المصدر: Getty
مقال

قراءةٌ في فنجان المشهد الطرابلسي

تشكّل الانتخابات البلدية في عاصمة الشمال إيذانًا بتحوّلٍ في المجتمع السنّي.

 عصام القيسي
نشرت في ٢٢ مايو ٢٠٢٥

في لبنان المتأرجح بين الأساليب القديمة والفرص الجديدة، قد تبدو الانتخابات المحلية في إحدى أكثر مدن البلاد تهميشًا وكأنها مسألةٌ ثانوية. لكنها ليست كذلك. فقد قدّمت الانتخابات البلدية التي شهدتها طرابلس في 11 أيار/مايو 2025 لمحةً عن حال السياسة اللبنانية، وعبّرت عن معارضة هادئة إنما متصاعدة ضدّ المنظومة الحاكمة المُنهكة.

منذ بدء الأزمة المالية اللبنانية في العام 2019 والبلاد عالقةٌ في دوّامةٍ من الانهيار الاقتصادي والمؤسّساتي. وقد فاقمت الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله حالة الشلل السائدة، ما سلّط الضوء أكثر على عجز الدولة عن الحكم أو الاستجابة للتحديات. في ظلّ هذا الفراغ، كان يمكن للبلديات اللبنانية، لو كانت فعّالة ومزوّدة بالموارد الكافية، أن تؤدّي دورًا حيويًا في دعم المجتمعات المحلية. لكن معظمها لم يكن قادرًا على ذلك. واليوم، باتت بلديات مثل بلدية طرابلس أيضًا ميدانًا للتجارب السياسية.

يُفترض بالمجالس البلدية إدارة شؤون المواطنين اليومية، وبالتالي تقع مسؤولياتها في صميم عمل الدولة على المستوى المحلي، مثل تحسين شبكة الطرقات والصرف الصحي، وتجميل المساحات العامة، والانخراط في التنمية الاقتصادية المحلية. ولكن عمليًا، يفتقر معظم المجالس البلدية إلى التمويل اللازم للاضطلاع بهذه الأدوار، ولا سيما اليوم في ظلّ الخلل العميق الذي يعتري الدولة. وعلى خلاف الانتخابات التشريعية، فإن الاستحقاق البلدي لا يخضع للنظام الطائفي من الناحية التقنية، إذ لا يتمّ توزيع المقاعد على أساس المحاصصة، ويُنتخب أعضاء المجالس البلدية لمدة ست سنوات.

وصل عدد البلديات في لبنان إلى أكثر من ألف بلدية، إلا أن قلّةً منها تحمل الثقل الرمزي والسياسي الذي تتحلّى به طرابلس. ويُعزى ذلك جزئيًا إلى أنها ثاني أكبر مدن لبنان وأحد معاقل الطائفة السنيّة، إذ يشكّل السنّة أكثر من 80 في المئة من ناخبيها. ومع أن طرابلس تتصدّر معدّلات الفقر والبطالة وتردّي البنية التحتية في لبنان، تبقى مدينةً تنطوي على قدرٍ كبير من الإمكانات غير المستثمرة. فهي تحتضن إرثًا غنيًا خلّفه العثمانيون والمماليك والفرنجة، وتتميّز بموقعٍ مُلفت على ساحل البحر الأبيض المتوسط، كما تزخر بسكانها الذين أبدوا زخمًا سياسيًا، ولا سيما خلال الانتفاضة الشعبية التي شهدها لبنان في العام 2019. مع ذلك، عانت طرابلس من الإهمال على مدى عقودٍ من الزمن، ولم يكن ذلك وليد الصدفة أو نتيجة حظٍّ عاثر، بل نتيجة إهمالٍ سياسيّ ممنهج.

من هذا المنطلق، حملت الانتخابات البلدية هذا العام دلالاتٍ مهمة. فللمرة الأولى منذ تسع سنوات، وبعد تأجيل هذا الاستحقاق ثلاثَ مرّات متتالية، أدلى أهالي طرابلس بأصواتهم في الانتخابات المحلية. وكانت النتائج متقاربة في ظلّ أجواء انتخابية مشحونة، ما يُنبئ باحتمال حدوث تحوّل في المشهد السياسي السنّي، ويعيد إلى الواجهة السؤال عمّا إذا كانت أيٌّ من القوى السياسية البديلة قادرة على تحقيق النجاح داخل المجتمع الطرابلسي.

