المصدر: Getty
مقال

الدولة السورية بعد أحداث السويداء

لم تكن الاشتباكات الأخيرة مجرّد حادثٍ أمنيٍّ عابر، بل نكسةً عميقة للمجتمع.

نشرت في ٢٤ يوليو ٢٠٢٥

بعد أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية، تخوض سورية أصعب معاركها حتى الآن، وهي إعادة تشكيل الدولة خلال مرحلةٍ انتقاليةٍ معقّدةٍ تشابكت فيها الديناميكيات المحلية والإقليمية. فالأحداث الأخيرة التي شهدتها السويداء، والتي سرعان ما تحوّلت إلى عنفٍ طائفي، كشفت حدود السيطرة المركزية ومحاولات فرض السيادة في سياقات محلية هشّة. لقد عاد جنوب سورية، الذي لطالما كان منطقة نفوذٍ مُتنازَع عليها، إلى الواجهة كساحة صراع، حيث امتزجت النزعة المحلية بالطائفية، وحيث اصطدمت السياسات الوطنية بالطموحات الإقليمية.

اندلعت اشتباكات السويداء عقب خطف تاجرٍ درزيٍّ على يد مجموعة بدوية في منطقةٍ لطالما شهدت خصومةً بين الدروز والبدو. وسرعان ما تصاعدت هذه الحادثة إلى عنفٍ طائفي واسع النطاق، تخلّلته هجمات انتقامية وإعدامات ميدانية. فأرسلت الحكومة الانتقالية، بقيادة أحمد الشرع، قوات حكومية إلى السويداء لإعادة فرض النظام، إلّا أن العملية العسكرية فشلت تكتيكيًا وسياسيًا، إذ اتُّهِمَت هذه القوات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان ضدّ المدنيين الدروز. في غضون ذلك، اغتنمت إسرائيل الفرصة لتنفيذ قرار اتّخذته في شباط/فبراير الماضي يقضي بإبقاء جنوب سورية منطقةً منزوعة السلاح، ووفت بتعهّدها بحماية الدروز في السويداء من خلال قصف مبنى قيادة الأركان في دمشق، ومنطقة قريبة من القصر الرئاسي. أدّى ذلك إلى تدخّل خارجي لمنع التصعيد، ما أفضى إلى اتفاق بين الولايات المتحدة والسلطات السورية، فاضطّرت القوات الحكومية السورية إلى الانسحاب من السويداء، ومذّاك الحين يسود وقف هشّ لإطلاق النار.

وفي ذروة القتال، احتشدت العشائر البدوية على أطراف محافظة السويداء تضامنًا مع أبناء جلدتها من البدو، ولكن كانت تعوزها قيادةٌ موحّدة. وحوّل القتال بين البدو والدروز، في ظلّ انتشار القوات الحكومية في الخلفية، النزاعَ من خلافٍ محلي محدود نسبيًا إلى صراع متعدّد الأطراف معقّد ذي تداعيات إقليمية.

يكمن الخطر اليوم في تقاطع مساراتٍ ثلاثة: رغبة الدروز في طلب الحماية؛ واستعداد القيادة السورية لبسط سلطتها وسيادتها باستخدام القوة؛ وعزم إسرائيل على توسيع نطاق نفوذها في جنوب سورية. وما اعتبرته دمشق ضوءًا أخضر من الإسرائيليين لتوسيع سلطتها لتشمل محافظة السويداء، والذي قيل إنه أُعطي خلال محادثاتٍ في باكو في أذربيجان، اعتبرته إسرائيل انتهاكًا صارخًا للتفاهمات الذي توصّل إليها الطرفان. فكانت النتيجة كارثية: سفك دماء، وأزمة ثقة في القيادة السورية، وتوازنات قوى جديدة في جنوب سورية.

لم يكن ما جرى في السويداء مجرّد حادثٍ أمنيٍّ عابر، بل نكسة عميقة للمجتمع السوري. فقد أصبح العنف محفّزًا للاستقطاب الطائفي، ما يهدّد بتعطيل عملية الانتقال السياسي في البلاد، وتقويض التعايش بين مختلف طوائفها، وبين المواطنين والدولة الناشئة. هذا وصوّرت السلطات أعمالَ العنف بلغةٍ ثنائية: خيرٌ مقابل شرّ، ووطنيٌّ مقابل خائن، ومع الدولة أو مع الفوضى. وصُوّر الزعيم الروحي الدرزي البارز، الشيخ حكمت الهجري، على أنه رمز للتمرّد والخيانة، مع إغفال السياق الأوسع: إذ إن نفوذ إسرائيل في جنوب سورية لم ينشأ بين ليلة وضحاها، بل ترسّخ على مدى سنوات بعدما انسحبت السلطات المركزية من المنطقة، التي اتّسمت بغياب تامّ للأمن.

