المصدر: Getty
مقال

سلام أميركا... ما بعده سلام

شكّل اعتراف عددٍ من الدول الجديدة بفلسطين تحدّيًا لسيطرة الولايات المتحدة على مسار المفاوضات مع إسرائيل.

نشرت في ٢٦ سبتمبر ٢٠٢٥

اعتمدت إسرائيل في الأسابيع الأخيرة استراتيجيةً تقوم على الاستهزاء بقرار عددٍ من البلدان الاعتراف بدولة فلسطين. مع ذلك، عندما أقدمت فرنسا والمملكة المتحدة وكندا وأستراليا والبرتغال وبلجيكا على هذه الخطوة في الأمم المتحدة في مطلع هذا الأسبوع، أو أبدت نيّتها الاعتراف بدولة فلسطين، استشاط الإسرائيليون والأميركيون غضبًا. لكن المفارقة الغريبة واللافتة هي أن هذا القرار، الذي سخرت إسرائيل ومؤيّدوها منه واعتبروه "طفوليًا" و"استعراضيًا"، بل حتى "سخيفًا"، أثار ردَّ فعل مبالغًا فيه إلى هذا الحدّ.

لُذِعَ الإسرائيليون، وكذلك الأميركيون، بقرارات الاعتراف هذه. صحيحٌ أن بإمكانهما اتّخاذ الكثير من التدابير لتقويض مسار إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما سيفعلونه بالطبع. لكنهم يدركون أيضًا أن اتخاذ خطوات أُحادية الجانب لمنع قيام دولة فلسطينية، مثل إقدام إسرائيل على ضمّ الضفة الغربية وقطاع غزة، قد يثير ردود فعل دولية قاسية. الواضح هو أنّ الأميركيين والإسرائيليين أدركوا على ما يبدو أنهم فقدوا السيطرة على السردية الفلسطينية الإسرائيلية التي أمضوا عقودًا في احتكارها والتلاعب بها.

لفهم ما يجري اليوم، لا بدّ من التذكير بأن الولايات المتحدة لم تعترف يومًا بالدولة الفلسطينية. قد يبدو ذلك مستغربًا، نظرًا إلى رعاية الأميركيين لمفاوضات ما بعد اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين. ولكن لعقودٍ طويلة، اعتمدت الإدارات الأميركية المتعاقبة مقاربةً مفادها أن النتيجة النهائية للمفاوضات يجب أن تُحسَم في سياق المفاوضات نفسها. بعبارة أخرى، رأت أن الهدف المرجوّ من المفاوضات بين الطرفَيْن هو في حدّ ذاته مسألة قابلة للتفاوض. وقد أتاح ذلك لإسرائيل أن تنتزع تنازلات من الفلسطينيّين بشكل منهجي من دون أن تواجه أي ضغوط لملاقاتهم من خلال الاعتراف بحقهم في تقرير المصير، وفي إقامة دولة في نهاية المطاف.

وقد تجسّدت هذه المقاربة للمرة الأولى في شباط/فبراير 1972، حين اتخذت إدارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون قرارًا مهمًا في إطار جهودها المنهجية لإفراغ القرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في العام 1967 من مضمونه. فقد أكدت واشنطن في أكثر من مناسبة آنذاك أن إسرائيل ليست مضطرة للالتزام بانسحابٍ كامل من الأراضي العربية المحتلة في إطار أيّ اتفاق مرحلي مع العرب. وقد تبنّت الولايات المتحدة المنطق نفسه في مسار أوسلو، حيث تمكنت إسرائيل من الانخراط في دورات لامتناهية من المفاوضات الانتقالية، من دون أن تلتزم بالاعتراف بالدولة الفلسطينية.

