حينما يكون المرء في طريقه إلى زيارة سورية، يبدأ حُكمًا بتشكيل الانطباعات قبل عبور الحدود. لكن ما إن يدخل أراضيها حتى يرى السوريين على طول الطريق السريع يبيعون مادّتَي البنزين والمازوت بعد شرائهما من لبنان، في مشهدٍ مليءٍ بالدلالات: فالعقوبات ما زالت ترخي بظلالها على البلاد، ويسعى السوريون إلى تحقيق هامشٍ بسيط من الربح من خلال إعادة بيع هذه المنتجات بسعرٍ أعلى في بلدهم.
قد يبدو للوهلة الأولى وكأن شيئًا لم يتغيّر في سورية، لكن يكفي أن يلقي المرء نظرةً معمّقة حتى يتبيّن له العكس. لقد تبدّل المشهد الحدودي بالفعل، إذ يُشرف الآن عسكريون ومسؤولون، ملتحون بمعظمهم، على المعابر الحدودية مع لبنان، حيث يطبّقون قواعد صارمة، رافضين أي شكلٍ من أشكال الرشوة، وهو أمرٌ مختلف تمامًا عمّا كان سائدًا في ظل حكم الأسد.
في دمشق، يرى المرء مدينةً كأن عقارب الزمن توقّفت فيها. تبدو مبانيها متهالكةً على نحو واضح والشوارع مليئة بالسيارات القديمة. والفنادق ليست أفضل حالًا. فقبل أن تنسحب الشركات العالمية من سورية بسبب العقوبات، كانت هذه الفنادق ترتبط بأسماء عالمية مرموقة، بيد أنها تحوّلت الآن إلى مجرّد قوقعة فارغة لا تشبه ماضيها العريق. هذا وتُعدّ الخدمات الأساسية مثل المياه الساخنة والتدفئة والاتصال بالإنترنت من الكماليات، حتى في أغلى أماكن الإقامة. وتكشف شوارع المدينة بشكلٍ صارخ ما كان مخصَّصًا للعامة وما كانت تستأثر به عائلة الأسد ودائرة المقرّبين منها. فالمنازل والمتاجر والمرافق العامة تُظهر ملامح مرور الزمن، إلى أن تصل إلى المناطق المرتبطة بآل الأسد، حيث يحلّ الرخام المصقول والواجهات الزجاجية والأرصفة المزخرفة محلّ الأبنية المتداعية في سائر الأماكن. وفيما استولت السلطات الجديدة على بعض المباني التي كانت مقرّاتٍ لمؤسسات الدولة وحزب البعث، ما زال بعضها الآخر مهجورًا وخاويًا لا حياة فيه. في غضون ذلك، تقف الشعارات التي لا تزال تزيّن بعض هذه المباني – ومنها شعار "الأسد إلى الأبد" بمختلف تنويعاته – شاهدةً، في مفارقةٍ ساخرة، على غطرسة الحكم الاستبدادي.
في الشوارع جنودٌ شباب بالكاد تجاوزوا سنّ المراهقة، ينتشرون بأعداد صغيرة في مناطق مفتوحة، ويبدو افتقارهم للخبرة واضحًا. يسلّط وجودهم الضوء على الضغوط السياسية والعسكرية والأمنية التي تواجهها الإدارة الجديدة، التي يتعيّن عليها الاعتماد على هؤلاء الشباب لإدارة العاصمة السورية. ويرفض المسؤولون في النظام الجديد الاتهامات بأن إدارتهم انعزالية، بل يجادلون بأنها شاملة للجميع ويقدّمون أمثلةً عدّة على ذلك. لكنهم يعترفون باتّباع نهجٍ حذر ومدروس في التعيينات وعملية اتخاذ القرارات. وسواء كان ذلك ناجمًا عن حرصٍ وتريّث أو عن استراتيجية متعمَّدة لإحكام السيطرة على السلطة، فهو أدّى إلى انعدام المرونة وبطء في الاستجابة، وربما هذه نتيجةٌ لا مفرّ منها في مثل هذا التوقيت الحسّاس الذي تعيشه البلاد.
