الأولى، "حق الدولة في احتكار حمل السلاح".
أين يضع هذا الأمر حزب الله والمجتمع الشيعي عمومًا؟ الجواب يحمل مفارقة، وهذا أفضل للبنان من نواحٍ كثيرة. إن الشيعة أحياء يُرزقون، وما زالوا مكوِّنًا أساسيًا في المشهد الطائفي في البلاد، كما يُفترض أن يكونوا. لكن حزب الله مشلول، ويفتقر إلى رؤيةٍ إقليمية أوسع تُبرّر احتفاظه بسلاحه. أما حليفته الرئيسة إيران، فهمُّها الآن إنقاذ نفسها ممّا قد يتحوّل قريبًا إلى عاصفةٍ من التحدّيات الكبرى: ضربة إسرائيلية على منشآتها النووية؛ وعقوبات أميركية متزايدة، لن تُرفع إلّا إذا فكّكت طهران برامجها النووية والصاروخية وقدّمت تنازلات حيال شبكة حلفائها ووكلائها الإقليميين؛ وربما الأخطر من ذلك مسألة خلافة آية الله علي خامنئي بعد وفاته، ما قد يتطلّب فرض شخصية لا تحظى بالشعبية على رأس نظامٍ باتت شرعيته واستمراريته على نحوٍ متزايد موضع شكّ في أوساط الكثير من الإيرانيين.
يدرك كثرٌ من أنصار حزب الله اليوم أنهم لن يحصلوا على تمويل إيراني كبير لإعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل في صراعها مع الحزب على مدى العام الفائت. وحين أعلن أمين عام حزب الله، نعيم قاسم، في 16 شباط/فبراير أن من "واجب الدولة أن تعمل على إعادة الإعمار"، لأن "ما هدّمته إسرائيل هدّمته في الدولة اللبنانيّة"، أكّد بشكلٍ غير مباشر على أن أتباع حزب الله لا يجب عليهم الاعتماد على طهران لتغطية تكاليف إعادة الإعمار. وأثار أيضًا غضب الكثير من اللبنانيين الذين سئموا ببساطة تقديم التضحيات من أجل إعادة إعمار ما يواصل الحزب تدميره في حروبه.
إن القرار الذي اتّخذه حزب الله بفتح ما عُرف بـ"جبهة الإسناد" دعمًا لغزة، نمّ عن سوء تقدير فادح وغطرسة، إذ تجاهل الحزب تمامًا افتقاره إلى الدعم المحلّي في إقدامه على هذا الفعل المتهوّر. واليوم، أصبح العداء في أوساط اللبنانيين لعنجهيّة حزب الله واسع النطاق، بحيث بات الحزب وبيئته الحاضنة معزولَين. ولم يكن الحال على هذا المنوال دومًا. ففي العام 2005، أدرك الحزب الله أن انسحابَ القوات السورية يُهدّد نفوذه، فتجنّب العُزلة من خلال فتح قنواتٍ مع التيار الوطني الحر بقيادة ميشال عون. وسمح له ذلك بشنّ هجومٍ مُضادّ على النظام اللبناني الذي جسّده تحالف 14 آذار بعد الانسحاب السوري، وبإحكام سيطرته على البلاد، خصوصًا بعد انتخابات العام 2009 وإسقاط حكومة سعد الحريري في العام 2011.
لم يَعُد هذا المسار ممكنًا مع زعزعة حزب الله وإضعافه، وخسارة ما يُعرَف بمحور المقاومة سورية، وإدارة لبنان عمليًا من خلال شكلٍ من أشكال الوصاية الإقليمية والدولية. وقد فشل مشروع إيران القائم على تسليح وتعزيز شبكة إقليمية من القوى غير الحكومية لتحقيق مصالحها وتطويق إسرائيل بحزام من النار. هذا وقد اغتيل اثنان من واضعي هذا المخطّط، حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، وقاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي الإيراني. ثم إن إيران تفتقر إلى الأموال اللازمة لإعادة إحياء هذا المشروع الشبيه بقلعةٍ رمليةٍ أسّستها في مجتمعات عربية غير مستقرّة ومتشظّية، مثيرةً بذلك استياءً كبيرًا جرّاء إلحاق خرابٍ واسع بالبلدان.
في هذا السياق، هل لا يزال من فائدةٍ لسلاح حزب الله؟ لاستخدامه ضدّ إسرائيل؟ إن ذلك غير ممكن واقعيًا. فلماذا إذًا؟ لاستخدامه ضدّ اللبنانيين الآخرين؟ حاول الحزب ذلك في العام 2008، فتسبّب بعداءٍ دائمٍ لم يتمكّن قطّ من التغلّب عليه، ولن يؤدّي هذا النهج اليوم سوى إلى صراعٍ مسلح يضرّ بسمعة حزب الله بصورة دائمة ويقسم مجتمعه، إذ إن الكثير من الشيعة ليس لديهم أيّ نيّة لقتال أبناء وطنهم. وبالفعل، إن أساليب الترهيب التي استخدمتها مجموعاتٌ من الشبّان الذين جابوا بالدرّاجات النارية مناطق لبنانية لا يسيطر عليها الحزبان الشيعيان الرئيسان أتت بنتائج عكسية قبل بضعة أسابيع، إذ هاجمهم السكان المحليون في مناطق عدّة. وقرار إحراق مركبات تابعة لقوات اليونيفيل في نهاية الأسبوع الماضي تسبّب أيضًا بإحراجٍ لكلّ من حزب الله وحركة أمل، وإن كان غير واضحٍ ما إذا كان الحزب قد شجّع على ذلك، أو ما إذا بات عاجزًا عن التحكّم بمجتمعه بالقدر نفسه من الصرامة كما في السابق.
