كان للشركات الاستشارية في السنوات الأخيرة دورٌ في القرارات المتعلّقة بالعمل الإنساني. وفيما صُوِّر هذا الانخراط على أنه مُصمَّمٌ لتحقيق الكفاءة، ولّد أيضًا مخاوف جوهرية حول قدرة هذه الشركات على بلوغ الأهداف الإنسانية بفاعلية، ولا سيما أنها تفتقر إلى الخبرة اللازمة في مجال الإغاثة الطارئة.
وقد تأكّدت هذه المخاوف في حزيران/يونيو عندما كُشِف أن مجموعة بوسطن الاستشارية، وهي إحدى الشركات الاستشارية الرائدة عالميًا، اضطلعت بدور أساسي في تصميم مؤسسة غزة الإنسانية، المنظمة المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي أُنشِئَت لتوزيع الغذاء والمساعدات على الفلسطينيين في القطاع. في البداية، أشاد المسؤولون الأميركيون بالمؤسسة لتقديمها الإغاثة الضرورية إلى الفلسطينيين، خصوصًا بعد حصار إسرائيلي دام ثلاثة أشهر، وصوّروها على أنها حلٌّ مركزي ومبسّط لأزمة المساعدات. ولكن سرعان ما اتّضح أن أهداف المؤسسة وأساليبها تشوبها عيوبٌ كبيرة، وأنها غير إنسانية بشكل خطير.
واقع الحال أن وكالات الأمم المتحدة أدانت نظام المساعدات الخاص بمؤسسة غزة الإنسانية، إذ وصفه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بأنه "غير آمن بطبيعته". فمنذ البداية، تخطّى دور مجموعة بوسطن الاستشارية حدود تقديم المشورة بشأن المشروع، إذ اقترحت الشركة أيضًا "حزم إعادة توطين" بقيمة 9 آلاف دولار تقريبًا للشخص الواحد، لتشجيع الهجرة الطوعية لأكثر من 500 ألف فلسطيني من غزة. وما صُوّر في البداية على أنه خطة توزيع مساعدات، بدا أنه يسهّل فعليًا التطهير العرقي للفلسطينيين. ومقترح إعادة التوطين الطوعية المزعومة رمى أيضًا إلى تقويض الجهود الإنسانية للأمم المتحدة، خاصةً وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا)، من خلال استبدال الرعاية بأجندةٍ تهدف إلى نقل السكان. وكانت مجموعة بوسطن الاستشارية قد عرضت حتى على الأمم المتحدة نماذج مختلفة بشأن غزة، قبل أن تتّجه إلى دعم مؤسسة غزة الإنسانية.
والواقع أن حافز مؤسسة غزة الإنسانية لاحتكار مجال المساعدات الإنسانية في غزة كان مدروسًا بدقّة. فوفقًا لصحيفة واشنطن بوست، شاركت شبكة من الشركات الخاصة والمنظمات غير الربحية في مشروع مؤسسة غزة الإنسانية، إلى جانب إدارة ترامب، التي استثمرت 30 مليون دولار في العمليات. وعلى وجه التحديد، ساهمت شركة Orbis Operations، وهي شركة مقاولات أمنية خاصة، وفرع من شركة الأسهم الخاصة McNally Capital، في إنشاء مؤسسة غزة الإنسانية. وفي الوقت نفسه، تستفيد شركة McNally Capital من صندوق ائتماني مقرّه ولاية وايومنغ، يمتلك شركة Safe Reach Solutions التي تشرف على عمليات مؤسسة غزة الإنسانية في القطاع. وقد أُشرِكَت مجموعة بوسطن الاستشارية في هذا الترتيب المعقّد من قبل شركة Orbis، إلى أن انسحبت في ظلّ تصاعد الجدل حول مشروع مؤسسة غزة الإنسانية.
وقد نفّذت مؤسسة غزة الإنسانية عملياتها عبر أربعة مواقع فقط أنشأتها لتوزيع المساعدات على أكثر من مليونَي فلسطيني في القطاع. لكن هذه المواقع سرعان ما تحوّلت إلى بؤر عنف. فمنذ أيار/مايو، قُتِل الفلسطينيون أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، وكان كثرٌ منهم بالقرب من مواقع مؤسسة غزة الإنسانية. وأظهرت مقاطع فيديو الجنود الإسرائيليين يرشّون برذاذ الفلفل المدنيين اليائسين والجوعى، بمَن فيهم النساء والأطفال، لمجرّد محاولتهم البقاء على قيد الحياة. في الواقع، قُتِل أكثر من ألف شخص أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء من نقاط توزيع المؤسسة، ما جعل هذه المواقع مصائد لقتل المدنيين لا أماكن لتقديم المساعدات.