في غضون ذلك، يواصل السوريون، الذين أضنتهم الحرب، أداء أنشطتهم اليومية قدر المستطاع. وتتجلّى هذه القدرة على التكيّف خير تجلٍّ في دمشق القديمة، حيث تمضي الحياة قدمًا بالرغم من ثقل الإرث التاريخي والمشقّات التي تكبّدها السوريون. ومع أن سورية شهدت تحوّلات متسارعة على مدى السنوات الأخيرة، حافظت المدينة القديمة على سحرها الخالد. فالمعالم العريقة متناثرة في كل زاوية من زوايا المدينة، وعلى الرغم من الصعوبات الاقتصادية، وأضواء الشوارع الخافتة ليلًا، والندوب الطائفية التي خلّفتها الصراعات السابقة، لا تزال روح المدينة تنبض بالحياة. فالمتاجر تفتح أبوابها، والناس يمضون في حال سبيلهم، مُتعايشين مع بعضهم البعض على اختلاف أديانهم وطوائفهم – ولا يعود الفضل في ذلك إلى الدولة، بل إلى نسيجٍ اجتماعي متجذّر لطالما حافظ على لحمة المدينة وتماسكها.
لكن التناغم الاجتماعي والمعماري داخل الأسوار التاريخية للمدينة يشوبه الإهمال من جهة، ومجمّع فاطمة الزهراء في حي الشاغور من جهة أخرى. لقد شيّد الإيرانيون وميليشياتهم هذا المبنى الضخم في العام 2015 ليكون المقرّ المركزي لعملياتهم في المدينة القديمة، بيد أنه لا يندمج مع محيطه لا في الشكل ولا في الغاية، إذ يشكّل محاولةً لتغيير المشهد الحضري التاريخي لدمشق القديمة.
وسُرعان ما يتبدّد الشعور بالتلاحم والأمان السائد في دمشق القديمة ما إن يخرج المرء إلى القرى والبلدات المحيطة. هناك، تظهر جليّةً التداعيات المدمّرة للبراميل المتفجّرة التي استخدمها النظام السابق، إذ تحوّلت أحياءٌ بأكملها إلى أنقاض. لكن الدمار لم يتوقّف مع انتهاء القصف، بل تدخّلت شركاتٌ تابعة للحكومة وحصلت على عقودٍ لهدم تلك المناطق وإعادة إعمارها. لكن عملية إعادة الإعمار هذه كانت أقرب إلى هندسة ديموغرافية لإعادة إحلال مجتمعاتٍ محلية موالية للنظام في المناطق المحيطة بالعاصمة. ويصرّ سكان تلك المناطق على أن المعركة لم تكن عسكرية أو سياسية فحسب، بل كانت مسعًى متعمّدًا لتغيير التركيبة السكانية في المناطق المجاورة للعاصمة وإحاطة السكان الأصليين بأشخاص غرباء عنهم لا يعرفون تاريخهم وتقاليدهم.
وعلى الرغم من فرحة السوريين بسقوط نظام الأسد، لا يتوانون عن انتقاد القيادة الجديدة. لكنهم يميّزون بين النقد البنّاء - أي الحثّ على تحقيق التعافي الاقتصادي السريع، والاندماج السياسي والاجتماعي الأوسع نطاقًا - وبين الدعوات إلى إطلاق شرارة ثورة جديدة، الأمر الذي يرفضونه بشدّة. فهذه القدرة الجديدة على توجيه الانتقادات إلى القيادة السورية بحريةٍ، في المقاهي والأماكن العامة، هي في حدّ ذاتها تحوّلٌ ثوري. ومع تراجع الدعم للحكومة الجديدة، ما زال الارتياح هو الشعور الطاغي بعد التحرّر من حكم الأسد.
لكن أيُّ شكوكٍ ساورت السوريين حول قيادتهم الجديدة سُرعان ما تبدّدت بعد مقتل ثلاثة عشر عنصرًا من قوات الأمن العام في كمينٍ نفّذته مجموعةٌ من فلول النظام السابق في أوائل شهر آذار/مارس الجاري بالقرب من مدينة جبلة في ريف محافظة اللاذقية. فحينما انتشر هذا النبأ، انتاب القلقُ فجأةً شريحةً كبيرة من الناس الذين اعتقدوا أن فلول النظام السابق قد تمّ إسكاتهم إلى الأبد، وتأجّجت من جديدٍ المخاوف من عودة حكم الأسد، ربما بدعمٍ أجنبي. واقع الحال أن غالبيةً من السوريين تعتبر أن الحفاظ على الحرية التي استعادوها مؤخرًا مسألة وجودية. ربما كانت الإطاحة بالنظام سريعةً، لكنها لم تمحُ بعد أكثر من نصف قرنٍ من القمع من ذاكرة السوريين الجماعية.
