نجح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي حيثما فشل جميع أسلافه، أي في منع ظهور مراكز قوى متصارعة داخل نظامه الحاكم. يُعدّ هذا الأمر إنجازًا لافتًا في حدّ ذاته، وسمةً أساسية من "الجمهورية الجديدة" التي أعلن عنها، بيد أنه يطرح في الوقت نفسه تساؤلاتٍ عدّة.
أولًا، كيف تُمارَس السلطة داخل النظام؟ والأهم، كيف تتبدّل ديناميّاتها أو يُعاد توجيه مسارها حين تتغيّر الظروف التي تحكم عملية ارتقاء الأشخاص سلّم المناصب داخل النظام، أو حين يدخل وافدون جدد من خارج النظام إليه جانبيًا؟ واقع الحال أن ما من نظامٍ ثابتٍ بطبيعته، مهما بدا قويًا. وبالتالي، يعتمد تماسكه في المدى البعيد على كيفية الإجابة عن هذَين السؤالَين.
ثانيًا، حتى الأنظمة الأكثر سلطويةً ليست منفصلة عن مجتمعاتها واقتصاداتها السياسية. بل على العكس تمامًا في مصر، أدّى العجز المزمن للإدارات الرئاسية المتعاقبة (أو إحجامها) منذ ولادة الجمهورية المصرية قبل أكثر من ستة عقود، عن بناء دولة تنموية فعّالة، إلى نشوء "اقتصادٍ قائمٍ على العادات المتجذّرة" (أو ما يُعرَف بالـ"هابيتوس")، وشديد الاعتماد على العلاقات الشخصية والشبكات الاجتماعية بين الأطراف الاقتصادية. إذًا، ما مدى تأثير التنافس بين المجموعات المختلفة من البيروقراطيين والضباط العسكريين والأمنيين ورجال الأعمال من القطاع الخاص في الحصول على الفرص الاقتصادية ودخول السوق المصري؟ وأخيرًا، هل يُعيد التغيير الجذري في قاعدة النظام الاجتماعية توجيهَ سُبُل الولوج إلى هرمية السلطة داخل النظام وارتقاء سلّم المناصب، أم يعيقها تمامًا؟ وما انعكاسات ذلك على استقرار النظام واستمراريته؟
إن الآليات الداخلية لنظام السيسي غامضة ومخفيّة أكثر من المعتاد. وقد يبدو ذلك مُستغربًا لبلدٍ يتلقّى ملايين الزوّار الأجانب كل عام، ويفسح المجال أمام وسائل الإعلام الأجنبية، ويعتزّ أيضًا بالجالية الكبيرة من المصريين في الخارج ممَّن يسافرون ذهابًا وإيابًا بحرية. لكن التضييق الشديد للفضاء السياسي يثبط النقاش العام حول التعيينات الحكومية وآلياتها الداخلية. يُضاف إلى ذلك أن ندرة المعلومات التي تنشرها هيئات الدولة وعدم موثوقيتها، بما في ذلك في المجال الاقتصادي، يعيقان تقييم أداء موظّفي الإدارات العامة وغيرهم من المسؤولين، وبالتالي يحجبان أسباب ترقيتهم، أو خفض رتبهم، أو نقلهم إلى مناصب أخرى. ومن نتائج ذلك الاعتماد المتزايد على الوسائل غير الرسمية لتبادل المعلومات، وهو أمرٌ ينطوي على مفارقة، إذ إن المسؤولين غالبًا ما يحذّرون المواطنين من نشر الشائعات، فيما يخلقون ظروفًا تمسي فيها الشائعات أمرًا لا مفرّ منه.
يشكّل الحظر الرسمي المفروض على جمع أو نشر المعلومات المتعلّقة بأيّ نشاط تجريه القوات المسلحة أو الهيئات التابعة لها، والتي تشارك على نطاق واسع في الاقتصاد المدني، عقبةً كأداء أمام فهم ديناميّات السلطة في بلدٍ يُدار اليوم في إطار وصايةٍ عسكرية. وعلى الرغم من الحضور المطلق للمؤسسة العسكرية في المشهد المصري، أدّى العزل الاجتماعي والمكاني للشخصيات التي تتولّى مناصب رفيعة في أجهزة الدولة الرئيسة (المدنية والعسكرية/الأمنية)، إلى جانب أفراد الشريحة العليا من الطبقة المتوسّطة، في المدن الراقية الجديدة والمجمّعات السكنية المسوّرة، إلى الحدّ بشكلٍ كبير ممّا يمكن تسميته بالمعرفة "الإثنوغرافية" التي اكتسبها الأقارب والجيران سابقًا أثناء احتكاكهم بكبار المسؤولين والضباط في مهامّ الحياة اليومية، مثل التسوّق والتفاعل الاجتماعي. ومع أن أبناء القيادات العليا يفاخرون بأسلوب حياتهم المترف علنًا على وسائل التواصل الاجتماعي، لا يمكن معرفة المكانة السياسية لآبائهم إلا من خلال تفسير الدلائل غير المباشرة.
يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات التحليلية من خلال عقد مقارنات مع أنظمة سلطوية أخرى. فأوّل ما يتبادر إلى الذهن هو الكرملينولوجيا (أو الدراسات المعنيّة بالكرملين)، أي المنهجية التي تطوّرت خلال الحرب الباردة لتحليل هيكلية السلطة في الاتحاد السوفياتي، من خلال قراءةٍ ما بين السطور للتصريحات الرسمية والظهور العلني لقادة الحكومة والحزب الشيوعي. يقدّم الصحافي الروسي أندريه بيرتسيف، في دراسته الأحدث حول ديناميّات و"تدفّقات" السلطة ضمن النظام الرئاسي الذي يقوده فلاديمير بوتين، تشبيهًا إضافيًا قد يساعد في تحليل إدارة السيسي. فيرى بيرتسيف، باختصار، أنّ هيكلية السلطة "العمودية" التي يتربّع بوتين على عرشها أتاحت له حكمَ البلاد طوال عقدَين من الزمن عبر توزيع الموارد المادية والمناصب والنفوذ على شبكة من المناصرين المقرّبين مقابل إبداء ولائهم، وأداء المهام الموكلة إليهم، وإثبات منفعتهم للنظام. لكنّه يضيف أن تقلّص فرص ارتقاء سلّم السلطة داخل النظام وشحّ الموارد المتاحة للتوزيع في السنوات الأخيرة، يدفعان النخب إلى توسيع نطاق نفوذها بشكلٍ استباقي، وبناء روابط "أفقية" في ما بينها. الواقع أن هذا يمنحها "فرصةً للبقاء في مرحلة ما بعد بوتين، لكنه يزعزع، في الوقت نفسه، أُسُس البوتينية".
فهل من أوجه شبهٍ بين السياقَين الروسي والمصري؟ من جهة، نجح السيسي في بناء نظام حكمٍ مركزي بدرجة عالية، يتمحور حول شخصية الرئيس الذي يتحكّم على نحوٍ واضح بـ"التدفّقات العمودية للسلطة" داخل النظام. ومع أن "مصر ليست نتاج قوّة واحدة بقدر ما هي نتاج تفاعل بين كثيرٍ من القوى الرئيسة"، يبقى الرئيس هو الحَكَم الأساسي في ما بينها، بحسب تعبير ناثان براون وشيماء حطب وعمرو عادلي. وكما هي الحال في ظلّ حكم بوتين، لدى الأفراد الطموحين في نظام السيسي هامشٌ لارتقاء سلّم السلطة، إلا أن هذا الارتقاء يحصل هو الآخر ضمن دوائر منفصلة، أي ينحصر داخل هيكليات مؤسّسية أو مجالات محدّدة تبقى معزولة عن بعضها البعض، ويشرف على هذه العملية الرئيس نفسه أو مسؤولون مقرّبون منه.
ولكن، من جهةٍ أخرى، يكمُن فارقٌ أساسي بين مصر وروسيا، وهو أنّ المدنيين في روسيا، سواء كانوا مسؤولين حكوميّين أو شخصيات سياسية ضمن معسكر بوتين، أو رجال أعمال في القطاع الخاص، يشكّلون جزءًا لا يتجزأ من هرميّة السلطة العمودية، لا بل قد يكونون القوى الرئيسة فيها، ويستفيدون من فرص النمو والارتقاء التي توفّرها. أمّا في مصر، فتقتصر هرميّة السلطة العمودية بالكامل على أجهزة الدولة، على رأسها المؤسسة العسكرية، ويليها الجهازان الأمنيان الرئيسان، أي المخابرات العامة، ثم الأمن الوطني. وفي حين أن الوزراء وأعضاء الهيئات القضائية والدينية العليا، وغيرهم من المسؤولين المدنيّين ورجال الأعمال، قد يمتلكون علاقات سياسية قوية، لا يمنحهم ذلك سلطة فعلية ولا يعطيهم موقعًا ضمن هرميّة السلطة العمودية.
