أثارت زيارة توم برّاك، السفير الأميركي في تركيا والمبعوث الخاص إلى سورية، قلقًا في بيروت، حيث أكّد برّاك أن على الطبقة السياسية اللبنانية أن تفعل ما عجزت عن فعله طوال 35 عامًا منذ انتهاء الحرب الأهلية، أي حلّ مشكلةٍ وطنيةٍ حرجةٍ بدلًا من مجرّد كسب الوقت.
وأشار المبعوث الأميركي، بتأكيده على أن نزع سلاح حزب الله أولويةٌ لا بدّ منها إذا ما أراد لبنان الخروج من فترة العجز والانقسام والعزلة الطويلة التي طبعت سنوات هيمنة الحزب بعد العام 2011، إلى أن الوقت بدأ ينفد أمام اللبنانيين. وما كان من تصريحاته الأخيرة لصحيفة ذا ناشيونال إلا أن أجّجت المخاوف في بيروت، إذ قال: "أعتقد صراحةً أنهم سيقولون إن 'العالم سيتجاوزنا'. لماذا؟ ثمة إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سورية تعيد فرض حضورها بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان فسيعود إلى بلاد الشام من جديد".
تكمن الصعوبة الوحيدة في عدم وجود طريقةٍ سهلةٍ لنزع سلاح حزب الله إذا رفض هذا الأخير تسليمه، وهو بالفعل أوضح جيّدًا أنه لا ينوي فعل ذلك. هذا الأمر يضع الرئيس عون أمام معضلة، حيث لا ينفكّ يكرّر أن قرار حصرية السلاح في يد الدولة "قد اتُّخِذ"، إلا أن ذلك يشبه في الوقت الحالي النكتة القديمة عن قرار الزواج بعارضة الأزياء كلوديا شيفر: "أريد الزواج بكلوديا، ووالداي موافقان تمامًا. كل ما علينا فعله الآن هو إقناع كلوديا". فالجميع متّفقٌ مع الرئيس، ولكن كل ما علينا فعله الآن هو إقناع حزب الله.
والواقع أن منتقدي الرئيس عون، وفي مقدّمتهم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، لا يعرفون أكثر من عون ما يجب القيام به حيال حزب الله. الجميع يعي أن اللجوء إلى القوة سُرعان ما قد يتحوّل إلى صراع أهلي، ويؤدّي إلى طريق مسدود، الأمر الذي ستكون له عواقب كارثية على البلاد، لا بل أيضًا على الجيش ووحدته. وبرّاك نفسه أقرّ بذلك في مقابلته، حينما أشار إلى أن عون يسعى إلى تجنّب اندلاع حربٍ أهلية. وبينما أقرّ بأن الجيش يُعَدّ "أفضل وسيط محايد وموثوق"، قال أيضًا إنه يعاني "نقصًا حادًّا في التمويل بسبب الانهيار الاقتصادي في لبنان". لقد كان المبعوث الأميركي إذًا أقلّ حماسةً بكثيرٍ من جزءٍ كبيرٍ من اللبنانيين، وكان استخدامه لمصطلح "وسيط" بدلًا من "منفّذ" في وصفه الجيش مُعبّرًا.
ما العمل إذًا؟ يتمتّع الرئيس عون بحسٍّ سليم في التعامل بحذر مع مشكلة حزب الله، إلا أن الشيء الوحيد الذي يبدو أنه يفتقر إليه هو الخطة. والانطباع الواضح هو أنه ورئيس الوزراء نواف سلام لا يعملان على هذه المسألة جنبًا إلى جنب، ما يشكّل عقبةً إضافية. عوضًا عن ذلك، قال عون منذ البداية إنه سيجري حوارًا مع حزب الله بمفرده. عليه الآن أن يترجم أقواله إلى أفعال، ويُظهِر أنه قادر على إحراز تقدّمٍ على هذا الصعيد.