وعلى الرغم من انسحاب مجموعة بوسطن الاستشارية من المشروع، واستقالة اثنَين من كبار المسؤولين التنفيذيّين فيها، أثار انخراط الشركة الكبير في إنشاء مؤسسة غزة الإنسانية، وفي صياغة نموذج المؤسسة لإعادة توطين الفلسطينيين تساؤلات جدّية: لمَ استُقدِمَت شركة استشارية للمشاركة في معالجة أزمة كبرى لم تكن مُهيّأة لها؟ فالشركات الاستشارية مثل مجموعة بوسطن تعطي الأولوية للربح والكفاءة، وهو أمرٌ غير ملائم إطلاقًا للتعامل مع التعقيدات الأخلاقية والسياسية لوضعٍ مثل الوضع في غزة. فهذه المقاربة تميل إلى التقليل من شأن تاريخ وإنسانية المجتمعات التي يدّعي المرء مساعدتها. لكن السؤال الحقيقي قد لا يتعلّق بقدرة الشركات الاستشارية، مثل مجموعة بوسطن الاستشارية، على التعامل مع الأزمات الإنسانية، بل بما إذا كان ينبغي السماح لهذه الشركات بصياغة الأُطُر المتعلّقة بالمساعدات في المقام الأول.
فضلًا عن ذلك، ألقت شراكة مجموعة بوسطن الاستشارية مع معهد توني بلير للتغيير العالمي، وهو منظمة غير ربحية أسّسها رئيس الوزراء البريطاني السابق، الضوء على منطقٍ أكثر إثارةً للقلق وراء نموذجهما. فقد وضعا معًا رؤيةً لتحويل غزة إلى مركز تجاري استراتيجي بعد الحرب. وقدّرت وثائق داخلية أن تكلفة إعادة توطين الفلسطينيين قد تبلغ 5 مليارات دولار، ولكنها زعمت أن إخراج الناس من القطاع سيوفّر 23 ألف دولار لكل فلسطيني يغادر، ما يعني أن إخراج المزيد من الفلسطينيين من القطاع يمكن أن يدرّ أرباحًا مالية. ومع أن معهد توني بلير للتغيير العالمي شارك في العملية، نفى إعداد أو تأييد عرض تقديمي لخطة ما بعد الحرب في غزة، التي وضعتها مجموعة بوسطن الاستشارية بمشاركة رجال أعمال إسرائيليين.
والمُرعب أكثر هو تجاهل هذه الشركات والمنظمات غير الربحية لأثر عملها على الفلسطينيين أنفسهم. والوضع المتدهور على الأرض يوضح السبب. فقد اتّهم أنتوني أغيلار، الضابط المتقاعد في القوات الخاصة الأميركية، الذي عمل مع مؤسسة غزة الإنسانية، القوات الإسرائيلية والجهات المتعاقدة الدولية، باستخدام "القوة العشوائية وغير الضرورية" ضدّ مدنيين عزّل يتضوّرون جوعًا. ووصف أغيلار مهمّة المؤسسة بأنها "غير احترافية" و"إجرامية"، وهي اتهامات حاولت المؤسسة دحضها عبر وصفه بأنه "مقاول سابق ساخط".
في نهاية المطاف، لم تكن مشاركة مجموعة بوسطن الاستشارية في المشروع مجرّد سوء تقدير، بل دلّت على مشكلةٍ أعمق تتعلّق بإسناد المسؤوليات الإنسانية إلى شركاتٍ مُصمَّمةٍ لإعطاء الأولوية للربح والفاعلية بدلًا من التعاطف. وصحيحٌ أن المجموعة خرجت من مشروع مؤسسة غزة الإنسانية، إلا أن انسحابها هذا لم يعفِها من المسؤولية. حينما يُترَك التخطيط الإنساني لشركات خاصة، قد تكون النتائج كارثية، وهو ما تثبته تجربة مؤسسة غزة الإنسانية. وهذه النتائج قد تلحق أيضًا ضررًا كبيرًا بالشركات نفسها. فإسرائيل مسؤولةٌ عن خسائر فادحة في الأرواح في غزة، حيث قُتِل أكثر من 60 ألف شخص وفقًا لوزارة الصحة هناك، وقد ألحقت دمارًا هائلًا بالقطاع وجميع جوانب بنيته التحتية. يرى الكثير من المراقبين أن ثمّة هدفًا محدّدًا وراء ذلك كلّه، وهو تحويل غزة إلى أرضٍ غير صالحة للعيش، وإرغام الفلسطينيين على مغادرتها. وإذ يمكن أن يُعَدّ التطهير العرقي جريمة حرب وجريمةً ضدّ الإنسانية، اعتبر الكثيرون أن اقتراح المغادرة "الطوعية" من غزة، الذي طرحته مجموعة بوسطن الاستشارية، هو مساهمةٌ في تنفيذ مخطّط إسرائيل، ما يجعل المجموعة متواطئةً في الجرائم الإسرائيلية، ويعرّضها لعواقب قانونية. وقد يكون إدراك المجموعة لهذه المخاطر سببًا وراء انسحابها من المشروع.
إن الدور الذي اضطلعت به مؤسسة غزة الإنسانية في تقديم المساعدات في غزة، والذي تعرّض لانتقادات شديدة، فضلًا عن انخراط شركات الأسهم الخاصة والشركات الاستشارية والمنظمات غير الربحية في هذه التجربة الفاشلة، يجب أن يحثّا الأطراف على إجراء مراجعةٍ في هذه المجالات كلّها لتحديد أين ينبغي على المنظمات أن تضع حدودًا أخلاقية. فمناطق الحروب تُعَّد بؤر نزاع معقّدة، حيث تكون لمتطلّبات الربح والفاعلية والسيطرة عادةً تداعيات كبيرة على حياة السكان. لذا، وحدها المؤسسات المؤهّلة للتعامل مع هذه البيئات يجب أن تشارك في عملية التوصّل إلى حلولٍ لهذه المشاكل.