حتى الشخصيات أو المؤسّسات النافذة ضمن هرميّة السلطة العمودية لا تحظى باستقلالية فعلية في اتّخاذ القرار أو التصرّف. فصحيحٌ أنّ القوات المسلحة والشرطة والسلطة القضائية، على وجه التحديد، تتمتّع بسلطة شبه مطلقة في إدارة شؤونها الداخلية، وقد نالت اعترافًا دستوريًا بحقها في مراجعة التعيينات القيادية التي يُجريها الرئيس، وفي اختيار من يمثّلها داخل مجلس الوزراء، لا يُترجَم ذلك إلى قدرة على تشكيل تحالفات أو مراكز نفوذ رئيسة خارج دوائرها المؤسّسية المنفصلة، ولا يتيح لها أن تصبح ثقلًا موازنًا في وجه سلطة الرئيس. فعلى سبيل المثال، يبدو أنّ المحافظين المعيّنين في مصر يخضعون لرقابةٍ رئاسية أشدّ مقارنةً مع نظرائهم في روسيا، ولا يستطيعون استخدام مناصبهم لبناء تحالفاتٍ أفقية أو كسب استقلالية كما يفعل نظراؤهم الروس.
يتمثّل الفارق الجوهري بين هذَين النظامَين الرئاسيَّين في أن مصر تفتقر إلى أي قنوات أو وسائل يمكن من خلالها للوافدين الجدد إلى النظام أن ينضمّوا إلى هيكلية السلطة "جانبيًا"، إن جاز التعبير، أي من خارج الأُطر المؤسّسية الرئيسة. بعبارةٍ أخرى، لا يوفّر الحيّز السياسي في حدّ ذاته وسيلةً للولوج إلى هرميّة السلطة العمودية في مصر أو للارتقاء فيها. فمجلس النواب بلا أنياب ولا يمكنه أن يشكّل حتى نقطة انطلاق نحو هذا الطموح، على النقيض تمامًا من مجلس الدوما الروسي، بالرغم من أن المجلسَين يعجّان بالشخصيات الموالية للرئيس في كلٍّ من البلدَين. كذلك، لا يؤدّي التعيين في مناصب حكومية رفيعة، بما في ذلك في مجلس الوزراء، إلى نتيجة مختلفة. وقد أفضى استثمار السيسي منذ العام 2015 في تدريب "قادة شباب" وبيروقراطيّين نموذجيّين من الطراز الجديد، كما يشرح هشام سلام بإسهاب، إلى إنتاج فئةٍ من التكنوقراط وضباط الأمن الأوفياء، من دون أن يوسّع قنوات الولوج إلى هرميّة السلطة العمودية أو الارتقاء داخلها. كذلك، فإن عسكرة التوظيف في الخدمة المدنية، كما يشير حسام الحملاوي، لا تؤدّي سوى إلى ترسيخ الموقع الهامشي للمدنيّين في النظام، بدلًا من أن توفّر لهم مسارًا للارتقاء فيه.
ثانيًا، يمكن فهم هيكلية السلطة في مصر من زاوية أخرى، من وحي التجربة الروسية، عبر النظر إلى تطوّر العلاقة بين الشخصيات السياسية والإدارية البارزة، ورجال الأعمال من القطاع الخاص، و"هيكليات القوّة" التي تُعرف بجماعات "السيلوفيكي" السيّئة السمعة (المنبثقة عن "وزارات سيادية" تمارس القوة القسرية وتُعنى بالدفاع والأمن وإنفاذ القانون). فقد أدّى التخبّط السياسي والاقتصادي في روسيا خلال تسعينيات القرن العشرين إلى نشوء تكتّلات ثلاثية متنافسة تستند إلى شراكات بين كلٍّ من هذه المجموعات الثلاث، وكان ذلك من السمات البارزة للإرث الذي تركه الرئيس بوريس يلتسين. أمّا في عهد بوتين، فقد شهدت روسيا حالةً من التماسك السياسي والإداري أدّت إلى بروز "نخبة اقتصادية جديدة" تتكوّن إلى حدٍّ كبير من أفراد "السيلوفيكي" الذين شكّلوا العمود الفقري لإدارة بوتين، واستحوذوا على مجالس إدارة عددٍ من كبرى شركات القطاع الخاص.
