شهد كهف جاسَنة في محافظة السليمانية الواقعة في كردستان العراق يوم 11 تموز/يوليو مراسم تسليم وحرق أسلحة ثلاثين مقاتلًا من حزب العمّال الكردستاني، كخطوةٍ رمزية لدعم عملية السلام الجارية بين حزب العمّال الكردستاني والحكومة التركية. وقد اكتسب الكهف أهميته عندما استخدمه الزعيم الكردي الشيخ محمود لمقاومة القوات البريطانية خلال عشرينيات القرن المنصرم. وكشف إجراء المراسم في كردستان العراق عن التأثيرات التي قد تحملها عملية السلام للإقليم، نظرًا إلى أن لحزب العمّال الكردستاني حضورًًا راسخًا في كردستان العراق منذ العام 1982، بعد إبرامه اتفاقًا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني. يُشار في هذا الصدد إلى أن آخر عملية سلام جرت بين الجانبَين انهارت في العام 2015.
أعرب كلٌّ من الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني عن دعمهما لعملية السلام. في هذا السياق، التقى وفدٌ من حزب المساواة والديمقراطية للشعوب، وهو حزبٌ مؤيّد للأكراد في تركيا، بقيادتَي الحزبَين، بما في ذلك رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني. وقد نقل الوفد رسالةً من عبد الله أوجلان، رئيس حزب العمّال الكردستاني المسجون، دعا من خلالها بارزاني إلى زيارته.
أعلنت تريفة عزيز، ممثّلة حكومة إقليم كردستان في الولايات المتحدة، أن "حكومة إقليم كردستان دعمت باستمرار التوصلَ إلى حلٍّ سلمي للقضية الكردية في [تركيا]". وأضافت قائلةً: "نعتقد أن الحوار هو السبيل الوحيد المجدي لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، ونشجّع جميع الأطراف على العودة إلى طاولة المفاوضات بحسن نية".
واقع الحال أن الحزبَين الحاكمَين يدعمان مساعي السلام بين حزب العمّال الكردستاني وتركيا منذ العام 1993. مع ذلك، يختلف الوضع الآن عن مساعي السلام السابقة لأن معظم جولات القتال بين حزب العمّال الكردستاني والجيش التركي منذ العام 2019 وقعت في كردستان العراق، ما أثّر على السكان المدنيين المحليين وتسبّب بنزوحهم. وفي تموز/يوليو 2022، أسفرت الغارات التركية عن مقتل تسعة سيّاح عراقيين في منطقة زاخو في الإقليم.
كانت لتركيا خلال السنوات الأخيرة اليد العليا عسكريًا على حزب العمّال الكردستاني، عَقب قيام الجيش التركي بقمع التمرّد الذي قاده مسلّحو حزب العمّال في عددٍ من مدن جنوب شرق تركيا ذي الغالبية الكردية، بعد انهيار عملية السلام في العام 2015. ومنذ العام 2019، أنشأت تركيا أيضًا أكثر من 35 نقطة عسكرية، وتوغّلت قواتها بعمق 15 كيلومترًا إلى داخل أراضي كردستان العراق، وطردت حزب العمّال الكردستاني من أجزاء من محافظة دهوك على طول الحدود. وخلال العام الماضي، كانت أنقرة تخطّط أيضًا لتنفيذ عملية عسكرية في جبل كاره في المناطق الداخلية.
كذلك، طوّر الأتراك طائراتٍ مسيّرة استهدفت مقاتلي حزب العمّال الكردستاني، ما دفعهم إلى الاختباء تحت الأرض في شبكة من الأنفاق التي أنشأها الحزب. وأعلن حزب العمّال الكردستاني هذا العام عن اتّخاذ تدابير مضادّة للطائرات المسيّرة، وأسقط عددًا منها. وفي 6 تموز/يوليو، لقي 12 جنديًا تركيًا حتفهم بعد استنشاقهم غاز الميثان أثناء عملية تمشيطٍ لأحد الكهوف.
ووفقًا لتقريرٍ صادر عن منظمة فرق صانعي السلام المجتمعي، تراجعت الغارات العسكرية التركية بنسبة 97 في المئة مقارنةً مع الشهر السابق، عَقب مراسم تسليم السلاح. إضافةً إلى ذلك، هدأت التوترات بشكلٍ ملحوظ بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمّال الكردستاني. وأفادت وكالة استخبارات الدفاع الأميركية مؤخرًا أن نزع سلاح حزب العمّال الكردستاني، إذا أُنجز، سيكون له على الأرجح تأثيرٌ إيجابي على الاستقرار في شمال العراق، إذا ما ترافق مع انسحاب القوات العسكرية التركية". كذلك، رحّبت الحكومة العراقية بهذه العملية ودعت إلى انسحاب تركيا من العراق، مع أن أنقرة لا تزال تنشئ، بحسب ما أُفيد، قواعد جديدة في البلاد.