ومع ذلك، لا جدوى من الحوار ما لم يؤدِّ إلى رسم أهدافٍ واضحة. ينبغي على الرئيس عون أولًا أن يحدّد إلى أيّ مدى حزب الله مستعدّ أن يذهب في قبوله حصريةَ السلاح في يد الدولة. إذا راوغ الحزب، فهذا يعني أنه يتحدّى فعليًا سيادة الدولة، وهو أمرٌ لا يمكن للرئيس المساومة عليه. في هذه الحالة، من المنطقي اتّخاذ عددٍ من الخطوات: بناء توافق وطني حول سلطة الدولة في احتكار حمل السلاح، وإضفاء الطابع الرسمي على ذلك في منتدى وطني يضمّ مجموعةً واسعةً من الأحزاب السياسية وشخصيات المجتمع المدني. ولمّا كان الرئيس لا يرغب في أن يظهر وكأنه يستهدف حزب الله والطائفة الشيعية فقط، يمكن لهذا المنتدى أن يخاطب كلّ الجماعات المسلحة الخارجة عن سيطرة الدولة، بما فيها الفصائل الفلسطينية. وبهذه الطريقة، لن يؤدّي رفض حزب الله نزعَ سلاحه سوى إلى عزله أكثر، وسيجعل في مقدور الرئيس عون الشروع في حوارٍ بجدولٍ زمنيّ محدّد وأهداف واضحة.
في موازاة ذلك، ينبغي على الرئيس عون أن يستمرّ في تضييق هامش المناورة أمام حزب الله ضمن الدولة، حتى يسيطر هذا الأخير تدريجيًا على عددٍ أقلّ من مواقع النفوذ مقارنةً مع الماضي. لقد تصرّف عون بحزم إلى حدٍّ ما في مطار ومرفأ بيروت، وكذلك في الضاحية الجنوبية للعاصمة، وفي الجنوب، ولكن إذا ما قاوم الحزب جهود الدولة لتوسيع نطاق بسط سلطتها الشرعية، فسيكون الرئيس مُحقًّا في زيادة الضغط. وقد يعجّل حزب الله المواجهة، إلا أن ذلك قد يكون أفضل، لأن هذا الأخير سيخرج من أيّ صدامٍ من هذا القبيل أكثر ضعفًا على المستوى الوطني مما هو عليه الآن. لا يملك الحزب ترفَ القيام بذلك فيما الطائفة السنّية تشعر بالثقة مجدّدًا، وإسرائيل تواصل مهاجمة أهدافه، والطائفة الشيعية تتوق للعودة إلى نوعٍ من الحياة الطبيعية بعد ما يقرب من عامَين من الصراع والمعاناة.
قد يتردّد الرئيس عون في اتّخاذ مبادرة مهمّة أخرى، ولكن من الضرورة بمكان التواصل مع إيران لمناقشة مستقبل حزب الله. فمصير الحزب عمومًا في أيدي الإيرانيين، ولذا من المنطقي أن تناقش السلطات اللبنانية هذه المسألة مع طهران على مستوى الدولة. ما من داعٍ على الإطلاق لأن يُملي حزب الله على البلاد طبيعةَ علاقاتها بإيران. وانطلاقًا مما تحظى به الدولة من إجماع وطني حول حصر السلاح في يدها، ينبغي أن تتعامل مع مجموعةٍ من الأطراف الإقليمية لتحقيق هذا الهدف، وهو ما يجعل التشاور مع إيران ضروريًا للغاية. قد لا ينجح الأمر بالطبع، إلا أن عون يستطيع على الأقلّ أن يستشفّ ما إذا كان الإيرانيون يسعون إلى شكلٍ من أشكال المقايضة التي تُسهّل نزع سلاح حزب الله، أي إلى آليةٍ ما قد تتيح إنجاح الحوار مع الحزب.
بتعبيرٍ آخر، حتى لو لم تكن لدى الرئيس عون خطة جليّة اليوم، يبقى في موقع جيّد يتيح له مراكمة أوراق قوة، وطنية وإقليمية، تعزّز موقفه. فالجلوس والتحدّث مع محمد رعد، رئيس كتلة حزب الله النيابية، لن يحقّق الكثير ما لم يشعر الحزب بأن الدولة تحظى بدعمٍ محلي وإقليمي، فيما نفوذُه يتراجع.