وتُظهر هيكلية السلطة في مصر على السواء أوجه تشابهٍ واختلاف مع التجربة الروسية. فلطالما أدّت العلاقات السياسية دورًا بارزًا في الفوز بعقود المشتريات العامة، أو التراخيص والامتيازات الحصرية، أو حق الانتفاع من الموارد الأساسية مثل الأراضي، ولا سيما بعد الخصخصة الجزئية للمؤسّسات المملوكة للدولة في العام 1991، والتي بلغت ذروتها في العام 2009. ولكن، بالرغم من استفادة مسؤولي الهيئات العامة ورجال الأعمال المقرّبين من دوائر النظام من أشكال عدّة من استغلال المعلومات الداخلية والتداول بناءً عليها وتجريد الأصول، لم يترافق ذلك مع تشكّل تكتّلات متنافسة تربط بين الأجهزة الأمنية والعسكرية، والشريحة السياسية، والقطاع الخاص. بل إن العلاقات السياسية تبدّلت وفقًا لمدى القرب من مركز السلطة: فقد تجمّع رجال الأعمال المحظيّون حول النجل النافذ للرئيس الأسبق حسني مبارك، إلى أن أُطيح به في شباط/فبراير 2011، ثم أعادوا تموضعهم حول المؤسّسة العسكرية عندما أصبحت الطرف المُهَيمن في أعقاب انقلاب تموز/يوليو 2013.
وقد حافظت الدولة المصرية عمومًا على تماسكها الداخلي، وبقيت هرميّة السلطة العمودية هي الراسخة، لكن القوات المسلحة أطاحت منذ العام 2013 برجال الأعمال المحسوبين على مبارك والأوليغارشيّين، على غرار ما جرى في روسيا. كذلك، ركّزت المؤسسة العسكرية سيطرتها على الاقتصاد وأنشأت "شركاتٍ عملاقة" باتت تُملي فعليًا شروط الدخول إلى السوق على القطاع الخاص في قطاعاتٍ اقتصادية أساسية – كما فعلت طبقة "السيلوفيكي" في روسيا. لكنّ فارقًا أساسيًا يبقى قائمًا، وهو أنّ روسيا تمتلك إنتاجًا صناعيًا وعلميًا راسخًا، وموارد نفطية ومعدنية مقرونةً بقدرات متقدّمة في التكرير والمعالجة، ونظامًا ضريبيًا واسع النطاق، فضلًا عن قطاع خاص يتميّز بتنوّعه وشموله مقارنةً مع نظيره المصري، بالرغم من المحسوبيات التي تؤدّي دورًا كبيرًا فيه أيضًا.
وبالتالي، على الرغم من امتعاض الطبقة الاقتصادية الروسية من بعض الإجراءات، مثل الزيادات الضريبية العقابية، فهي لا تزال تتمتّع باستقلالية مالية ملحوظة، بل وبنفوذ سياسي خاص في علاقاتها مع الدولة. أمّا القطاع الخاص المصري، فلا يزال أكثر اعتمادًا على الدولة، وأشدّ طفيليّةً في علاقته بها، ويُظهر اختلالًا حادًّا في بنيته الداخلية بين قلّة قليلة من المؤسّسات الكبيرة والمتوسطة، وغالبية ساحقة من المؤسّسات الصغيرة والمتناهية الصغر.
وهكذا، لم تظهَر تكتلات شراكة متنافسة في السياق المصري. فقد أصبحت الإقطاعيات الاقتصادية والمناصب الريعية في السوق جزءًا لا يتجزّأ من الاقتصاد السياسي. ويتجسَّد ذلك بوضوح، على سبيل المثال لا الحصر، في ما يُعرف بـ"جمهورية الضباط"، أي شبكة المتقاعدين العسكريّين المتغلغلين في الجهاز البيروقراطي الضخم للدولة، وفي مؤسّسات القطاع العام والهيئات الاقتصادية العامة، والإدارات المحلية. وتتنافس شبكاتٌ وشللٌ تتألّف من مسؤولي الهيئات العامة، ومسؤولي المشتريات، وضباط القوات المسلحة، سواء أكانوا متقاعدين أم في الخدمة الفعلية، في ما بينها على العقود الحكومية الخاصة باستيراد سلع استراتيجية مثل القمح، ويظهر ذلك في التلاعب الروتيني بالمناقصات والقواعد القانونية ومعايير الصحّة النباتية، من أجل ضمان ترسية العقود عليهم. كذلك بدأت تظهر شراكات جديدة بين القطاعَين العام والخاص، تشمل الأجهزة العسكرية من جهة، وشركات خاصة ناشئة من جهة أخرى، يديرها مقرّبون من النظام أو أقارب ضباط نافذين. مع ذلك، ما من مؤشّرات حتى الآن على أنّ هذه التحوّلات ستُترجم إلى تغييراتٍ داخل هرميّة السلطة العمودية، كما لا تظهر بعد أيّ إشاراتٍ إلى سعي النخب العسكرية والإدارية والاقتصادية بصورة فاعلة إلى إنشاء روابط أفقية ذات بُعدٍ سياسي في ما بينها.
