أنهيتُ في الآونة الأخيرة قراءة السيرة التي وضعها جون فولين عن إيليتش راميريز سانشيز المعروف باسمه الحركي كارلوس الثعلب. في البداية، كنت متشوّقًا لمعرفة كيف انسجمت مسيرته المهنية مع السياسات الفلسطينية خلال سبعينيات القرن المنصرم، عندما أصبح كارلوس للمرة الأولى "ثائرًا محترفًا"، على حدّ تعبيره أثناء محاكمته في فرنسا في العام 1997. وقد اشتهر كارلوس بدايةً في كانون الأول/ديسمبر 1974، حين اقتحم مع معاونيه مقرّ منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك) في فيينا واحتجزوا عددًا كبيرًا من وزراء النفط كرهائن.
وفيما يأتي فولين على ذكر علاقات كارلوس بالفلسطينيين، لا ينغمس كثيرًا في السياسات الداخلية الفلسطينية. كان بسّام أبو شريف هو من جنّد كارلوس بتكليف من وديع حدّاد، القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. لكن مساره بعد احتجاز الرهائن في فيينا سلك اتّجاهًا آخر. فالعملية التي خطّط لها حدّاد كانت تهدف إلى تأمين التمويل للجبهة الشعبية، بيد أن التعليمات التي تلقّاها كارلوس قضت أيضًا بقتل وزيرَي النفط السعودي والإيراني. لكنه أحجم عن إعدامهما، وأخفى على ما يبدو الفدية في الجزائر، "لصالحه هو، وليس لصالح المجموعة"، وفقًا لهانز يواكيم كلاين، أحد المشاركين في العملية.
وحين اجتمع كارلوس مع حدّاد في اليمن الجنوبي لتقويم ما حدث، أنّبه القيادي الفلسطيني. فقد أُفيد بأن حدّاد قال له: "النجوم سيّئون جدًّا في اتّباع التعليمات. أنت لم تتبع تعليماتي. ولا مكان للنجوم في فرق عملياتي. يمكنك المغادرة". مع ذلك، السؤال الأوسع نطاقًا هو، ما المغزى الذي حملته فعليًا تلك الحقبة وما تخلّلها من عمليات اختطاف وغيرها من الأفعال المماثلة؟ حتى آنذاك تطرّق النقاش الدائر داخل القيادة الفلسطينية إلى جدوى العمليات العنيفة ذات الصدى الواسع، مثل إقدام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على اختطاف أربع طائرات ركّاب، حُوِّل مسار ثلاثٍ منها إلى الأردن في أيلول/سبتمبر 1970 أو احتجاز رهائن إسرائيليين خلال الألعاب الأولمبية في ميونخ على يد منظمة أيلول الأسود في أيلول/سبتمبر 1972. لكن صحيحٌ أيضًا أن قادةً فلسطينيين بارزين كانوا منخرطين في التحضير لهذه العمليات، كما أوضح مخطّط عملية ميونخ محمد داود عودة، المعروف باسمه الحربي أبو داود، في مذكّراته التي نُشرت في العام 1999.
على المستوى الشخصي، أثناء قراءتي هذه السيرة، تَبادر إلى ذهني كيف تقاطع سبيلي نوعًا ما مع عالم الدسائس هذا على مستويات عدّة. فبين العامَين 1984 و1985، حين كنتُ طالبًا في الجامعة الأميركية في بيروت، كان أحد أصدقائي المقرّبين شابٌّ يُدعى هاني، اعتاد التحدّث عن الوقت الذي أمضاه في سنّ المراهقة في بغداد وبرلين الشرقية. بدا ملمًّا للغاية بشؤون الشرق الأوسط، وسألني ذات مرّة إن كنتُ قد سمعتُ بحركة القوميين العرب النافذة إقليميًا. حالت معرفتي المحدودة جدًّا بالمنطقة آنذاك دون إدراكي مع من كنتُ أتحدّث. ولم أكتشف إلّا لاحقًا أنه نجل وديع حدّاد، أحد مؤسّسي حركة القوميين العرب، وقائد فرع العمليات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي عمل كارلوس لفترةٍ تحت قيادته.
رأيتُ هاني مرّةً واحدةً بعد انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، حين جمعتنا الصدفة في أحد مطاعم وسط بيروت. وبعد سنواتٍ وصلني خبر وفاته قبل الأوان إثر نوبةٍ قلبية. وندمي الشديد هو أننا لم نستأنف صداقتنا منذ أيام الجامعة، لأنه كان دومًا شخصًا آسرًا يطيب للمرء تبادل أطراف الحديث معه. ولو أننا التقينا لكنتُ أطلعتُه أيضًا على أمرٍ مُلفت من جانبي.
