المصدر: Getty
مقال

عامٌ على حربٍ لم تنته

لا يزال المدنيون اللبنانيون ضحايا الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار.

نشرت في ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٥

صادف يوم أمس، الثلاثاء 23 أيلول/سبتمبر، الذكرى السنوية الأولى لتوسّع الحرب الإسرائيلية على لبنان، وما سبّبته من خوفٍ ودمار. فقد بدأت في الجنوب مع تحوُّل القرى الحدودية إلى ساحة معركة، قبل أن تمتدّ إلى سائر المناطق اللبنانية، ولا سيما ضاحية بيروت الجنوبية والبقاع، ليطال القصف وسط بيروت مع احتدام الصراع. وعلى الإثر، شهد لبنان نزوحًا غير مسبوق حوّل شوارع العاصمة إلى ملاذات للباحثين عن الأمان. حاولنا حزم أمتعتنا والمغادرة هربًا من القصف، لكن البيوت التي تركناها تحمل ذكرياتٍ لا تُحزَم في حقيبة. عشنا مزيجًا من القلق والخوف في كل لحظة، وصار النوم حلمًا بعيدًا.

ونظرًا إلى أن الانتهاكات الإسرائيلية لا تزال مستمرّةً، واجهتُ صعوبةً في إنهاء هذا المقال. فكل يومٍ يحمل معه أنباء جديدة عن أحداثٍ تتسارع بشكلٍ يكاد يفوق القدرة على المتابعة.

فما زال لبنان يعيش على وقع اعتداءات إسرائيلية شبه يومية منذ أيلول/سبتمبر 2024. تبرّر إسرائيل غاراتها بأنها استهدافٌ لحزب الله ومنشآته، لكن على الأرض، الضحايا هم المدنيون الأبرياء. فبحسب أحدث تقرير صادر عن وزارة الصحة اللبنانية، بلغ عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على لبنان 4047 قتيلًا و16638 جريحًا، إضافةً إلى تدمير آلاف المنازل والمدارس والمستشفيات.

وقد لفت رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون في بيان صحافي يوم 18 أيلول/سبتمبر الجاري، قائلًا: "إسرائيل لا تحترم عمل الآلية ولا أيًّا من الدول الراعية لاتفاق وقف الأعمال العدائية، وغاراتها الجوية انتهاكٌ فاضح للقرار 1701". وأضاف أن صمت الدول الراعية يشجّع إسرائيل على الاستمرار في خروقاتها، مؤكّدًا على ضرورة اتخاذ موقف حازم لوضع حدٍّ لهذه الانتهاكات.

جاء هذا التصريح ردًّا على غاراتٍ إسرائيلية استهدفت بلداتٍ في جنوب لبنان، مثل ميس الجبل، وكفرتبنيت، ودبين، وبرج قلاوية، والشهابية. ومن بين آخر المجازر التي ارتكبتها إسرائيل حتى الآن غارتها الجوية على مدينة بنت جبيل في الجنوب يوم 21 أيلول/سبتمبر 2025، والتي أسفرت عن مقتل خمسة أشخاص، بينهم ثلاثة أطفال، وإصابة اثنين آخرين. أعلن الجيش الإسرائيلي أن هذه الغارة استهدفت عنصرًا في حزب الله، بينما اعتبرها المسؤولون اللبنانيون جريمة ضدّ المدنيين.

يُشار إلى أن هذه الانتهاكات الإسرائيلية بدأت منذ الساعات الأولى لدخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. فوفقًا للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في 18 مناسبة خلال يومَين فقط من الاتفاق، مستهدفةً بلدة البيسارية في قضاء صيدا، فضلًا عن قرى حدودية، ما أسفر عن إصابة عددٍ من الأشخاص في مركبا. وشملت الخروقات إطلاق النار على مشيّعين، وقصفًا مدفعيًا ورشقات رشاشة على بلدة عيتا الشعب وأطراف مركبا، إضافةً إلى توغّل دبابات إسرائيلية في مناطق لم تصلها خلال فترة المعارك حتى، وتدمير مبانٍ ومنازل في كلٍّ من الخيام، ويارون، وعيترون، والطيبة، وحلتا، وسهل مرجعيون، وكفرشوبا، وشبعا، وفرض قيود مشدّدة على تجوّل السكان.

وتصاعدت وتيرة الخروقات يوم الخميس 28 آب/أغسطس 2025، إثر سقوط  طائرة مسيّرة إسرائيلية وانفجارها في منطقة الناقورة، ما أسفر عن مقتل ضابط وجندي في الجيش اللبناني وإصابة عنصرَين آخرين، بالتزامن مع تمديد مجلس الأمن ولاية قوات حفظ السلام العاملة في الجنوب (اليونيفيل). وفي حادثة أخرى، أسقطت طائرات مسيّرة إسرائيلية أربع قنابل يدوية بالقرب من جنود اليونيفيل أثناء إزالة عوائق، في واحدٍ من أخطر الاعتداءات على قوات حفظ السلام منذ إعلان وقف إطلاق النار.