إنّ حصرَ نظام السيسي عمليةَ إنتاج النخب ضمن الدوائر المؤسّسية لما يُعرف بـ"الوزارات السيادية" يسلّط الضوء لا على الموقع السياسي الهامشي للقطاع الخاص فحسب، بل أيضًا على الغياب اللافت لـ" الشريحة الثانية"، وهي القاعدة الاجتماعية الأساسية والطبقة الوسيطة التي يحتاج إليها أيّ نظام لممارسة الحكم ولفرض سلطته. هذا هو العامل الثالث الرئيس الذي يؤثّر على هرميّة السلطة العمودية. فمنذ وصول السيسي إلى سُدة الحكم، عمَد إلى تهميش "الطبقة الوسطى المُعتمِدة تاريخيًا على الدولة" التي كانت تعوّل على التوظيف في القطاع العام الضخم، كما أشار الباحث في العلوم السياسية روبرت سبرينغبورغ. وقد ساهم السيسي أيضًا في إضعاف الطبقات الوسطى الريفية التي شكّلت القاعدة الاجتماعية الأخرى للنظام، أو الشريحة الثانية، من خلال تقييد عملية إحياء الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان أحد أعمدة نظام مبارك. ويسفر افتقار المجتمع المدني إلى الاستقلالية عن عرقلة نشوء قنوات موازية للارتقاء الاجتماعي نحو هرميّة السلطة العمودية وداخلها، إن لم يمنع نشوء هذه القنوات بالكامل، فضلًا عن أنه يغلق الباب أمام المطالب السياسية والتمثيل الاجتماعي. ومع ذلك، لا يتيح النظام حتى لقاعدته الاجتماعية الجديدة، أي الشريحة العليا من الطبقة الوسطى والنخب الثرية، أيَّ شكل من أشكال الاندماج في هرميّة السلطة العمودية، ما يعني أنه يمنع حتى الآن وصول دم جديد من هذه الفئات.
ويبدو أن إصرار السيسي على منع بروز فضاء سياسي عام يُعتدّ به يفسّر قناعته بعدم حاجته إلى شريحة ثانية، مهما كانت وفيّة له أو ضرورية لبقاء النظام على المدى الطويل. وعلى نحوٍ واضح، لا الدولة ولا المجتمع يشكّلان كيانَين متجانسَين، وثمّة الكثير من القنوات والعادات الاجتماعية والاقتصادية المتجذّرة التي تُخفّف من حدّة الجمود السياسي. لكن اعتماد النظام المفرط على دوائره المنفصلة والمغلقة في إنتاج النخب قد يفاقم من هشاشته.
على المدى القصير إلى المتوسط، إذا ما طرأت أزمة مالية أخرى مماثلة لتلك التي عصفت بمصر في العامَين 2022-2023، وهو أمر يبدو لا مفرّ منه، سيتقلّص حجم الكعكة التي يقسّمها السيسي على مجموعة المتنفّذين لترسيخ الولاء داخل هرميّة السلطة العمودية. وقد يؤدّي ذلك إلى توليد توتّرات داخل هذه الهرميّة، ويدفع نحو تشكيل علاقاتٍ أفقية غير مألوفة. تفسّر هذه الديناميّات رفضَ السيسي، خلال جائحة كوفيد-19 ولاحقًا خلال الأزمة المالية، إبطاءَ المشاريع الإنشائية الضخمة التي تتولّى المؤسسة العسكرية إدارتها، على الرغم من الضغوط التي مارسها صندوق النقد الدولي، ومن الارتفاع المستمرّ والهائل في حجم الدين وتكاليف خدمة الدين.
أمّا على المدى الطويل، فقد تنشأ علاقاتٌ أفقية جديدة في السلطة تضمّ أطرافًا غير مألوفين، مع تشكّل برجوازية جديدة ناتجة عن اندماج نواة النظام مع نخب الشريحة العليا من الطبقة الوسطى ضمن طبقة جديدة من أصحاب الرساميل والأملاك. ويبقى السؤال ما إذا كان السيسي أو خلفاؤه في السلطة سيتّخذون خطواتٍ استباقية للتعامل مع هذه التحوّلات، وكيف سيتكيّفون معها عند وقوعها، في حال حصل ذلك، وهو ما سيشكّل اختبارًا صعبًا للجمهورية الثانية التي أسّسها.