فحينما اختطف رجال حدّاد طائرةً تابعةً للخطوط الجوية الفرنسية متّجهةً إلى عنتيبي، أوغندا، في حزيران/يونيو 1976، لتأمين الإفراج عن سجناء تحتجزهم إسرائيل، كان الربّان ميشال باكوس، ابن خال والدتي. آنذاك رفض هو وطاقمه ترك الركّاب اليهود عندما سمح لهم الخاطفون بالمغادرة. ولم يُذكَر بما فيه الكفاية أن باكوس هو ابن أبٍ لبناني نشأ في مصر. هذا وساهمت الغارة الإسرائيلية الناجحة لتحرير الرهائن في تعزيز أسطورة القوة الإسرائيلية التي لا تُقهَر، وأعطت زخمًا للمسيرة السياسية لمرتكب المجازر في غزة اليوم، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قُتِل شقيقه جوناثان أثناء قيادته فريق الكوماندوز.
وثمّة صلاتٌ أخرى أبقت الواقع الفلسطيني حاضرًا دائمًا. فوالدة وشقيقة علي حسن سلامة، الذي اعتُبِر لفترة طويلة المسؤول عن عملية ميونخ التي أسفرت عن مقتل عددٍ من الرياضيين الإسرائيليين، كانتا جارتَينا في بيروت. نفى أبو داود أيّ علاقةٍ لسلامة بعملية ميونخ، إلا أن ذلك لم يمنع الإسرائيليين من اغتياله بسيارة مفخّخة في 22 كانون الثاني/يناير 1979، على مقربة من مدرسة الروضة التي أسّسها شقيق وديع حدّاد لسخرية القدر. كانت والدتي تزور والدة سلامة باستمرار، وفي صيف العام 1982، عندما احتلّت القوات الإسرائيلية حيَّنا، تساءلتُ كيف كان شعورها وهي ترى قتلة ابنها وهم يتسّكعون تحت نافذتها مباشرة.
ومن الجدير بالذكر أن سلامة قُتِل أيضًا على بُعد مئة متر من المكان الذي اغتال فيه الإسرائيليون ثلاثة قادة فلسطينيين في نيسان/أبريل 1973، اثنَين منهم في المبنى نفسه حيث كان يقطن أقرب أصدقائي آنذاك. وصف هذا الأخير هو وأشقّاؤه لاحقًا ما سمعوه في تلك الليلة، وضحكنا ملء قلوبنا إذ كان للبوّاب، وهو رجلٌ سيّئ المزاج لم يكفّ عن مضايقتنا، نتوءٌ ضخمٌ على رأسه لأن الإسرائيليين ضربوه وأفقدوه وعيه عند دخولهم المبنى.
ذلك كان عالم "الثورة" الفلسطينية، ولكنه كان أيضًا عالمنا وعالم كثيرين غيرنا في بيروت آنذاك. انهار ذلك العالم في صيف العام 1982، عندما اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان. لكن الأمور كانت بدأت تنهار بالفعل في نيسان/أبريل 1975، حين سمح الفلسطينيون لأنفسهم بالانجرار إلى الحرب الأهلية اللبنانية. وقد أدّت انتصاراتهم المبكرة إلى دخول الجيش السوري في العام 1976 لمنع انتصارٍ فلسطيني كان من الممكن أن يفضي إلى تدخّلٍ إسرائيلي من شأنه أن يشعل صراعًا سوريًا إسرائيليًا. بعد اتفاق كامب ديفيد، تصالح الفلسطينيون والسوريون، ولكن مذّاك الحين أصبح لسورية وزنٌ أكبر في الشؤون الفلسطينية، إلى أن أُخرِجَت الفصائل الفلسطينية من بيروت الغربية في أيلول/سبتمبر 1982.