لم ينعم جنوب سورية بالهدوء يومًا. فبعد العام 2013، بات حقل تجارب لنماذج مختلفة من النفوذ الإقليمي، بدءًا من انخراط إيران الواسع النطاق في محاولة لحشد قواتٍ حليفةٍ لها في المنطقة، وصولًا إلى تجربة الجبهة الجنوبية، وهو تحالفٌ من الفصائل المسلحة المدعومة من الولايات المتحدة وحلفائها العرب. لقد أعاد هذا الواقع تشكيل الجنوب السوري بالكامل، وحوّله إلى ساحةٍ للتنافس الإقليمي. في الوقت الراهن، يبدو أن إسرائيل تحاول بناء منطقة نفوذٍ لها في الجنوب، مستوحيةً الفكرة من النموذج التركي شمال البلاد. ويشمل مخططها ترتيبات محلية مع إدارات غير رسمية في المنطقة بدعمٍ أمني خارجي، على أن تصبّ جميعها في خدمة مصالح إسرائيل، لكن من دون فرض سيطرةٍ إسرائيليةٍ مباشرة. هذا هو مفهوم "الحدود المرنة"، حيث تغيب السيادة الواضحة وتحلّ محلها تفاهماتٌ مُبهمةٌ تحقّق أهدافًا خارجية.

لا تكمن الخطورة الكبيرة لهذا المشروع في تداعياته العسكرية وحسب، بل أيضًا في تقويضه النسيج الاجتماعي. فتحويل السويداء إلى ساحة نفوذٍ خارجي بصورة دائمةٍ لا يسهم سوى في ترسيخ ظاهرة الكانتونات، بحيث قد يستتبع كلّ نزاعٍ محلي يطرأ تَدخّلَ قوى إقليمية أو دولية. كذلك، يؤدي إلى إرساء معادلةٍ مميتةٍ تتمثّل في انعدام الثقة بين السوريين وغياب سلطة واحدة تقودهم. لقد وضع الخطاب الانقسامي، الذي طفى على السطح خلال أزمة السويداء، الأساس لبروز وعيّ سوري منقسم عاجزٍ عن تحقيق الاستقرار.

كشفت أحداث السويداء في نهاية المطاف أن النهج الذي تتبنّاه الحكومة الانتقالية لإعادة بناء دولةٍ مركزيةٍ على النموذج البعثي، لم يَعد مُجديًا وحسب، بل قد يكون خطيرًا حتى. فأعمال العنف لم تكن حدثًا معزولًا، إذ شكّلت امتدادًا لأنماط برزت في وقت سابق في المناطق الساحلية السورية واتّسمت ببعدٍ إيديولوجي سياسي، أسهم في تعزيز الهويات السياسية والطائفية، ودفَعَ المجتمعات المحلية إلى التشبّث بسلاحها. وينطبق هذا بشكل خاص على دولةٍ كسورية، حيث المؤسسات الوطنية ضعيفة أو مُنهارة، لكنه قد ينطبق أيضًا بدرجة أقل على لبنان.

هذا النمط من العنف ليس محصورًا بالضرورة في المناطق الجنوبية أو الساحلية لسورية، فقد يمتدّ إلى مناطق أخرى مثل شرق سورية، حيث يقيم الأكراد، أو المناطق الحدودية مع لبنان، حيث يعيش الكثير من الشيعة في سهل البقاع. وقد تتسّع رقعة العنف نتيجة التفاعل بين الهويات السياسية المتضاربة، والضعف المؤسسي، والاحتكاكات الناجمة عن مناطق النفوذ الإقليمي المتداخلة. وفي مثل هذه البيئات المتقلّبة، لن يكون العنف أداة للإكراه وحسب، بل أيضًا وسيلةً لتشكيل هويةٍ جماعيةٍ في غياب الدولة.

سورية في مرحلة ما بعد الحرب ليست مجرّد دولةٍ بحاجة إلى إصلاحاتٍ مؤسسية، بل هي كيانٌ متعدّد الأبعاد يستوجب عملية إعادة تعريف مُعمّقة. إن الوضع الراهن يستلزم أكثر من إعادة نشر القوات أو فرض السيطرة بالقوة، إنه يتطلّب تصوّرًا سياسيًا جديدًا يعترف بمراكز قوة متعدّدة وحكم تشاركي، ويعتمد التفاوضَ في إدارة النزاعات. مثل هذا النهج قد يُبعد سورية عن أوهامٍ لم تعد تبدو ممكنة، وتتمثّل في إقامة دولةٍ موّحدةٍ وشديدة المركزية.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.