على اللبنانيين أيضًا أن ينخرطوا في مسارٍ تفاوضيّ ثانٍ واسعٍ مع سورية هذه المرة، يكون له تأثيرٌ كبيرٌ على حوارهم مع حزب الله. لقد تردّدوا في سلوك هذا المسار، إذ يبدو أن عون وسلام يختلفان بشأن هذه المحادثات. ولكن ما لم يتّفق الرجلان على تطبيع العلاقات مع دمشق، ويُطَمئِنا حزب الله بأن الدولة قادرةٌ على حماية جميع مواطنيها، بمَن فيهم الشيعة، من أيّ أفعالٍ سوريّةٍ محتملة، فسيتذرّع الحزب بالخطر الجهادي السنّي من الجوار للاحتفاظ بسلاحه.
وإذا كان هذا الأمر يعني التوصّل إلى حلٍّ سريع لقضية السجناء السوريين في لبنان، وهي نقطة خلاف أساسية بين بيروت ودمشق، فيجب أن يكون البحث في هذا الملفّ على رأس جدول الأعمال. ولا بدّ في الوقت نفسه أن يتدخّل لبنان بقوةٍ أكبر ضدّ المهرّبين عبر الحدود، وهي أولويةٌ سوريّةٌ أخرى، على افتراض أن ذلك يمثّل بُعدًا أساسيًا في جهود الدولة الرامية إلى استعادة السيطرة الكاملة على القضايا التي تمسّ سيادتها. صحيحٌ أن ذلك كلّه قد لا يزعزع التزام حزب الله بالاحتفاظ بسلاحه، إلا أنه قد يُضعِف الأُسُس التي يرتكز إليها عنادُ الحزب، ويمنح عون وسلام أوراق قوةٍ ثمينة.
ومع ذلك، تبقى مسائل عدّة غير واضحة. هل الرئيس عون مستعدٌّ للضغط على الطائفة الشيعية التي يحتاج مرشّحوه إلى دعمها في حال قرّر تشكيل كتلة نيابية موالية له في انتخابات العام المقبل؟ وهل إسرائيل مهتمّة برؤية الدولة اللبنانية تحقّق هدفها المتمثّل في نزع سلاح حزب الله، بينما هي تفضّل تفتيت الدول العربية المحيطة بها، وعلى رأسها سورية، ولكن أيضًا لبنان؟ بتعبيرٍ آخر، هل ستكون إسرائيل مستعدّةً لاتّخاذ إجراءاتٍ لبناء الثقة عبر الانسحاب من مواقع معيّنة في الجنوب، ما من شأنه منح عون قدرًا أكبر من المصداقية، من خلال إظهار أن الدولة قادرةٌ على تحرير الأراضي المحتلّة من دون اللجوء إلى العنف؟
وربما يكون السؤال الأهمّ هو التالي: أي تقف الولايات المتحدة؟ لقد رفض برّاك منح لبنان ضمانات خلال زيارته الأخيرة، ما يشير إلى أن الأميركيين لن يبتعدوا كثيرًا عن أجندة إسرائيل في البلاد. ولكن ما معنى ذلك؟ كان المبعوث الأميركي واضحًا في مقابلته مع صحيفة ذا ناشيونال بشأن الصعوبات التي يواجهها لبنان، فما مقدار الجهد الذي يرغب الأميركيون في بذله للتوصّل إلى نتيجة إيجابية في المفاوضات مع حزب الله؟ وإذا كان الأميركيون حريصين إلى هذا الحدّ على تفكيك شبكة حلفاء إيران الإقليميين، فلماذا لا يجعلون ذلك جزءًا من مفاوضاتهم مع إيران، وهو ما تجنّبوا القيام به بشكل واضح؟ لا شكّ في أن المسؤولين اللبنانيين قادرون على تقديم أداءٍ أفضل مما قدّموه حتى الآن، ولكنهم لا يستطيعون حلّ مشاكل البلاد كلّها بمفردهم.