أليكس دي فال هو المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، التابعة لكليّة فليتشر للقانون والدبلوماسية في جامعة تافتس في بوسطن. منذ منتصف الثمانينيات، ركّز في أبحاثه على قضايا المجاعة والعمل الإنساني والنزاعات. له كتبٌ عدّة، من بينها Mass Starvation: The History and Future of Famine (التجويع الجماعي: تاريخ المجاعة ومستقبلها) الصادر عن منشورات Polity Press في العام 2017. وقدّم مؤخرًا تحليلًا للكارثة الإنسانية التي يتعرّض لها قطاع غزة في مقالة نُشر في مجلّة London Review of Books. أجرت "ديوان" مقابلة مع دي فال هذا الأسبوع للتحدّث عن موقفه المُعلَن حيال السياسة الإسرائيلية المتمثّلة في تقييد كمية المواد الغذائية التي تسمح بدخولها إلى غزة، والتداعيات الأوسع الناجمة عن ذلك.
مايكل يونغ: في مقابلةٍ أجريتَها مؤخرًا مع شبكة Democracy Now (الديمقراطية الآن)، ذكرت أنك خلال عملك على مدى 40 عامًا في قضايا المجاعات والأزمات الغذائية والمجال الإنساني، لم تقع "على حالة تجويعٍ جماعي للسكان تمّ التخطيط لها بدقّةٍ متناهية، ومراقبتها عن كثب، على غرار ما يحدث في غزة اليوم". هلّا توضح لنا ما تقصده من ذلك، وتشرح لنا ما الذي دفعك إلى قول ما قلت؟
أليكس دي فال: لنلقِ نظرةً فاحصة إلى المجاعات في التاريخ الحديث. لقد كانت المجاعات الجماعية التي نهشت كلًّا من السودان وجنوب السودان والصومال وإثيوبيا (إقليم تيغراي) وسورية واليمن – وهي كلها من صنع الإنسان، وكلها استُخدم فيها الجوع كسلاح حربٍ - أكبر من حيث الحجم، أي من حيث عدد الأشخاص الذين تضرّروا منها أو الذين هلكوا من جرّائها، مقارنةً مع غزة. وبلغت بعض هذه المجاعات درجةً مماثلة من الحدّة، مثل المجاعة المنتشرة في مدينة الفاشر ومحيطها في السودان اليوم.
لكن الكارثة الإنسانية في غزة اليوم تختلف عن سواها من ناحية أن الوضع يمكن معالجته بين ليلةٍ وضحاها لو اختارت إسرائيل ذلك. فعلى بُعد ساعةٍ واحدة بالسيارة من المجتمع المحلّي المنكوب، ينتشر فريق الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الأخرى التي تملك الموارد والمهارات والخطط والشبكات وكل ما يلزم لإطلاق استجابةٍ إنسانيةٍ شاملة. لو قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أن يتناول كل طفل في غزة وجبة الفطور في صباح اليوم التالي، لأمكن تحقيق ذلك. على سبيل المقارنة، عندما سُجِّلت إصاباتٌ بشلل الأطفال في غزة قبل عامٍ، سهّلت إسرائيل إجراء حملة تلقيحٍ شاملة ضدّ هذا المرض على نحوٍ سريعٍ وفعّال.
الواقع أن إسرائيل تتحكّم بكل شحنة مساعدات تدخل إلى غزة. وتقرّر أين باستطاعة الناس أن يقطنوا ومتى يجب أن ينتقلوا إلى مكانٍ آخر. وهي تفتّش كل سلعة، وتسيطر على إمدادات المياه والكهرباء. كذلك، تراقب كل شحنة معونات وتطلق النار بانتظامٍ على مقدّمي المساعدات وعلى الناس أثناء انتظارهم الحصول على المساعدات. لدى مؤسسة غزة الإنسانية، وهي المنظمة المثيرة للجدل المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي تأسّست لإيصال المساعدات إلى غزة، أربعة مواقع توزيع تفتح أبوابها لساعاتٍ محدّدة جدًّا. ويتمّ الإعلان عن ذلك في توقيت تختاره إسرائيل، ما يُرغم الناس على البقاء في حالة ترقّبٍ، وفي مكان قريب، بانتظار أن يأتي الإعلان. هذا شكلٌ من أشكال السيطرة الصارمة والدقيقة للغاية على جوانب حياتية أساسية. وهذا الوضع ليس وليد الصدفة إطلاقًا، فإسرائيل تعرف تمامًا ما تفعله.