في الواقع، أظهرت دورة الانتخابات البلدية السابقة في العام 2016 تراجع هيمنة الأحزاب التابعة للمنظومة السياسية التقليدية. آنذاك، حصدت اللائحة المدعومة من وزير العدل السابق أشرف ريفي 16 مقعدًا من أصل 24 مقعدًا في المجلس البلدي، مُطيحةً بتحالف واسع بين القوى السياسية التقليدية، من ضمنهم مرشّحين مدعومين من رئيسَي الوزراء السابقَين سعد الحريري ونجيب ميقاتي، ومن عائلات سياسية معروفة مثل عائلة كرامي. سلّطت هذه النتيجة الضوء على تحوّل لافت: فقد خسرت المنظومة السياسية التقليدية ما يكفي من الأصوات، الأمر الذي أتاح لريفي فرصة توحيد الأصوات الاحتجاجية التي كانت مبعثرة سابقًا. لكن المجلس دخل حالةً من الشلل في نهاية المطاف إذ وقعت إشكالات قانونية حول رئاسته.

والآن في العام 2025، تبدّل المشهد من جديد. هذه المرة، انضمّ أشرف ريفي، الذي انتُخب نائبًا في البرلمان اللبناني، إلى القوى نفسها التي كان يعارضها سابقًا. فبعد الفراغ الذي أحدثه انسحاب الحريري من الساحة السياسية، أعادت القوى السنّية التقليدية رصّ صفوفها في لائحة "رؤية طرابلس"، المدعومة من النوّاب أشرف ريفي وفيصل كرامي وطه ناجي وكريم كبارة، الذين يمثّلون التيّارات السياسية المتجذّرة في المدينة، من العائلات السنّية التقليدية الطرابلسية إلى بعض المجموعات الإسلامية.

أما اللائحة المنافسة الأبرز في هذا السباق الانتخابي الذي ضمّ أكثر من 180 مرشحًا على 24 مقعدًا، فكانت "نسيج طرابلس"، وهي لائحة متنوّعة ذات قاعدة اجتماعية إسلامية. وقد حظيت هذه اللائحة بدعم الجمعية اللبنانية للعمران البلدي (عُمران)، إحدى منظمات المجتمع المدني المحلية التي تضمّ رجال أعمال ومهنيين، ثم أعلن النائب الجديد إيهاب مطر عن تأييده لها. تجدر الإشارة إلى أن جمعية "عُمران" اكتسبت مصداقيتها خلال السنوات الأربع الماضية عبر تقديم الخدمات، لا عبر رفع الشعارات. وكان أبرز هذه المبادرات إطلاق مشروع لتأمين النقل المشترك بتكلفة غير ربحية وربط وسط المدينة بمحيطها، وهذا إنجازٌ مهم في ظلّ تدهور خدمات الدولة.

شدّدت لائحة "نسيج طرابلس" على تحسين جودة الحياة في بيئة مستدامة وتعزيز التنمية الشاملة والتضامن الاجتماعي، متبنّيةً خطابًا براغماتيًا وغير حزبي. والمُلفت أنها سعت إلى فتح صفحة جديدة في العمل البلدي، إذ لم يسبق لأيٍّ من مرشّحيها أن شاركوا في مجالس بلدية. ويعبّر أسم اللائحة عن رؤيةٍ أوسع ترمي إلى حياكة النسيج الاجتماعي المُمزّق في طرابلس غرزةً بغرزةٍ لاستعادة لحمة المجتمع.

صدرت نتائج الانتخابات بعد تأخّرٍ مشبوه دام ثلاثة أيام ونيّف، ما طرح علامات استفهام وشكوكًا جدّية. ولفت المراقبون إلى أن العملية الانتخابية شهدت مخالفات إدارية، وتجاوزات خلال عمليات فرز الأصوات، وانتهاكات لمبدأ الشفافية. وتركّزت حملة الانتقادات العامة جزئيًا على محافظ الشمال رمزي نهرا. فصدر عن الحكومة اللبنانية قرارٌ سريعٌ قضى بإقالته من منصبه على خلفية تجاوزات فاضحة، بما فيها المحاباة في توقيع تصاريح مندوبي اللوائح. وعلى الرغم من الجدل حول نزاهة العملية الانتخابية، قرّرت الحكومة قبول النتائج، وفازت بموجبها لائحة "رؤية طرابلس" باثني عشر مقعدًا، وحصدت لائحة "نسيج طرابلس" أحد عشر مقعدًا، فيما نالت لائحة "حرّاس المدينة" مقعدًا واحدًا. إذًا، لم تفز أي لائحة بغالبية مطلقة.