من خلال الاعتراف أحاديًا بدولة فلسطين، تحدّت دولٌ حليفة للولايات المتحدة، معظمها أوروبية، هذا المنطق المستمرّ منذ عقود. فمن أجل حماية إسرائيل، سعت الإدارات الأميركية المتعاقبة إلى فرض نفسها بوصفها الراعي الوحيد لأيّ مفاوضات تشمل الإسرائيليين. وهذا ما يفسّر عدم إبداء واشنطن حماسةً لمؤتمر جنيف في كانون الأول/ديسمبر 1973، الذي ترأسته مع الاتحاد السوفياتي. لم يُفضِ المؤتمر إلى أيّ نتيجة، إذ فضّلت إدارة نيكسون التعامل مع العرب والإسرائيليين مباشرةً من دون تدخل موسكو. أما الدول التي اعترفت أخيرًا بفلسطين، فقد خلُصت فعليًا إلى أن العملية التي تقودها الولايات المتحدة قد فشلت، وأن إسرائيل، بدعم أميركي، تسعى إلى وأد فكرة الدولة الفلسطينية، وبالتالي ما من سبب يستدعي بعد الآن الرضوخ لواشنطن كلّما عبّرت عن استيائها.

إذا لم تعُد الولايات المتحدة تُعتبر الراعي الذي لا غنى عنه للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فهذا يشكّل أساسًا لتدويل هذه العملية، أي أن تتولّى أطراف أخرى من المجتمع الدولي دفع مسار السلام قدمًا. بطبيعة الحال، لن توافق إسرائيل على ذلك. لكن اعتراف أكثر من 150 بلدًا بدولة فلسطين، خلافًا لرغبة إسرائيل والولايات المتحدة، يعني أنّ الطرفَين سيدفعان ثمنًا دبلوماسيًا متزايدًا لرفضهما الاعتراف بالخيار السياسي للأغلبية، إن لم نقُل تبنّي هذا الخيار.

ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى عاملٍ ثالث أقلق الإسرائيليين والأميركيين، وهو المزاج الأشبه بحالة تمرُّد داخل الأمم المتحدة، وهي المنصة المختارة للاعتراف بفلسطين. فعلى الرغم من التوترات القائمة بين الولايات المتحدة وعدد كبير من الدول الأعضاء في المنظمة الأممية، تبقى واشنطن هي الدولة المضيفة للمنظمة وأكبر مساهم مالي فيها. وعلى صعيد مجلس الأمن، لطالما اعتمد الأميركيون على دعم العضوَين الدائمَين من أوروبا الغربية، وهما فرنسا والمملكة المتحدة، لضمان الحصول على غالبية الأصوات في مواجهة الصين وروسيا. أما إسرائيل، فعوّلت على استخدام الولايات المتحدة حق النقض لتفادي أيّ إدانة لأفعالها.

لكنّ الأميركيين باتوا اليوم في عزلة تامة في ما يتعلق بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. صحيحٌ أنهم لا يزالون يمتلكون حق النقض، غير أن الاستمرار في استخدامه لصدّ قرارات يوافق عليها جميع الأعضاء الدائمين الآخرين في المجلس، أو تجاهل أصوات الغالبية الساحقة من الدول الأعضاء في الجمعية العامة، سيضرّ بمكانة الولايات المتحدة السياسية. وسيُظهر أيضًا مدى ابتعادها عن الإجماع الدولي، بعدما كانت هي من يفرض هذا الإجماع طوال عقود.

وتبرز أيضًا بعض المشاكل الإجرائية المحتملة، كما أوضح السفير الأميركي السابق تشارلز فريمان. فقد ذكّر فريمان بأن الجمعية العامة تستطيع، في حال انسداد أُفق المداولات في مجلس الأمن، أن تجتمع في دورة استثنائية لتمرير قرار استنادًا إلى سابقة "الاتحاد من أجل السلام"، ما يتيح لها تجاوز حالة الجمود. هذا ما حدث خلال الحرب الكورية. ومع أن هذه القرارات غير مُلزِمة، فهي تضع الولايات المتحدة وإسرائيل في موقف حرج. لا بل إن اتّخاذ حليفَين قديَمين لواشنطن في مجلس الأمن، هما فرنسا والمملكة المتحدة، موقفًا مغايرًا للموقف الأميركي حيال القضية الفلسطينية، قد يسهّل على الجمعية العامة تكرار هذه السابقة.