يونغ: تحدّثتَ أيضًا في المقابلة إلى أن الوضع في غزة كان متوقّعًا. فقد حذّر الخبراء منذ أشهر من خطر حدوث مجاعة، لكن لم يُتَّخذ أي إجراء لمنع وقوعها. لماذا الأمر كذلك، ولماذا لا تثير هذه الحالة أكثر من مجرّد ردود فعل شكلية في الكثير من الدول الغربية التي عادةً ما تصوّر نفسها على أنها المدافع الأبرز عن حقوق الإنسان والقيم الإنسانية؟
دي فال: لجريمة التجويع خصوصيةٌ مهمّة تفرّقها عن جرائم الحرب الأخرى. من الممكن أن يقصف طيّارٌ مستشفى عن طريق الخطأ. فقد تكون لديه معلومات غير صحيحة أو قد يقترف خطأً، وبمجرّد إطلاق القنبلة يستحيل التراجع. لكن القائد العسكري لا يمكنه تجويع السكان عن طريق الخطأ. فعملية التجويع تستغرق أسابيع، تتوافر خلالها معلوماتٌ عن النتيجة. وفي حالة غزة، صدرت مرارًا وتكرارًا تحذيراتٌ موثوقة حول النتيجة المرتقبة عن الأمم المتحدة وشبكة أنظمة الإنذار المبكر بالمجاعة التابعة للولايات المتحدة. كان هذا الوضع قابلاً للتوقّع، وتمّ توقّعه بالفعل. ومن المفارقات التي تُثبت ذلك، حينما ضغطت الحكومة الأميركية على إسرائيل للسماح بدخول المعونات الإنسانية إلى غزة بين آذار/مارس وأيار/مايو 2024، لمنع الوضع من تجاوز الحدّ الذي تعلن عنده الأمم المتحدة حدوث "مجاعة"، سمحت إسرائيل بإيصال المزيد من المساعدات، وتحسّن الوضع بشكلٍ طفيف. وهكذا، تمّ أحيانًا اتّخاذ احدّ الأدنى الكافي من الإجراءات للحيلولة دون تجاوز هذه العتبة المبهمة والاعتباطية إلى حدٍّ ما. ولكن في غضون ذلك، استمرّت حالة الطوارئ الإنسانية الكارثية. لا يمكن حصر "المجاعة" بتعريف ثنائي جامد: فمجرّد أن الوضع لم يبلغ عتبة "المجاعة" رسميًا لا يعني أنه لا يشكّل كارثةً إنسانية.
يونغ: أشرتَ إلى أن الإمدادات الغذائية التي تدخل إلى غزة غير كافية وأن الناس يخاطرون بحياتهم للحصول على كميات قليلة من الغذاء المتوافر. استنتاجُك هو أن إسرائيل تتسبّب عمدًا بهذا الوضع. ما غايتها من ذلك؟
دي فال: لا أستطيع التحدّث مباشرةً عن النوايا الإسرائيلية. ولكن يمكنني القول إن طريقة عمل مؤسسة غزة الإنسانية، إلى جانب القيود المستمرة على أشكال أخرى من المساعدات الإنسانية والهجمات على العاملين في مجال الإغاثة والبنى التحتية للمساعدات، تتوافق مع خطةٍ لنقل السكان قسرًا إما إلى مناطق صغيرة وصفَها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت بأنها "معسكرات اعتقال"، أو إخراجهم من غزة تمامًا. في غضون ذلك، يسهم هذا المزيج من استخدام التجويع وحصص الإعاشة كسلاحٍ في تمزّق النسيج الاجتماعي في غزة، وفي إهانة سكانها وتجريدهم من إنسانيتهم.