نسج الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يسيطر على محافظتَي إربيل ودهوك، علاقةً قوية مع تركيا منذ افتتاح أنقرة قنصليةً لها في إربيل في العام 2010. هذا واستهدفت معظم العمليات البرية التركية مواقعَ تابعة لحزب العمّال الكردستاني بالقرب من المناطق الخاضعة لنفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني في دهوك. وتجدر الإشارة إلى أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يُعدّ تقليديًا منافسًا لحزب العمّال الكردستاني، عارض منذ التسعينيات توسّع حزب العمّال من منطقة جبال قنديل إلى مناطق أخرى تُعتبر ضمن مناطق نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني. وقد اشتبك الجانبان في صراعاتٍ مسلّحة خلال الحرب الأهلية الكردية في منتصف التسعينيات. وفي العام 2020، دعا الحزب الديمقراطي الكردستاني حزبَ العمّال الكردستاني إلى نقل المعركة إلى داخل تركيا، بينما اتّهم حزب العمّال الحزبَ الديمقراطي بالتحضير لشنّ حربٍ ضدّه بالتعاون مع أنقرة.
إضافةً إلى ذلك، أنشأ حزب العمّال الكردستاني موطئ قدم في سنجار بعد شنّ تنظيم الدولة الإسلامية هجومًا على المنطقة في العام 2014. وبعد ست سنوات، وقّعت إربيل اتفاقًا مع بغداد يهدف إلى إخراج حزب العمّال الكردستاني من سنجار، لكنه لم يُنفَّذ قط. ورأت حكومة إقليم كردستان في العام 2021 أن المشاكل الناجمة عن حضور حزب العمّال الكردستاني أدّت إلى زيادة أعداد المهاجرين إلى أوروبا، إذ سعى كثرٌ من الشباب الأكراد إلى الهروب من حالة انعدام الاستقرار السائدة عبر بيلاروسيا. ووفقًا لحكومة إقليم كردستان، تم إخلاء أكثر من 800 قرية من سكانها جرّاء الاشتباكات بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني، ما تسبّب بنزوحٍ جماعي لعددٍ لا يُحصى من المدنيين وتقويض المجتمعات المحلية.
وقع أيضًا احتكاكٌ بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمّال الكردستاني حول آلاف اللاجئين الأكراد المقيمين في مخيّم مخمور بعد أن فرّوا من تركيا خلال التسعينيات، إذ كان حزب العمّال الكردستاني قد جنّد مقاتلين من صفوفهم. ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2017، فرضت السلطات العراقية سيطرتها على مدينة مخمور، ومارست ضغوطًا على المخيّم. وأشار أوجلان مؤخرًا إلى أن لاجئي مخيّم مخمور قد يتمكّنون من العودة إلى تركيا. وفي ضوء هذا، أكّد نور الدين ويسي، مدير المكتب الإعلامي ومستشار رئيس وزراء إقليم كردستان العراق مسرور بارزاني، على أن حكومة إقليم كردستان تدعم بالكامل أيّ محادثات سلام مع تركيا "تهدف إلى وضع حدٍّ للعنف وتمهيد الطريق أمام إرساء استقرار دائم في المنطقة".
وأضاف قائلًا إن "هذه المناطق التي تقع في بعضٍ من أجمل أجزاء الإقليم ذات الإمكانيات الواعدة – ولا سيما من حيث قيمتها السياحية ومواردها الطبيعية – قد عانت الكثير. فإلى جانب التداعيات الاقتصادية والبيئية التي تكبّدتها، أُزهقت أرواح أبرياء كثر نتيجة استمرار الاشتباكات".
صحيحٌ أن تركيا لم تكن قادرةً على تنفيذ عمليات برّية في الأراضي الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني بعيدًا عن الحدود التركية، إلّا أنها شنّت غارات بالطائرات المسيّرة على مواقع تابعة لحزب العمّال الكردستاني في مناطق نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني، وحتى داخل مدينة السليمانية. ولطالما جمعت الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يحكم السليمانية، علاقةٌ أفضل مع حزب العمّال الكردستاني، مع أنه اشتبك معه لفترةٍ وجيزة في العام 2000.