من المآخذ الأخرى على قرار الاعتراف أنه لن يقرّب الفلسطينيين أكثر من إقامة دولتهم. ربما يكون ذلك صحيحًا، لكن ما يثير قلق الإسرائيليين، ومن يسهّلون لهم تحقيق أهدافهم، هو سابقة يفضّلون إبقاءها طيّ الكتمان اليوم، ألا وهي وعد بلفور. فعندما أصدرت بريطانيا الوعد في تشرين الثاني/نوفمبر 1917، كانت الإمبراطورية العثمانية لا تزال تسيطر على فلسطين. صحيحٌ أن انتصار الحلفاء كان مرجّحًا آنذاك، لكن الإمبراطورية لم تستسلم إلا بعد سنة. بعبارة أخرى، يمكن القول إن وعد بلفور حمَلَ هو الآخر بُعدًا استعراضيًا، خصوصًا أن الغالبية الساحقة من سكان فلسطين آنذاك كانوا من العرب. وقد حاولت بريطانيا لاحقًا التراجع عن بعض جوانب وعد بلفور في الكتب البيضاء الصادرة في 1922 و1930 و1939، لكنها عجزت مرارًا عن ذلك بسبب القوّة الكبيرة التي اتّسم بها الوعد الأصلي.

غالب الظن أنّ الفلسطينيين يجرون حساباتٍ مماثلة بشأن القرارات الأخيرة المتعلّقة بهم. فهم يرون أنّ الطرفَين الأشدّ معارضةً لقيام دولتهم معزولان، حتى في أوساط حلفائهما؛ وأن الخطوات الأميركية في الأمم المتحدة تُبقي المجتمع الدولي رهينةً في ما يخصّ فلسطين؛ وأن احتكار الولايات المتحدة لدور الوساطة في التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يعُد شرعيًا في نظر الكثير من الدول، ما يشير إلى أن تدويل الحلّ قد يحظى بفرصٍ أكبر للنجاح.

هذه هي الخلاصة الطبيعية للتفكير الأميركي منذ مسار أوسلو الذي مضى عليه ثلاثة عقود، والذي لم يهدف أبدًا إلى ضمان الحقوق الفلسطينية الوطنية. فأولئك الذين ندّدوا بالدول التي اعترفت للتوّ بدولة فلسطين يجادلون بأن هذه الخطوة تجعل السلام أبعد منالًا من أيّ وقت مضى. لكن هذا الادّعاء يثير الضحك، لأن السلام لم يكن يومًا ممكنًا فعليًا ضمن الشروط التي فرضها الأميركيون والإسرائيليون على مسار أوسلو المتعثّر. وعلى مدى عقودٍ من الزمن، كانت الصيغة التي فضّلتها إسرائيل هي إرساء كيانٍ فلسطيني أقلّ من دولة، لا يتمتّع بالسيادة ولا يملك شعبه اللاجئ حقّ العودة إلى أرضه، في ظلّ السيطرة الجغرافية والأمنية الإسرائيلية. وقد تبنّت الولايات المتحدة هذا الطرح بالكامل.

لقد أظهرت الخطوات الأخيرة في الأمم المتحدة أن الإطار الأميركي والإسرائيلي الذي كان يحكم المفاوضات السابقة قد تداعى. فالإسرائيليون، وعلى لسان نوّابهم، يجاهرون الآن صراحةً بنيّتهم ارتكاب التطهير العرقي بحقّ الفلسطينيين في غزة، ثم تطبيق النهج نفسه في الضفة الغربية. أيُّ سلامٍ يمكن أن ينتج عن ذلك، حتى يصبح تأجيل إقرار الدولة الفلسطينية خيارًا أجدى؟ ليس مستغرَبًا أن شركاء أميركا ما عادوا يريدون التورّط في الجرائم الإسرائيلية. فالتصويت على الاعتراف بدولة فلسطين أبعد ما يكون عن السخف، بل يشكّل أول لحظة من الحقيقة الصادقة في سياق المشهد الفلسطيني الإسرائيلي منذ أربعة عقود. وهذا بالذات ما أثار حنق إسرائيل وداعميها الأميركيين.

لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.