أدّى هذا المزاج، ومعه الشعور باستعادة الحيوية والقدرة، الذي طال انتظاره، إلى زيادة التعبئة الدينية على نحوٍ غير مسبوق وتصاعد حدّة التوترات الطائفية. فقد حثّت خطب المساجد في مختلف القرى والمدن السورية، الشبابَ على الانضمام إلى صفوف "المجاهدين"، كما حثّت المواطنين على دعم القيادة الجديدة بكل الوسائل المتاحة. ورُفِعت أدعيةٌ ترجو إنزال العقاب الإلهي بفلول نظام الأسد، حتى إن البعض رأى أن العقاب يجب أن يطال جميع العلويين. وقد سلك هذا الغضب منعطفًا خطيرًا عندما تحوّل إلى انتقام عشوائي ضدّ الطائفة بأكملها، ما أسفر عن مقتل ما قُدِّر بالمئات من أبنائها. وفي خضمّ هذا الجو الطائفي المشحون، شدّد البعض قائلين: "لن يحكم علويٌّ سنيًّا في سورية مجدّدًا".
أمّا التطور اللافت فكان الدعم الذي حظيت به القيادة الجديدة لا في الأوساط السلفية فحسب، بل أيضًا في الدوائر الصوفية ذات الحضور الديني القوي في المدن السورية. فقد بدا بعض مشايخ الصوفية، الذين يُعتبَرون تقليديًا أقل انخراطًا على المستوى السياسي، أكثر حماسةً حتى من نظرائهم السلفيين في دعم الحكومة الجديدة. فهم يشاركون المواطنين العاديين في موقفهم الرافض لعودة النظام السابق بأي شكلٍ من الأشكال.
مع ذلك، عارض الكثير من السوريين عمليات القتل الطائفي التي ارتُكبت بحقّ العلويين في المناطق الساحلية السورية وريفها. وقد أبدى النظام الجديد انفتاحه على إجراء مراجعة ونقد ذاتي من خلال تشكيل لجنة للتحقيق وتقصّي الحقائق في أحداث الساحل السوري، غير أن الاختبار الحقيقي يكمن في مدى جديّة عملها، فضلًا عن إعطاء ضمانات بعدم تكرار مثل هذه الأحداث مجدّدًا.
وكانت لهجمات فلول نظام الأسد تأثيراتٌ في أماكن أخرى. ففي الجنوب السوري، وضع الزعيم المحلي أحمد العودة، الذي لم يكن يعترف حتى الحين بقيادة أحمد الشرع، خلافاته جانبًا للتعاون مع السلطات الجديدة. وأدّى نشر قواته دورًا حاسمًا في منع التنسيق المُحتمل بين بعض الفصائل الجنوبية وفلول النظام في المناطق الساحلية. وهكذا، تمكّنت القيادة في دمشق من الحؤول دون حدوث تمرّدٍ في الجنوب السوري في هذه المرحلة الدقيقة.
أصبح معظم السوريين أكثر صلابةً خلال سنوات حكم الأسد الطويلة، ولا سيما في العقد الأخير الذي انطبع بدعم إيران للنظام وانتهاجها سياسات طائفية في البلاد، ما يدفعهم الآن إلى التمسّك بالحكومة الجديدة بإصرار اليائس. إذًا، يحاول الكثير من السوريين الترفّع عن الخلافات الداخلية، خصوصًا في وجه التهديدات المحلية أو الخارجية. لذا، على الرغم من الانتقادات الواسعة النطاق المندِّدَة ببطء وتيرة الإصلاح الاقتصادي والطابع المُغلَق لعملية صنع القرار السياسي لدى القيادة الجديدة، غالب الظن أن يعمَد السوريون إلى تنحية إحباطاتهم جانبًا كلّما تعرّضت سورية إلى الخطر.
يرى معظم الناس أن الوضع الراهن يضعهم أمام خيارَين: إما الوقوف مع أحمد الشرع، أو المخاطرة بالعودة إلى شكلٍ من أشكال النظام القديم، بكل تبعاته السياسية والاجتماعية والطائفية. ومع أن كثرًا قد لا يؤيّدون قيادة الشرع بالكامل، هم لا يرون بديلًا عنه. ونظرًا إلى هذا الواقع، يُعرب الكثير من السوريين اليوم عن دعمهم للسلطات الجديدة، آملين في تحقيق الاستقرار والتطوّر - حتى إن القيادة الجديدة نفسها لا تبدو بعيدةً عن تبنّي هذه الرؤية.
مع ذلك، إن التحديات التي تواجهها سورية ليست بسيطةً إطلاقًا. وثمّة عوامل متعدّدة، مثل النوازع الانفصالية والتدخّلات الخارجية والعقوبات، فاقمت المقاربة الحذرة، ما ساهم في عرقلة التقدّم وتضييق دائرة الحكم. لذا، يكمن الهدف الأهم للنظام السوري الجديد في إدارة المشاكل الداخلية وحلّها، لجني ثمار الدعم غير المسبوق الذي يحظى به.