ومنذ 3 نيسان/أبريل 2023، مدّدت أنقرة مرّات عدّة الحظر الجوي الذي فرضته على مطار السليمانية الدولي. كذلك، دعت الاتحاد الوطني الكردستاني إلى قطع علاقته بحزب العمّال الكردستاني. فقد أَسَرَ حزب العمّال الكردستاني في العام 2017 مسؤولَين في الاستخبارات التركية في السليمانية، ما فاقم تدهور العلاقات بين أنقرة والاتحاد الوطني الكردستاني؛ واستهدفت تركيا القائد العام لقوات سورية الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي في مطار السليمانية في العام 2023. هذا وتتولّى وحدات حماية الشعب قيادة "قسد" عسكريًا، وتعتبر تركيا هذه الوحدات امتدادًا لحزب العمّال الكردستاني، فيما تنفي "قسد" هذا الاتهام. وفي 15 آذار/مارس 2023، تحطّمت مروحيّة في كردستان العراق كانت تُقلّ عناصر من "قسد" إلى السليمانية، ما أسفر عن مصرع تسعة أشخاص. سلّطت هذ الحادثة الضوء على الروابط بين القوى الأمنية التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني و"قسد".
لذلك، كان مُلفتًا إجراء مراسم تسليم السلاح مؤخرًا في السليمانية، والتي حضرها أيضًا مسؤولان من جهاز الاستخبارات الوطنية التركية. أحدهما كان قد أُعيد مؤخرًا إلى تركيا بعد أسره على يد حزب العمّال الكردستاني في العام 2017، مع جثمان الضابط الآخر الذي توفي خلال الأسر. وأفاد مسؤولٌ في الاتحاد الوطني الكردستاني، طلب عدم الكشف عن هويته، أن الوسطاء طلبوا رسميًا من الاتحاد الوطني تنظيم مراسم تسليم السلاح. وأضاف أن "البعض اقترح بدايةً إقامتها في أحد المواقع في [محافظة] إربيل، لكن حزب العمّال الكردستاني رفض المقترح واختار موقعًا في [السليمانية]. وشاركت الأجهزة الأمنية التابعة لكلٍّ من حكومة إقليم كردستان والاتحاد الوطني الكردستاني في الحفاظ على الأمن وضمان سلامة العملية".
ولفت المصدر نفسه إلى أن الاتحاد الوطني الكردستاني لا يتوقّع مكافأة من الأتراك مقابل دوره في العملية. وقال: "بما أن الاتحاد الوطني الكردستاني تمنّى بصدق نجاح هذه العملية، وتحقيق السلام أخيرًا [في تركيا] من خلال هذا المسار، من الطبيعي الشعور بالتفاؤل حيال استعادة العلاقات بين الاتحاد الوطني الكردستاني و[تركيا] كنتيجةٍ ثانوية لعملية السلام".
ومؤخرًا، صرّح دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية التركي اليميني المتطرّف، الذي أطلق عملية السلام العام الفائت، بأنه يتوقّع اكتمالها بحلول نهاية العام 2025. ووفقًا لمحمد أ. صالح من برنامج الأمن القومي في معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا، "في حال سلّم حزب العمّال الكردستاني سلاحه، وبادلته الدولة التركية الخطوة عبر منح بعض الاعتراف بحقوق الأكراد ضمن إطارٍ قانوني، فلا شكّ أن ذلك سيحظى بترحيبٍ من الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، كما من الأكراد العراقيين بشكل عام". وأضاف أن ذلك "سيفضي على وجه الخصوص إلى وقف الصراعات في المناطق الحدودية والحدّ من تداعياتها على حياة المدنيين في تلك المناطق. ومن شأن ذلك أيضًا أن يسهم في توطيد العلاقة بين الأكراد العراقيين وتركيا، نظرًا إلى الدور المهم الذي تؤدّيه أنقرة في الشؤون الإقليمية، وإلى موقعها كحليف للغرب".
إذًا، قد تحمل عملية السلام مع تركيا، إن كُتب لها النجاح، تأثيراتٍ كبيرة لمستقبل كردستان العراق على مستويات عدّة، من بينها الاقتصاد والسياحة والاستقرار. كذلك، يُتوقَّع أن تُسهم في تحسين العلاقة بين العراق وتركيا، وبين الأحزاب الكردية العراقية وتركيا، وأن تؤدّي إلى عودة اللاجئين من مخيّم مخمور. ومن شأن نجاح هذه العملية أيضًا إنهاء الحظر الجوي التركي المفروض على مطار السليمانية، وإعادة إحياء العلاقات بين تركيا والاتحاد الوطني الكردستاني. علاوةً على ذلك، قد تفضي عملية السلام إلى إزالة ما يعتبره الحزب الديمقراطي الكردستاني تعديًّا لحزبٍ كردي تركي على أراضي إقليم كردستان العراق. في نهاية المطاف، إن المستقبل وحده كفيلٌ بالكشف عن مدى النور في آخر هذا النفق.