يونغ: هل ترى أن ما يحدث في غزة يشكّل إبادة جماعية؟
دي فال: في 28 آذار/مارس 2024، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا يلزم إسرائيل بتنفيذ تدابير مؤقّتة لضمان توفير مساعدات إنسانية شاملة وعاجلة إلى غزة، من دون معوّقات، وبالتعاون الكامل مع الأمم المتحدة. وقد صوّت القاضي الإسرائيلي المنتدب في محكمة العدل الدولية، أهارون باراك، لصالح ذلك، فصدر القرار بالإجماع. وصوّتت المحكمة بأغلبيةٍ ساحقة (14-2 و15-1) على تدابير مختلفة بعض الشيء، مفادها أن السماح بدخول المساعدات هو التزام بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ما يعني أن عدم قيام إسرائيل بذلك يُعتبر إخلالًا بالتزامها بمنع الإبادة الجماعية. وكما هو معلومٌ، لم تفِ إسرائيل بهذه الالتزامات.
تهدف اتفاقية منع الإبادة الجماعية في المقام الأول إلى الحؤول دون ارتكاب جريمة الإبادة. أما مسألة ما إذا حدثت إبادة جماعية أم لا، فتُعدّ ثانويةً مقارنةً مع المسألة الأهم، وهي ما إذا كانت إسرائيل والدول الأخرى الموقّعة على اتفاقية منع الإبادة الجماعية تفي بالتزاماتها بمنع الإبادة. وهي لا تفعل ذلك.
يونغ: عند النظر إلى الصورة الأشمل، كيف تُدرج غزة ضمن السياق الأوسع للعلاقات بين القوى العالمية منذ نهاية الحرب الباردة؟ هل تشكّل غزة حالةً فريدة من نوعها ستترك تأثيرًا دامغًا على العلاقات بين "الغرب وبقية العالم"، أم أنها ستدخل طيّ النسيان بمجرّد انتهاء القتال؟
دي فال: أُرسي على مدى أربعين عامًا نظامٌ إنساني ليبرالي، مُتجذّرٌ في منظمة الأمم المتحدة، ويحظى بشكلٍ أساسي على التمويل من الولايات المتحدة وأوروبا. كان لهذا النظام منتقدوه (وأنا منهم). ومع ذلك، أدّى إلى انخفاضٍ تاريخي في عدد المجاعات والوفيات الناجمة عنها. لكن هذا النظام سقط اليوم. فقد تقلّص تمويله بشكلٍ كبير، ولا سيما في الولايات المتحدة، ولكن أيضًا في أوروبا. وتعرّضت مؤسساته ووكالاته لحملة هجماتٍ منظّمة. فإلى جانب حلّ الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، يُعدّ الهجوم على وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أبرز هذه التجلّيات. يُضاف إلى ذلك الضرر اللاحق بشبكات المعلومات إلى جانب المؤسسات، ما عرقل بشدّة أنظمة الإنذار المبكر التابعة للأمم المتحدة والولايات المتحدة بشأن الأزمات الإنسانية. والأهم ربما ما يجري من تقويضٍ للمعايير والمبادئ الدولية، إذ يتمّ استبدال النزعة الإنسانية الليبرالية ببرامج مساعدات مختلفة على ارتباطٍ وثيق بأهداف عسكرية وقومية وغيرها من الأهداف الضيقة. ويظهر ذلك جليًا من خلال مؤسسة غزة الإنسانية التي تستند إلى عسكرة توزيع المساعدات تحت راية "العمل الإنساني". ومن المرجّح أن تحذو منظماتٌ أخرى حذو هذه المؤسسة.
يونغ: نظرًا إلى الضغوط السياسية، التي تمارسها الولايات المتحدة خصوصًا، على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، هل تتوقّع أن يَمثُل مرتكبو هذه المجاعة في غزة أمام العدالة؟
دي فال: قد تتّخذ العدالة أشكالًا عدّة. ومن غير الضروري أن تتحقّق من خلال صدور إدانةٍ في محكمة. فثمّة مجموعة كاملة من تدابير العدالة الانتقالية المتاحة، بدءًا من الاعتذارات ومبادرات إحياء الذكرى، ومرورًا بردّ الاعتبار للضحايا والتعويضات، ووصولًا إلى ضماناتٍ بعدم تكرار الانتهاكات. ويقع في صميم هذه الإجراءات السماح للناجين باستعادة كرامتهم واحترامهم الذاتي، وضمان الاعتراف بمعاناتهم واحترام حقوقهم المستقبلية.
أما في محكمة الرأي العام العالمي، فيصدر الحكم يوميًا بأن الحكومة الإسرائيلية مسؤولةٌ عن ارتكاب أفعالٍ لاإنسانية ستؤثّر على إسرائيل لفترة طويلة، وربما إلى الأبد.