ومؤخّرًا يوم الاثنين 15 أيلول/سبتمبر 2025، استهدفت إسرائيل مبنى سكنيًا في النبطية، ما أدّى إلى إصابة 12 شخصًا، من بينهم أربعة أطفال، اثنان منهم في حالة حرجة، إضافةً إلى سبع نساء. وبعد ثلاثة أيام على هذه الغارة، دعا الجيش الإسرائيلي سكان قرى عدة في جنوب لبنان إلى إخلائها، تمهيدًا لتنفيذ ضربات جوية قال إنها تتعلق بأهداف تابعة لحزب الله. وهذه العملية ليست إلّا واحدة من سلسلة طويلة من الاعتداءات اليومية التي تتجاوز أي هدف عسكري مُعلَن.

إذًا، النمط اليومي واضح: فالقصف يستهدف المدنيين والبنية التحتية في مناطق الجنوب والبقاع بشكل شبه يومي، ما يترك تداعياتٍ نفسية واجتماعية مدمّرة، خصوصًا على الأطفال الذين يعيشون صدمة مستمرة من أصوات الغارات والدمار في المدارس والمنازل على السواء. وما يزيد الأوضاع سوءًا أنّ المستشفيات تعمل فوق طاقتها، والمزارعين يعجزون عن الوصول إلى أراضيهم، والأطفال ينامون خائفين ويعانون اضطرابات النوم والقلق الحاد.

في غضون ذلك، تحاول إسرائيل التخفيف من حجم انتهاكاتها عبر بياناتها الرسمية. فقد أعلن المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بعد غارة بنت جبيل أن "الجيش الإسرائيلي قضى على أحد عناصر حزب الله وأنه يبدي أسفه حيال إصابة مدنيين […] ويتم التحقيق في الحادث". هذا الخطاب الذي يختزل الضحايا المدنيين في خانة الأضرار الجانبية، يعكس بوضوح قناعة إسرائيل بأن استهداف الأحياء السكنية أمرٌ ثانوي أمام ذريعة "قصف منشآت حزب الله". أما "التحقيقات" التي تتحدّث عنها إسرائيل، فهي لا تغيّر شيئًا في واقع المجازر اليومية.

فيما تبرّر إسرائيل قصفها بذريعة استهداف "عناصر مسلّحة"، اتّهمت منظمة هيومن رايتس ووتش الجيش الإسرائيلي بشنّ هجمات عشوائية على المدنيين في لبنان أثناء الصراع المستمر مع حزب الله. وتحدّثت المنظمة الحقوقية عن توافر أدلّة متزايدة على ارتكاب إسرائيل انتهاكات متكررة للقانون الدولي الإنساني، متّهمةً الجيش الإسرائيلي بعدم التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية في ضربات عدّة تعرّضت لها أنحاء مختلفة من لبنان بين العامَين 2023 و2024.

ومع ذلك، تواصل القنوات التلفزيونية التي تحصد أعلى نسب مشاهدة في لبنان تغطيتها الإعلامية كما لو أن المناطق التي تُقصف، بدءًا من الجنوب ووصولًا إلى البقاع، هي خارج نطاق التغطية. ففي الكثير من الأحيان، تتجنّب إرسال مراسليها إلى هناك إلّا إذا وقعت كارثةٌ كبرى تُرغمهم على الذهاب. كذلك، تُختزل الأخبار في إطار "الغارات الإسرائيلية المتقطّعة" أو "التوتّر الحدودي"، وكأن هذه التطوّرات هي أحداث بسيطة لا تندرج ضمن خانة الحرب. بهذه الطريقة، يتحوّل الواقع الميداني المأساوي إلى خلفية رمادية لصورةٍ عن حياة طبيعية على الشاشات.

هذا التجاهل الإعلامي لا يكتفي بإضعاف الذاكرة الجماعية، بل يمنح إسرائيل فرصةً مضاعفة لإعادة إنتاج خطابها القائم على "الأضرار الجانبية"، وشرعنة استهداف المدنيين تحت ذريعة محاربة حزب الله. وفي ظلّ غياب رواية لبنانية صلبة، تترسّخ سرديةٌ واحدة تُحوّل المأساة إلى تفصيل شكلي. لكن ما يجعل هذه الحرب أخطر من غيرها هو أن الانتهاك لم يعد يحتاج إلى تبرير. فحين يُترك الضحايا بلا صوت، تتحوّل صورهم وأسماؤهم إلى مجرّد أرقام في تقارير عابرة، بينما تواصل الدولة الوحيدة التي تنتهك القوانين الدولية إفلاتَها من العقاب، مُحصَّنةً بدعم سياسي وعسكري من دولٍ أخرى.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.