في شهر كانون الثاني/يناير، عيّن رئيس الجمهورية اللبنانية المُنتخَب حديثًا، جوزاف عون، نواف سلام رئيسًا للوزراء بعد إتمام الاستشارات النيابية. وبعد ثلاثة أسابيع ونيّف، وعقب عامَين أدارت فيهما حكومة تصريف الأعمال البلاد، كشف سلام عن حكومةٍ مؤلّفةٍ من 24 وزيرًا، متعهّدًا بإعطاء الأولوية للإصلاحات المالية، وإعادة الإعمار ما بعد الحرب، وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، الذي جرى التوصّل إليه في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والذي يهدف إلى إرساء الاستقرار على حدود لبنان الجنوبية.
لطالما كان سلام، وهو الدبلوماسي والقاضي المعروف بمسيرته المهنية المتميّزة، مناصرًا صريحًا للإصلاح الموسَّع الذي لا يقتصر على تحدّيات لبنان الأكثر إلحاحًا فحسب. فكتابه "لبنان بين الأمس والغد" يطرح خارطة طريق للحكم والتغيير المؤسّسي، ويقدّم رؤى ثاقبة للمبادئ التي قد تقوم عليها ولايته. وبينما يقف لبنان أمام تحدّيات جسيمة، تتمثّل في إعادة تأكيد سيادته، ومعالجة الانهيار الاقتصادي، والتعامل مع انعدام الاستقرار الإقليمي، يُرجَّح أن يُحكَم على قيادة سلام في ضوء المبادئ التي طرحها في كتابه.
يستعرض كتاب "لبنان بين الأمس والغد"، الذي صدر في الأصل باللغتَين الفرنسية والعربية في العام 2021، ثم تُرجِم إلى الإنكليزية في العام 2023، تاريخَ لبنان الحديث مُستشرِفًا الآفاق المستقبلية المحتملة للبلاد. نُشر الكتاب في أعقاب حراك العام 2019 الاحتجاجي، ولكن قبل أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 والحرب التي تلتها بين إسرائيل وحزب الله، وهو ينظر في أوجه الخلل السياسي في لبنان، والتغييرات الهيكلية اللازمة للحؤول دون المزيد من التدهور. ويقيّم سلام، من خلال مجموعة مقالات كتبها على مدى عقود، نظامَ تقاسم السلطة الطائفي في البلاد، ويدعو إلى إجراء إصلاحٍ دستوري، متناوِلًا مسار لبنان بدءًا من الاستقلال ووصولًا إلى أزماته الحالية.
يقدّم سلام تحليلًا يتمحور حول مواضيع رئيسةٍ تُمثّل التحدّيات السياسية والمؤسّسية المتواصلة التي يواجهها لبنان. ويشرّح الهوية التاريخية للبنان باعتباره حاضنًا لمجتمع تعدّديّ تَشكَّل من خلال سردياتٍ متنافسةٍ منذ إنشاء لبنان الكبير في العام 1920. ومن أبرز النقاط التي يطرحها نقدُه للطائفية بوصفها السبب الجذري للمواطَنة اللبنانية "المنقوصة". فوفقًا لسلام، حالت هيمنة الطوائف، التي يحافظ كلٌّ منها على بقائه من خلال "سرديّات وهمية"، دون تبنّي اللبنانيين بشكل كامل هويةً وطنيةً موحّدة.
ويرى سلام أن الطائفية أصابت مؤسسات الدولة بالشلل، محوّلةً إيّاها إلى أدوات لممارسة المحسوبية السياسية لا للحكم. فعوضًا عن توفير خدمات عامة متكافئة للمواطنين، تعتمد الدولة على زعماء الطوائف لملء الثغرات، فتُفاقم بذلك التبعية الطائفية، وتتسبّب بتقويض اللُحمة الوطنية أكثر. ويشدّد سلام على ضرورة أن يتّجه لبنان نحو إرساء دولة حديثة تتمسّك بحكم القانون وتضمن الحريات الأساسية. ويشير مقتبِسًا عن عالم الاجتماع إميل دوركهايم إلى أن "الدولة كلما كانت أقوى، ازداد احترام الفرد"، مُعتبِرًا أن هذه الملاحظة تنطبق بشكلٍ خاص على بلدٍ غالبًا ما تطغى فيه الولاءات الطائفية على الهوية الوطنية.
يتناول سلام في كتابه أيضًا تاريخ الصراع في لبنان، خصوصًا الحرب الأهلية بين العامَين 1975-1990 وتداعياتها المستمرة، محذّرًا من أن لبنان سيظلّ عرضةً للاضطرابات الإقليمية ما لم يحلّ توتّراته الداخلية. وبينما يعزو أسبابَ الحرب أساسًا إلى المظلوميّات المحلية، ولا سيما انعدام المشاركة الذي أثار استياء الفصائل اليسارية والمسلمة في المقام الأول داخل النظام السياسي الذي كان يهيمن عليه المسيحيون آنذاك، يقرّ أيضًا بدور العوامل الخارجية، مثل وجود "حركة المقاومة الفلسطينية" في لبنان بعد العام 1969.