إذًا، نظرًا إلى هذا الوضع المزري، ما الخيارات المتاحة أمام الطائفة الشيعية؟ أينما نظر الشيعة، رأوا أن الظروف ليست لصالحهم. ففي سورية المجاورة ثمّة صحوة سنّية بعد نحو 62 عامًا من حكم الأقلّية، في حين أن اللاعب الإقليمي الرئيس اليوم هو تركيا، التي حقّقت تقدّمًا كبيرًا في المشرق وآسيا الوسطى. سيؤثّر لذلك من دون شكّ على الديناميات في لبنان. فلن يكون مفاجئًا إذا ما وجد الشيعة قريبًا قضيةً مشتركةً مع المسيحيين في البلاد، وأقاموا معهم تحالفًا سياسيًا دفاعيًا لتحقيق ثقلٍ موازن مقابل السنّة.
قد يكون الوقت مناسبًا الآن ليبدأ قادة لبنان في التفكير في تنظيم منتدى وطني حول مستقبل البلاد والعلاقات بين الطوائف، يرمي إلى وضع عقد اجتماعي جديد ليحلّ محل النظام اللبناني المعطّل. وثمّة نصٌّ واحد فقط يمكن أن يشكّل أساسًا لمثل هذا النقاش، وهو اتفاق الطائف للعام 1989، حتى لو كان الهدف تجاوز الطائف وتحديثه. ونظرًا إلى أن جميع الطوائف الرئيسة، أي السنّة والدروز والموارنة والشيعة، واجهت في وقتٍ من الأوقات هزائم حاسمة بسبب تحالفاتها مع جهات خارجية، يجب أن تكون القوة الدافعة لهذا المسعى التوحّد حول مبدأ لبنان أولًا للجميع.
بإمكاننا أن نتساءل عمّا إذا كانت الطبقة السياسية في البلاد، التي لطالما كانت مصدرًا للجمود المُعوِّق، قادرةً على أن تقود مثل هذه النهضة للجمهورية. لحسن الحظّ ربما، يصدف أننا في خضمّ مرحلةٍ انتقاليةٍ في قيادة البلاد. فزعماء الميليشيات القدامى، الذين نقلوا هيكل السلطة من زمن الحرب إلى زمن السلم في العام 1990، هم إمّا في طريقهم إلى الخروج من المشهد، أو في صدد تسليم السلطة لأبنائهم، أو أنهم ماتوا. قد يكون الورثة سيّئين مثل آبائهم، وقد لا يكونون. إن النظام السياسي الذي ورثوه ليس لهم فعليًا، وربما يكون من الصعب جدًّا عليهم مقاومة إغراءات النجاح بعد عقودٍ أصبح فيها لبنان دولةً شبه فاشلة.
في كتابٍ وضعتُه قبل عقد ونصف من الزمن، قلتُ عن حزب الله والشيعة ما يلي: "حزب الله هو نتيجةٌ لعجز لبنان عن بناء دولة قوية، وعاملٌ معزّزٌ لهذا العجز. ولكن قد تكمن هنا مفارقةٌ للمستقبل: وهي أن الحزب، بتشكيله انعكاسًا صارخًا لأوجه قصور الدولة، قد يدفع اللبنانيين الذين يشعرون بعدم الارتياح تجاهه إلى التفكير بمزيدٍ من الحرص في الدولة التي يريدونها حقًا، وإيجاد السبل الكفيلة بجذب غالبية الشيعة إلى مشروع يحقّق تطلعاتهم ويشجّعهم على النظر إلى ما هو أبعد من حزب الله".
ربما يكون الاقتباس من الذات مبتذلًا، ولكنه يُظهِر أن انشغالات لبنان لم تتغيّر كثيرًا. ليس كافيًا شطب حزب الله من المعادلة والقول إن مشاكل البلاد انتهت. فكل ما فعلته هزيمة الحزب أمام إسرائيل هو إتاحة فرصةٍ لوضع الأساس اللازم للدولة التي نرغب فيها حقًا، والتفكير في آليةٍ قادرةٍ على تحييد الطبقة السياسية التي تريد إبقاء الأمور على ما هي عليه. لا ضير من أن يبدأ لبنان نفسه فجأة يركّز على فكرة التجديد الوطني الكبرى.