بلغت نسبة الاقتراع حوالى 27 في المئة، وهي نسبة متدنّية إنما منسجمة مع النسبتَين المسجّلتَين في انتخابات 2010 و2016، لكن من حيث العدد، صوّت عشرات الآلاف من الناخبين. واللافت ربما أن المرشّح الذي حاز أكبر عددٍ من الأصوات لم يكن من مرشّحي المنظومة السياسية، بل كان المهندس وائل زمرلي من لائحة "نسيج طرابلس"، إذ حصل على نحو 11500 صوت. أما رئيس اللائحة المدعومة من قوى المنظومة، عبد الحميد كريمة، فقد حلّ في المرتبة السابعة بحصوله على 9900 صوت تقريبًا.

ومع أن طرابلس تضمّ خليطًا سكانيًا متنوّعًا طائفيًا ومذهبيًا، لم يحصل العلويون إلا على مقعدٍ واحد ولم يفُز أي مرشّح مسيحي، على الرغم من أن اللائحتَين اللتَين تصدّرتا السباق تضمّنتا مرشّحين علويين ومسيحيين. كذلك، ضمّت اللائحتان وجوهًا نسائية، بيد أن المرأة غابت عن عضوية المجلس البلدي في المدينة. ويُعزى سبب هذه النتائج إلى اعتماد نظام التمثيل الأكثري بدلًا من النظام النسبي. وإذ عبّرت هذه النتائج عن تفضيل تعدّدية التمثيل السنّي في أوساط القواعد الناخبة المختلفة، إلا أنها لم تتمكّن من تمثيل التنوّع الطائفي والعنصر النسائي في المجتمع الطرابلسي. قد يثير هذا الخلل في التمثيل قلق الأحزاب المسيحية التي اعتادت الحصول على حصة مضمونة من المقاعد في بلدية طرابلس، بموجب عرفٍ لم تؤدِّ النتائج إلى احترامه مرّتَين لغاية الآن. وتُعدّ المرحلة المقبلة حاسمة وتتطلّب انتخاب رئيسٍ للبلدية من بين الأعضاء المنتخبين. ونظرًا إلى عدم حصول أي لائحة على غالبية مطلقة، سيُحسم هذا القرار من خلال التفاوض.

صحيحٌ أن الانتخابات البلدية في طرابلس تختلف عن الانتخابات التشريعية من حيث نطاقها وبنيتها، إلا أنها تُنبئ بحدوث تحوّلٍ أوسع. فإذا كانت القوى السنّية التقليدية مُنهكة ونجحت لوائح المجتمع المدني في كسب مصداقية الناس عن طريق توفير الخدمات، يمكن أن تقدّم الانتخابات البلدية لهذا العام لمحةً عن التوترات التي ستلوح في الأفق على مشارف الانتخابات النيابية في العام 2026. وما لم تبرز شخصية سنيّة كبرى جديدة (أو تعود شخصية سابقة إلى الساحة)، ربما بدفعٍ من رياح التغيير الإقليمية وبدعمٍ من دول الخليج، يُحتمل أن تشهد الانتخابات التشريعية تنافسًا مشابهًا بين شخصيات سياسية تقليدية فقدت بريقها من جهة، وخصومهم المنقسمين سياسيًا من جهة أخرى.

من الطبيعي مقارنة انتخابات طرابلس بانتخابات بيروت، حيث واجهت لوائح المجتمع المدني قوى راسخة في مشهد سياسي أشدّ تعقيدًا. على خلاف الوضع في بيروت، اقتصرت المعركة الانتخابية في طرابلس على منافسة بين السنّة إلى حدٍّ كبير، في ظلّ غياب حضور علني لحزب الله، إلى جانب عوامل أخرى. صحيحٌ أن انتخابات طرابلس لا تشير إلى حدوث ثورة، إلا أنها تعطي لمحةً عن المسار المُحتمل للسياسات السنّية في لبنان خلال المرحلة المقبلة. فالمشهد السياسي السنّي ما بعد الحريري مفتوحٌ على مزيدٍ من المبادرات المتجذّرة في الواقع المحلي، والتي تركّز على توفير الخدمات بدلًا من إطلاق الشعارات. كان الفارق في نتائج انتخابات طرابلس ضئيلاً، لكن أي تحدٍّ جدّي يُقابَل فيه الجمود السياسي بأفكار جديدة هو أمرٌ يستحقّ الاهتمام.

في العام 2026، قد يتشجّع المزيد من الإصلاحيين والوافدين الجدد إلى المشهد السياسي على الوقوف في وجه المنظومة السياسية القائمة، فيما يُرجّح أن تُعيد الشخصيات السياسية التقليدية لملمة صفوفها وأن تبذل محاولات مشوبة بالقلق من أجل التصدّي بقوة أكبر للإصلاحيين. إذًا، لا بدّ من الانتظار لرؤية ما إذا ستسهم هذه التوتّرات المتصاعدة في تغيير موازين القوى، لكن الأكيد أن المواجهة قد بدأت بالفعل.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.