ويشرّح سلام تبعات الحرب، مُقيّمًا اتفاق الطائف للعام 1989، الذي أنهى الصراع، ولكنه فشل برأيه في إرساء أُسُسٍ مستدامةٍ للحكم. وبالرغم من أن الاتفاق عزّز المحاصصة الطائفية، ينظر إليه سلام على أنه خطوة ضرورية ولكن غير مكتملة نحو الإصلاح، مؤكّدًا على وجوب إعادة النظر في أحكامه غير المُطبَّقة، بما فيها اللامركزية الإدارية، وتعزيز القضاء، وتشكيل لجنة وطنية لاقتراح خطوات لإلغاء الطائفية السياسية. ويرفض سلام المقترحات التي تنادي باعتماد لبنان الفدراليةَ القائمة على الطائفية، وهي فكرةٌ عادت إلى الظهور في الخطاب السياسي اللبناني، معتبرًا إيّاها غير واقعية، علمًا أنه يتبنّى وجهة النظر نفسها تجاه التقسيم.
وإذ يتطلّع سلام إلى ما بعد اتفاق الطائف، يتصوّر نظامًا سياسيًا جديدًا يتجاوز القيود الطائفية، ويعزّز المشاركة الديمقراطية الحقيقية. كذلك يشدّد سلام على الإصلاح القضائي، مؤكّدًا على أن نظام العدالة في لبنان مشلول بسبب التدخّلات الطائفية. فيكتب قائلًا: "إن اتهام موظّف حكومي رفيع أو حتى محاولة اتهامه بارتكاب فعلٍ منافٍ للقانون قد يُصوَّر على أنه هجوم على الطائفة التي ينتمي إليها". ويتجلّى هذا التحدّي اليوم في القضايا الوطنية الكبرى، مثل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، حيث قُوّضَت الآمال في تحقيق المساءلة بسبب العرقلة السياسية والمصالح الطائفية.
ويشكّل الإصلاح الانتخابي ركيزةً أخرى من ركائز الرؤية التي يقدّمها سلام. فهو يؤيّد التمثيل النسبي والدوائر الانتخابية على أساس المحافظة بدلًا من القضاء، إلى جانب نظام التصويت التفضيلي (المُوسَّع من خيار واحد، كما هي الحال اليوم، إلى خيارَين أو أكثر)، الذي يعزّز الولاءات الوطنية لا الطائفية. ويقترح سلام أيضًا إصلاحاتٍ إضافية، منها خفض سنّ الاقتراع من واحد وعشرين إلى ثمانية عشر عامًا، والسماح للمواطنين بالاقتراع في أماكن إقامتهم أو عملهم، إضافةً إلى قراهم الأصلية. تكتسب هذه الإصلاحات المحتملة أهميةً إضافيةً مع استعداد لبنان لخوض استحقاق الانتخابات النيابية في العام 2026، التي ستكون حكومة سلام مسؤولةً عن تنظيمها.
إذا كان للكتاب أيّ دلالة، وإذا بقي سلام في السلطة لمدّة كافية، فغالب الظنّ أن ولايته ستركّز على تقوية الدولة على حساب هياكل السلطة الطائفية، وضمان استقلالية القضاء، وتعزيز اللامركزية. ولكنه الآن وقد أصبح رئيسًا للوزراء، يواجه تحدّيًا يتمثّل في ترجمة أفكاره إلى سياسات. يدلّ نهجه في تشكيل الحكومة على التزامٍ هادئ ولكن حازم بالمبادئ الموضَّحة في كتابه "لبنان بين الأمس والغد". فاختياره للوزراء والسرعة التي شكّل بها حكومته يشيران إلى تفضيله الحسمَ على المساومات السياسية المديدة. واللافت أن أحد مقترحاته الإصلاحية تعديلٌ يُلزِم رئيس الوزراء المُكلَّف بتقديم تشكيلته الحكومية في غضون 30 يومًا من تكليفه، وإلا يُعَدّ مستقيلًا. وإثباتًا لالتزامه بهذا المبدأ، اقترح سلام حكومةً خلال 26 يومًا من تكليفه (بعد 30 يومًا من انتخاب عون).
مع ذلك، يُشكّل غياب الرؤية الاقتصادية الواضحة ثغرة كبرى في كتابه. ففيما يقدّم سلام تقييمًا ثاقبًا للنظام السياسي في لبنان، لا يذكر إلا القليل عن الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لدعم أجندته الأوسع لبناء الدولة. وهذا الإغفال يترك جزءًا بالغ الأهمية من لغز التعافي في لبنان من دون حلّ.
يستهلّ سلام كتابه باقتباس من أنتونيو غرامشي: "العالم القديم يحتضر، والجديد لم يولد بعد؛ وفي هذه الأثناء تظهر أعراضٌ مَرضيّة عظيمةٌ في تنوّعها". وبالفعل، إن النظام اللبناني ما بعد الطائف يتداعى، وتقف البلاد عند مفترق طرق. فهل ينجح سلام في تشكيل لبنان الجديد وفقًا لرؤيته، أم إن رئاسته للحكومة ستصبح فصلًا آخر من دوّامة الجمود السياسي السقيمة التي تعاني منها البلاد؟ سيُحكَم على قيادته في نهاية المطاف استنادًا إلى المثل العليا التي ينادي بها في كتابه، ومدى قدرته على التعامل مع الحقائق السياسية المتجذّرة في لبنان.