لقد عايشتُ الحصار الإسرائيلي الذي أدّى إلى هذه النتيجة، ورأيتُ كم خسر الفلسطينيون من رصيدهم لدى السكان المحليين ذوي الغالبية السنّية في ذلك النصف من العاصمة، الذين كانوا يدعمونهم إلى حدٍّ كبير في الماضي. كنا جالسين في ملجأ ذات يومٍ سيّئ للغاية من أيام القصف الإسرائيلي، وجميعنا صامتون في عتمةٍ تامّة، عندما صاحت امرأةٌ مرعوبةٌ فجأة في الرجال الفلسطينيين المسلّحين بيننا: "اطلعوا، اطلعوا، لازم تطلعوا [من بيروت]". بدلًا من أن يعتريهم الغضب، ردّ أحدهم عليها قائلًا: "بدنا نطلع، بس [الإسرائيليون] ما عم بيخلّونا". كان ذلك مشهدًا بائسًا، جعلنا جميعًا نعي أكثر عدم جدوى ما كنا نمرّ به. هل هذا ما كنّا نخاطر بحياتنا من أجله ببقائنا في منطقتنا؟
كشفت تلك المحادثة بؤس المرحلة الفلسطينية الفاصلة في لبنان. فما الذي حقّقته عمليات اختطاف الطائرات وتحويل مسارها إلى الأردن، أو عنتيبي، أو الصومال، على صعيد تحرير فلسطين؟ أو ما الذي أنجزه إطلاق النار على المدنيين في مطار اللدّ في أيار/مايو 1972؟ مناشدة للسماح بمغادرة لبنان من قبو مبنى يتصاعد منه الدخان؟ قد يزعم البعض بأن هذه العمليات وضعت محنة الفلسطينيين في صدارة الاهتمام العالمي. ربما، ولكن بأشدّ الطرق ضررًا بالتأكيد، لأنها ألصقت بقضيةٍ عادلةٍ صفة "الإرهاب" التي لم تتخلّص منها أبدًا، حتى عندما ارتكب الإسرائيليون أبشع الجرائم، كما يفعلون اليوم في غزة.
لربما استطاع كارلوس، الانتهازي بامتياز، رؤية الحقيقة كاملةً. ليست المسألة أن واقعيته جعلته أقلّ حماسةً لاستخدام العنف، بل إن عنفه أصبح مُوَّجهًا إلى حدٍّ كبير نحو تحقيق غاياتٍ شخصية. وممّا لا شكّ فيه أن عملية فيينا كانت أول مؤشّرٍ على توجّهاته، إلا أن غرائزه قادته بحلول أواخر سبعينيات القرن الماضي إلى تأسيس مجموعة صغيرة رسميًا تضمّ أتباعًا أصبحوا فعليًا قتلة مأجورين لأيّ نظام عربي يدفع لهم. يكتب فولين أن موت وديع حدّاد في العام 1978، غالب الظنّ على يد إسرائيل، "خلّص [كارلوس] من منافس قوي على كسب ودّ دول الشرق الأوسط"، وقد انضمّ عددٌ من رجال حدّاد إلى المجموعة الجديدة، التي أُطلِق عليها اسمٌ رنّان هو منظمة الكفاح العربي المسلح.
كان مسار كارلوس طبيعيًا لشخصٍ شهد المنحى الذي اتّخذه الوجود الفلسطيني في بيروت. إذا كانت "الثورة" الفلسطينية تحوّلت إلى مزادٍ للمصالح والتنافسات الإقليمية، مبتعدةً عن معاناة سكان الضفة الغربية وغزة، فما كان من سببٍ يدعو كارلوس إلى سلوك مسار مختلف. ولكنه أصبح سامًّا في السنوات التي تلَت ذلك، إذ عمَد إلى تفجير قنابل في فرنسا لتأمين الإفراج عن زوجته المسجونة ماغدالينا كوب وشريك آخر هو برونو بريغيه. وقد بات كارلوس منبوذًا أكثر فأكثر مع إعادة تشكيل العلاقات الدولية عند نهاية الحرب الباردة، ولم تَعُد الدول التي استقبلته سابقًا تفعل ذلك. ثم انتهى به المطاف في السودان، حيث اختطفه عملاء فرنسيون في آب/أغسطس 1994 وأُعيد إلى باريس، ليوجَّه إليه الاتهام بقتل ثلاثةٍ من عناصر الاستخبارات الداخلية الفرنسية في حزيران/يونيو 1975. وفي العام 1997، حُكِم على كارلوس بالسجن مدى الحياة، وهو لا يزال يقبع في سجن بواسي حتى اليوم.
لم يجد نضال الفلسطينيين مساره الحقيقي، الهادف إلى تأكيد حقوقهم وحريتهم على أرضهم، إلا مع اندلاع الانتفاضة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 1987. هذه العودة إلى الأرض أنقذت الفلسطينيين من بريق المنفى العقيم، ودفعت الإسرائيليين إلى كشف نواياهم تجاه شعبٍ ارتكبوا بحقّه تطهيرًا عرقيًا في العام 1948. أما ما إذا كان الفلسطينيون سيتمكّنون من إقامة دولة لهم، فهذا أمرٌ يبقى موضع تكهّنات، إذ إن الإسرائيليين والأميركيين عازمون على حرمانهم من حقّهم في تقرير المصير. ولكن اليوم على الأقلّ يبدو الطريق الفلسطيني واضحًا نسبيًا، ومختلفًا تمامًا عن المسار الذي ساهم أمثال كارلوس في رسمه.